«الخروج إلى النهار ترنيمة الصحراء» صياغة للغات فنية متعددة في تناغم بوليفوني

«الخروج إلى النهار ترنيمة الصحراء»  صياغة للغات فنية متعددة في تناغم بوليفوني

العدد 856 صدر بتاريخ 22يناير2024

تحت رعاية كريمة من صاحب السمو/ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى وحاكم الشارقة الذي يهتم اهتماما لا محدود بالمسرح، وفي إطار ليالي مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي – الدورة السابعة – وفي الليلة المصرية قدمت فرقة المسرح الصوتي العرض المسرحي الخروج إلى النهار ترنيمة الصحراء، رؤية وإخراج انتصار عبد الفتاح، وكتابة الحوار متولي حامد والفنان الحقيقي الذي يصل إلى العالمية هو الفنان الذي يقدم فنه من واقع بيئته المحلية، وهو الفنان الذي يتميز بالثقافة والموروث الشعبي، وانتصار عبد الفتاح واحد من هؤلاء الفنانين الذي يقدم عروضه المسرحية المستلهمة من الثقافة  والموروث الشعبي المصري بصور متعددة؛ تخرج عن إطار النمطية والتقليدية، ويمزجها بتقنية الأداء الحديث، فهو يتحرر من قيد الخصوصية، ويقدم ما يحمل سمات مشتركة غالبة في كل الثقافات الإنسانية، باحثاً عن سياق فني جديد يعبر عن أزمة الإنسان، والتي تنعكس على الإنسان الذي يحيا في العصر الحديث.
تعتمد فلسفة عروض انتصار عبد الفتاح على مفهوم المسرح الصوتي (البوليفوني)، والذي سعى لتأسيسه، والتعامل مع الصوت بجميع أشكاله وأنواعه، كظاهرة أساسية وحيوية لتفسير المعاني وإعادة صياغتها من جديد.
كلمة البوليفونية هي الترجمة العربية للمصطلح الأوروبي بوليفيني (Polyphonie) والذي يرجع للأصل اليوناني المكون من كلمتين (Poly) وتعني الكثير أو العديد، وكلمة (Phonie) وتعني الصوت. وبذلك يكون معني الكلمتين العديد من الأصوات، والبوليفونية مصلح موسيقي يعني مزج نغمتين أو أكثر من طبقات صوتية مختلفة بحيث تسمع في لحظة واحدة، ويكون المقصود من تلك البوليفونية هو الانفلات من الصوت الواحد والرؤية الواحدة والانفتاح على لغات متعددة ومختلفة.
يعتمد انتصار عبد الفتاح على أصوات حية وأدوات بسيطة تستخدم في حياتنا اليومية لتصدر أصواتاً معينة تتناسب مع ما يقدمه في العرض المسرحي الذي يوضح فكرته، ويقوم بعمل سيناريو خاص للعرض محسوب بشكل دقيق ليعبر عما وراء الصورة المسرحية، ومن هذه الأصوات الحية أصوات يصدرها الإنسان مثل الآهات والهمهمات أو صوت دقات القلب، أو أصوات طبيعية مثل أصوات الرياح والبرق والرعد، أو أصوات لمقتنيات نستخدمها في حياتنا اليومية مثل القبقاب أو الصينية النحاسية والطشت، بجانب الصمت أو السكون الذي يعمل على تفتيته كبعد صوتي، فالصمت المفاجئ على أغلب الظن أكثر مهابة من العاصفة والرعد، أو الصوت من السكون المطبق يكون أكثر تأثيراً في قلوبنا، فالأصوات المتعددة لكل منها دلالة في المعنى ومنها التي تعبر عن الاضطرابات والصراعات النفسية الداخلية، كما تعكس عنف بعض المواقف فتخلق حالة من التشظي والتباس المعنى، كما أنه يهتم أيضاً بالصورة للعرض المسرحي فأعماله يمتزج فيها الصوت بالإيقاع بالجسد بالصورة في تناغم بوليفوني، ليقدم سيمفونيته البصرية الصوتية تجسيداً للمسرح البوليفوني.
