الموتى لا يبصقون الفورمالين

الموتى لا يبصقون الفورمالين

العدد 575 صدر بتاريخ 3سبتمبر2018

هل يمكن للمخدَّرين أن ينتفضوا؟ وإذا حدث ذلك هل يكتب لهم النجاح؟ هل يمكن للموتى أن يقطعوا أكفانهم السوداء التي لُحّفوا بها؟ أسئلة طرحها كاتب النص ومخرجه كامل كمال من خلال عرض «جرعة فورمالين» على مسرح قصر ثقافة بني سويف من تأليف وإخراج كامل كمال.
قام المخرج بتحويل المسرح إلى مستشفى دولي للأمراض العقلية التي تحتوي على مرضى مختلفي الطبقات - وإن كان لم يظهر إلا على مستوى الملابس فقط - والعلّات ومدير المستشفى أو صاحب السلطة الاستبدادية الممثلة في لفظة «كهربا» لإفزاع المرضى والإمساك بزمام الأمور وعلى مدار العرض تتجلى شخصيات المرضى، فهناك المضطرب جنسيا (المنافق) والممثل الباحث عن الشهرة، وشمشون الجبار صاحب والقوة، والصامتة الخائفة.
يتغير العرض ليسير في مستويين (عالم الجن وعالم البشر) مركّزا على تجربة العوالم الأخرى وأشكال ممارسة السلطة هناك ومدى مشابهتها أو اختلافها مع الشكل الدنيوي المقدم. على مدار العرض حاول المدير إيضاح مدى حرصه على رعيته - التي تجد أنت كمتفرج حالها سيء للغاية – ولكنك لا تملك سوى الرؤية والنظر إليهم فقط بل والتصفيق لهذا الطاغية عندما يطلب منك ذلك - وقد طلب بالفعل - في محاولة لكسر الحائط الرابع، وهذه الجزئية تعتبر أفضل ما في العرض من ناحية المعاني التي تحملها فقد أدخلك أنت كمتفرج في حيز هؤلاء المرضى الذين ينصاعون عند الأمر وأنت تنصاع مثلهم عند الأمر فكلنا مرضى مرؤسون من قبل مدير المستشفى، وفي كل عالم؛ فعلى الصعيد الآخر في مستوى عالم الجن قد نجح أيضا في تصوير خضوع الملبوسين لعالم الجن، ولن يمكننا أبدا أن نثور لأننا تحت سيطرة أنفسنا ورحمتها قبل أن نكون تحت رحمة الطاغية.
وإن كانت تلك الرؤية تبدو واضحة وجليّة إلا أن السياق الدرامي المعتمد على الحوار كان ضعيفا في توصيل تلك الرؤية من بداية العمل المسرحي حيث نجد السياق الحواري يشذ عن إطار الرؤية الخاصة بالنص المسرحي بشكل يقطع ذلك الخيط الدرامي الذي حاول المخرج عن طريقه ربط المسرحية ببعضها من خلال التناقض اللفظي والظاهري والإيفيهات التي كانت غير ذات معنى ولا تصب في الكوميديا بشيء إلا لاستيفاء فكرة أنه يعرض في مهرجان كوميدي.
“أهلا بيكم أعزائي المشاهدين” جملة تكررت على لسان المدير ومريض الاضطراب الجنسي أكثر من مرة لا لشيء إلا لكسر الحائط الرابع بين المسرح والجمهور في شكل فج وكأنه لا يوجد وسيلة غيرها؛ حتى أحس المخرج بهذا فتدخل في المسرحية عن طريق المايك الخارجي ليأمر مدير المستشفى بالرجوع للمسرح مرة أخرى بعد تخليه عن تقديم المرضى، ولكن ذلك التدخل لم يعطِ أي معنى لأنه كان غير موظف بشكل صحيح، بل قطع السياق الدرامي بالكلية وكان من الأفضل الاستغناء عنه وعندما بدأت الدراما في البروز بشكل ذي قوة في بداية نبتات التمرد التي كانت أول شرارة لها عند انقطاع الأكل فقط أما قبل ذلك لا يمكن التعويل عليه لأن المرضى لم يشعروا بالديكتاتورية الممارسة عليهم من قبل.