قام انتصار عبد الفتاح بعمل كولاج لثلاثة عروض مسرحية سبق وأن قدمها وهذه العروض هي: ترنيمة 1 سنة 1991م، ترنيمة 2 سنة 1997م، الخروج إلى النهار سنة 2006م، وقدم عرضه المسرحي الجديد الخروج إلى النهار ترنيمة الصحراء، وتدور فكرة العرض حول الانتظار، انتظار شيء ما، هل سيأتي أو لن يأتي؟
يبدأ العرض بصوت الرياح كمقدمة للعرض ثم يدخل في الأحداث والتساؤلات والدراما غير النمطية، ثم يعود مرة أخرى لصوت الرياح، وصوت الراوي (صوت مسجل للراحل الدكتور هناء عبد الفتاح) وتسلم أصوات الرياح الأداء للخال والخالة وهم لا يزالان يرددان نفس السؤال (الخالة: سيأتي، الخال: لن يأتي، الخالة: سيأتي) وهي جملة تقريرية للخالة، فالرجل دائما يفكر بعقله؛ أما الأنثى فتفكر بالعاطفة فالانتظار والأمل لديها أقوى من الخال، ولذلك نجد أثناء العرض لا يلمس الخال الشاب، ولكنه يشعر بقربه فقط، لكن الخالة تشعر بقربه وتضع يدها على كتفه، وذكر في العرض على لسان الممثلين بعض الكلمات مثل نبتة والنيل، وكذلك بعض اللمحات من رقصات تنتمي للحضارة المصرية القديمة فهي محطات يؤكد فيها المخرج على التراث المصري بجميع أشكاله.
 استعان المخرج بعدد من الشخصيات منهم الخال (سعيد صديق) الجالس في الصحراء ويستمد منها حكمة ومفهوم الصحراء، والخالة (عايدة فهمي) التي تعيش في الصحراء وتقوم بتصنيع الفخار، والشاب (هاني عبد الحي) الذي ينتظره الخال والخالة الذي لم يأتِ، لكن الخال والخالة شعرا به فأتى الشاب أملاً وطموحاً في تغيير الواقع، والخروج إلى النهار، بمعنى استمرارية الحياة الدنيا للأفضل، وأضاف إليهم سيدة الصحراء (آن توماس) التي تؤكد على عالم الصحراء وتجيء في لحظات لتربط الحكاية وما في عمق الصحراء من أسرار، وحاول المخرج من خلال الأربعة شخوص اكتشاف لغز الصحراء وهل من الممكن أن تبوح لنا الصحراء بأسرارها، كما استعان بأربع فتيات (نهى مندور، نسمة عادل، فيروز عبد الفتاح، آية أحمد) يمثلن الرياح الأربعة شمال، جنوب، شرق، غرب، ومن خلال العرض تشعر أن إحداهن الزوجة، والثانية تحمل الماء المقدس، والثالثة تحمل الرداء المقدس، والرابعة هي التي ترى بعيون الصحراء فتقوم بتكحيل الشاب، ويقفن جميعا في ممر نطلق عليه الممر المقدس، وتظهر مجموعة من الأشخاص رجال ونساء قادمين من بعيد، من فوق الجبل نطلق عليهم حراس الصحراء يحملون أسرجة مضاءة أو فوانيس إضاءة، فهم كالجوقة في المسرح الإغريقي، وأعتبرهم شهوداً على الحدث، وهم أحد المكونات الأساسية للعرض، وقد ظهروا بهذه الصورة لأن العرض مس شيئاً ما بداخلهم، وخرجوا من الظلام إلى النور، ومشوا جميعاً في الممر المقدس.
كان الديكور عبارة عن أريكة (دكة) وضعت على يمين مقدمة مكان العرض يجلس عليها الخال دائما، وجلست عليها الخالة والشاب أيضا وعلى يسار المقدمة توضع بعض قطع الفخار وخلفها منضدة مصنوعة من الخشب بها بعض الفتحات على شكل مستطيلات تمثل ماكينة صناعة الفخار وتجلس خلفها الخالة، وخلفها في العمق نخلة، وتستخدم منطقة الوسط كممر لنزول الشاب وسيدة الصحراء إلى المقدمة حيث وجود الخال والخالة، وكذلك تنزل منها الفتيات ولكنهم يقفن عن موضع معين وهو ما أطلقنا عليه الممر المقدس.
أما الملابس (محمد الغرباوي) فارتدى الخال جلبابا ذا لون بني وطاقية سوداء ربط عليها عمامة بيضاء وكوفية بنية بلون أغمق، وارتدت الخالة جلبابا بنيا وعلى رأسها طرحة بني أفتح قليلاً، وارتدي الشاب بنطلونا وما يشبه السترة ذات لون سكرى، أما الفتيات وسيدة الصحراء فارتدين جلبابا ذا لون أبيض، والتي تشعر لوهلة أنها تشبه ملابس الحضارة المصرية القديمة لكنها لا تشبهها في الوقت ذاته، والذي أوحى بذلك عندما قامت الفتيات بتنفيذ بعض الحركات الراقصة التي تحمل في طياتها الدمج بين التراث من الحضارة المصرية القديمة وواقعنا المعاش الآن،  وهذه الملابس تعبر عن لون رمال الصحراء المختلفة بداية من اللون البني الغامق إلى لون الرمال البيضاء، كما يؤكد اللون الفاتح (السكري والأبيض) لتفسير الأمل والتفاؤل بما هو قادم.
كانت الإضاءة (ياسر شعلان) معبرة عن الحالة الدرامية كما أضافت بعدا جماليا على الصورة المسرحية، في تداخل درامي بصري صوتي يعكس رؤية المخرج البولفونية وما بعد الحداثة، وكانت مصادر الإضاءة مباشرة وغير مباشرة، وكان تغيير الإضاءة دائما مع الدراما الموسيقية وبنفس سرعة الموسيقى، واعتمدت خطة الإضاءة على اللون الأبيض والأزرق والبرتقالي، وتم توزيع كشافات الإضاءة في العمق وخلف النخلة وبين الأواني الفخارية، كما تم وضع بعض الكشافات في المنطقة الأمامية المقابلة للممثلين في محاذاة مدرجات جلوس الجمهور، وفي بداية العرض أسقطت منها إضاءة ذات اللون البرتقالي على الخال الجالس على الأريكة (الدكة) فهو شخصية قوية حكيمة عقلانية تعبر عن الخبرة والتاريخ ثابتة على الأرض واضحة تماما مثل وضوح الشمس فكان لا بد من تركيز الضوء عليه تماماً، وبلغة السينما كان في النت، أما الخالة فهي سيدة مسنة تنتظر الأمل تفكر بقلبها ولديها الحب والعاطفة والإصرار فأسقط عليها اللون الروز الخفيف، وبلغة السينما فهي في الفوكس، كما أسقط عليها اللون الأزرق وهي تعمل على آلة صنع الفخار، فهي تعمل دون أن يشعر بها أحد حتى الخال الذي يجلس معها في نفس المكان، فهي تعمل ولكنها تنتظر الأمل، وعند كلمة هناك نجد الشاب ينزل من أعلى الجبل ومعه سيدة الصحراء والفتيات خلفهم في إضاءة ذات لون أبيض كانت مثبتة في قمة الجبل، فقد رمز للشاب المنتظر بأنه المخلص الذي سيأتي بالأمل وتحقيق الحلم، لكننا لا نعلم ماذا سيفعل، فهو شيء غامض لكنه في نفس الوقت شيء نوراني ولذلك كانت شدة لون الإضاءة الأبيض الباعثة على الحياة الممتلئة بالأمل، وفي أحيان أخرى تخفت هذه الإضاءة البيضاء خاصة عندما يقف الشاب وسط الخال والخالة في وسط المسرح، فهي حالة عدم اليقين، فالخالة تشعر به، لكن الخال لا يشعر بوجوده، وكانت الإضاءة غير المباشرة على الفتيات سقطت عليهم من كشاف وضع بجوار الفخار بعد ظهورهن ووقوفهن (في الممر المقدس) على مسافة من الشاب الذي استكمل طريقه ونزل إلى الخال والخالة، وقد ظهرت الفتيات كالتماثيل، كما أسقطت الإضاءة وبشدة على الفتيات لتحقق وجود كل فتاة أثناء تقدمها من الشاب وحديثها معه، فعندما تضع إحدى الفتيات الطعام في فم الشاب؛ تصبح الإضاءة كضوء الشمس، تأكيداً لذكر كلمة الشمس، كما يظهر انعكاس الضوء علي الجبل ليظهر الرمال والصحراء بقساوتها، وعند الحديث عن الماء والوادي وعن النبتة يسقط اللون الأزرق المعبر عن المياه، وكان دائما تسقط إضاءة ذات لون أزرق على سيدة الصحراء التي كان وجودها تعبيراً عن بداية الإشارة بالكلام لكل من الخال والخالة، كما تم إسقاط الضوء على النخلة من أسفل لأعلى مما يوحي بقوة وشموخ ورسوخ النخلة وهي تضرب بجذورها في عمق الأرض بالصحراء، كما وضع خلف النخلة كشاف إضاءة يسقط لونا أبيض على الشاب أيضاً في لمحة بأن الخير والأمل سيأتي من هذه النخلة، وفي لحظات قبل انتهاء العرض نرى بعض البشر يحملون في أيديهم أسرجة مضاءة (مصابيح إنارة مثل القنديل أو الفانوس)، فهؤلاء البشر خرجوا من الظلام إلى النور وساروا في نفس مسار الشاب.