بدأ المرضى التمرد وخرجوا في ثورة في نصف دقيقة من العرض بدون أي تمهيد مسبق. وإذا تناولنا الحدث الكلى من خلال العنصر الأهم وهو الممثل فإن إسقاطات المخرج على الممثلين خرجت بهم إلى حيز أكثر قبولا للتأويل وإن كان أقواها التأويل السياسي إلا أنه فشل في جعل تلك الإسقاطات تخرج من الممثلين بانفعالاتهم الذاتية لعدم انفعالهم في الحقيقة بها والذي نتج عن عدم قوة النص كفاية، فتجد النص الحوارى متذبذب بين عدة مذاهب واتجاهات مسرحية فلا تدري فعلا إذا كانوا هم إسقاطات أم هم مرضى فعلا، فهم تارة إسقاطات وتارة أخرى حقيقيين؛ مما سبب ارتباك حتى لبعض الممثلين أثناء العرض في دخولهم وخروجهم من على خشبة المسرح.
لم يتمثل الديكور إلا في الخشبة المسرحية مجردة وعارية إلا من منصة متوسطة الحجم في منتصف القسم الخلفي من المسرح وكرسي في وسط المسرحية تاركا المساحات الفراغية غير مستغلة وإن حاول ذلك باستخدام توزيعات الممثلين على الخشبة ولكنها كانت توزيعات غير ذات فائدة وغير معبرة دلاليا إلا في مشهد وحيد في ذلك العالم الموازي للجن وأثناء محاولة المريضة الملبوسة وأصدقائها التحضير، وإن كنت أرى أن وضع اثنين من الجن مصاحبة لملك الجان غير ذات فائدة إطلاقا إلا لملء مساحات جانبية وصنع «فرجة» ومن الممكن الاستغناء عنهم تماما.
وحاول أيضا ملء ذلك الفراغ بالإضاءة، فمثلا تجد إضاءة المستشفى تمثلت في ثلاثة ألوان تغطي المسرح بالكامل وكلها ذات دلالات متراتبة فاللون الأصفر للدلالة على المرض الداخلي أو الجو النفسي الخاص بالأمراض والأخضر للدلالة على المرض الجسدي الذي ينتج عن المرض الداخلي فسيطرة النفس الممثلة في المرض الداخلي أدت إلى نجاح السيطرة الخارجية الممثلة في المرض الجسدي المشلول عن الحراك الفعال والثورة بسبب الخوف المتمثل في اللون الأحمر وإن كان توظيف اللون الأحمر مبالغا فيه، خمس دوائر حمراء تعمل في ذات الوقت جعلتها تتجاوز الدلالة لألوان متناثرة هنا وهناك من أجل ملء الفراغ فقط. كما أن تعدد مرات إعتام المسرح لدخول وخروج الممثلين كان يتم بشكل فج وكأننا في لعبة «طفّي النور»، أما غير ذلك فقد وجودت الإضاءة العادية فقط.
الافتتاحية والختام على الموسيقى وإن كان الصوت بشكل عام غير جيد. وقد ساهمت السينوغرافيا بشكل جزئي في صناعة الزمان المسرحي في مشاهد محددة منها مشهد التحضير للجان للذهاب للعالم الآخر ولكن في استكشاف استعراض الحالات مثلا لم تنجح السينوغرافيا في صناعة الزمان المسرحي الصحيح موضعه في مكانه والإضاءة نفسها ظلت واحدة في ظل وجود أكثر من زمان مسرحي على الخشبة في ذات الوقت مما أفسد تلك الأزمنة وساعد على تداخلها وقد استقبل الجمهور كل هذا في حالة من الملل نتيجة للرتابة والتكرار وضعف النص الدرامي في توصيل الأفكار فرغم كسر الحائط الرابع شكليا فإن الجمهور ظل بعيدا عن المسرح غير قادر على التفاعل فعليا.

 


محمد عصام رؤوف