أما الصوت (مينا العريان) والموسيقي فقد سمعنا صوت أداء الممثلين وكأنه صوت غير مسجل فكان يسمع بعمق، فيه الحميمية مع الجمهور، والصوت هو ما يشكل الحركة، فالصوت عموماً هو ما كان يولد ديناميكية الحركة سواء كان صوت ممثل أو آلة أو موسيقى فقد استخدمت أصوات عديدة وظفها المخرج دراميا مثل صوت البشر في الغناء دون عزف موسيقى، والرياح، والقباقيب، والجرس، وبعض الآلات الموسيقية مثل الطنبورة النوبي، والطبلة، وبعض كلمات الأغاني الشعبية من بلاد الشام مثل (يايما حس الفرح في دار خالي... ياما رماني هواه وغير لي أحوالي)، وقد تداخلت الموسيقى والغناء من بيئات مختلفة، وهو ما يؤكد ابتعاد المخرج عن فكرة الالتزام بالتراث والمحلية والانفتاح على العالم الخارجي، وقام بتوليف ذلك وقدمها في عدة أصوات ومستويات؛ لرسم صورة سمعية حسية، وهذا يؤكد على فكرة أن عروض انتصار عبد الفتاح المسرحية تعتمد على التواصل مع الإنسان في كل مكان فهي تحمل سمات مشتركة غالبة في كل الثقافات الإنسانية.
في النهاية نستطيع القول إن المخرج انتصار عبد الفتاح قدم لنا عرضاً مسرحياً ينتمي إلى مسرح ما بعد الحداثة، مستغلاً الصحراء التي تمثل الأرض بسهولها وجبالها ووديانها، ووجود نخلة تعبر عن الزرع وتظلها السماء، وتصفر فيها الرياح الأربعة (شمال، جنوب، شرق، غرب) هنا وهناك، كفضاء مسرحي، معبراً عن الفضاء الكوني، قدم فيه موضوعا ما برؤيته الخاصة مستدعياً التصوف الفلسفي مؤكداً على طبيعة الحياة الروحية مستخدما (لغة الجسد، لغة الصورة، تعدد الأصوات)، مرتقياً بالذائقة الجمالية لفنون ما بعد الحداثة؛ لخلق حالة مسرحية مكتملة، أفرزت عملية الانصهار بين الموضوع الذي يتم تلقيه والذات المتلقية؛ مما أعطى تفسيرات متعددة لدى المتلقي.
شارك في العرض مخرج منفذ (محمد بكر)، مساعدو الإخراج (عماد حسن، أسامة جميل، أحمد راضي)، إدارة مسرحية (قيثارة عبد الفتاح)، المديرة الإدارية (سهام إسماعيل).
التحية واجبة لسمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى وحاكم الشارقة، وسعادة عبد الله بن محمد العويس رئيس دائرة الثقافة بالشارقة ورئيس المهرجان، والفنان أحمد أبو رحيمة مدير إدارة المسرح بالشارقة ومدير المهرجان، والناقد عصام أبو القاسم عضو اللجنة العليا للمهرجان وكل أعضاء اللجنة العليا للمهرجان وكل من شارك في خروج هذا العرض إلى النور.


جمال الفيشاوي