غــيبــــوبــــة حــب ما بيـــن الحيــــاة والمــــــوت

غــيبــــوبــــة حــب ما بيـــن الحيــــاة والمــــــوت

العدد 828 صدر بتاريخ 10يوليو2023

أن أشد ما آثرنى فى العرض المسرحى «غيبوبة» هو دموع العجائز من حولى فى الصالة بمقاعد المتفرجين فى مشهد النهاية، حين تودع لورا حبيبها الكامن فى الغيبوبة بعدما عادت هى إلى الحياة برقصة روحانية كان قد علمها إياها من قبل بالفندق، بينما هو على الجانب الآخر يسمعها ويراها باكيا متأثرا فى مكان ما فى العالم الافتراضي، ولكنه لا يتمكن من التواصل معها أو ملامستها أو محادثتها حيث العجز التام والكامل . 
فكل منا فى ذاك المشهد الصعب والمؤثر بكى وتذكر مع هيبة الموت عزيز لديه قد فقده سواء إن كان حبيب أو أخ أو أب أو صديق بعد دخوله فى الغيبوبة على حسب درجة المعرفة والقرابة لديه، حيث انعدام التواصل والكلام مما يجعلنا فى حنين دائم إلى الذكريات آملين عودته من جديد لنستكمل معه رحلة الحب والحياة . 
العرض المسرحى «غيبوبة» لفرقة قصر ثقافة عين حلوان المسرحية، ضمن فعاليات الموسم المسرحي بالهيئة العامة لقصور الثقافة.
 «غيبوبة» هو عرض مسرحى مأخوذ عن النص المسرحى «فندق العالمين» للكاتب الفرنسي إيريك إيمانويل شميت، وهو كاتب معاصر تأثر كثيرا فى كتاباته بفلسفة جان بول سارتر الوجودية، قام ياسر أبو العينين بعمل الدراماتورج له برؤية مبسطة وملائمة لطبيعة جمهور المتلقى ولفكرة ورسالة العرض المسرحى المراد نقله له ألا وهى فكرة الاختيار ما بين الحياة والموت وفلسفة الموت والحياة وما ورائهما، والعرض من اخرج حسام التونى الذى تناوله أيضا برؤية جديدة ومختلفة عما تناولها الآخرون مما سبقوه . 
تدور فكرة العرض فى إطار عبثى مبنى على الفلسفة والخيال عن أحوال مجموعة من نزلاء الفندق المسمى بفندق العالمين، فندق تسكنه الأرواح التائهة الحائرة ممن هم في حالة الغيبوبة أي بين الحياة والموت، مع اختلاف أسباب مجيئهم إلى الفندق ما بين أسباب مرضية أو حوادث قدرية، وتتلاقى فيه الأرواح من مختلف الطبقات والأطياف، ومن خلال شخصيات متقنة الرسم كأنها تنبض بالحياة على الورق، يأخذنا الكاتب في رحلة فائقة المتعة مليئة بالتساؤلات الفلسفية عن الحياة ومعناها، عن فائدتها رغم علمنا بأنها إلى زوال، هل قرار الحياة أو الموت من حقنا؟، ما هو الموت؟، وما هو عالم ما بعد الموت؟، أين يذهب من يدخل في غيبوبة مطولة؟، ما العالم الذي يسافر إليه المريض النائم على طاولة العمليات وهو تحت التخدير لساعات؟ ماذا لو كان هناك عالم ثالث يقع بين العالمين؟، عالم تلك الأوقات التي يكون فيها البشر بين الحياة والموت، وهل تعود الروح لأجسادهم لتكمل رحلة الحياة أم تصعد للسماء واضعةً نقطة النهاية؟ .. وبين كل من هذه الأسئلة الفلسفية على هامش القصص المختلفة للأبطال وبما تحمله من شجن وحزن تدور أحداث العرض المسرحى، ويكون الربط ما بين المستشفي التي تتواجد فيها الحالات وذلك الفندق يتم بواسطة مصعد متحكم في دخول أو خروج النزلاء من الفندق، ومع تتابع الأحداث تتضح الذكرى الأخيرة لكل شخصية بالفندق .
أحسن المخرج حسام التونى اختيار ممثليه من خلال الدمج بين شباب الهواة مع المحترفين الكبار أمثال سمية الإمام وياسر أبو العينين، وهو ما ساعد على إعطاء الثقة للجدد من خلال خبرات المحترفين، فجاء التمثيل بالعرض فى أبهى صوره من الأداء المتقن والإحساس المتفرد بفحوى رسالة العرض المسرحى، فرأينا آية خميس من قامت بدور «دكتورة أس» فى أوج تألقها والتى تقوم باستدعاء الشخصية المطلوبة للحياة أو الموت مع مساعديها على الصباحى وميرنا موسى، بعدما تقوم بأمرهم بالإجبار من خلال أوامر عليا خفية لم يذكرها الكاتب بدخول الأسانسير لتحديد مصائرهم، حيث الإشارة الحمراء للأسانسير تعنى الموت والصعود إلى السماء، بينما الخضراء تعنى الهبوط للأرض والعودة إلى الحياة من جديد، وبتعليمات من مخرج العرض أتقنت آية كاركتر معين للشخصية يشبه الروبوت فى الحركة والكلام، للدلالة على أنها شخصية ليست بشرية وهى دلالة واضحة ولكنها مستهلكة وغير مبتكرة، أما بخصوص نزلاء الفندق من مرضى الغيبوبة فنرى هنا ضياء الصادق أحد أفضل ممثلى العرض المسرحى من قام بحرفية عالية بتقمص دور «جوليان بورتال» ذاك الشخص الذى وجد نفسه فجأة فى ذلك الفندق بعد حادث تصادم بسيارته حينما كان فى حالة سكر دخل على أثره فى غيبوبة، ولم يتعرف على المكان إلا بعد دخوله بمدة معينة، وهو شخص ملحد يقع فى حب فتاة تدعى «لورا» من قامت بتجسيدها مريم جبريل بإحساس خيالى أجادت فيه استخدام الذاكرة الانفعالية فشعر المتلقى بتطابق بينها وبين الشخصية وكأن كلاهما واحد، تلك الفتاة القعيدة مريضة القلب التى وجدت نفسها بالفندق أيضا بعد دخولها فى الغيبوبة وقد أهداها «المنجم راجابور» أحد نزلاء الفندق قلبه بعدما اختار أن ينزع الأجهزة منه ويفارق الحياة، ولكن بما أن كل من يدخل ذاك الفندق العجيب الذى يمثل مكان انتظار مؤقت يتحدد من خلاله أي من العالمين سيكون مصيرك الحياة أم الموت، تجد نفسها بصورة مغايرة تماما غير الصورة التى كانت عليها قبل دخوله، فهنا تجد لورا نفسها تطير كالفراشة وتتحرك هنا وهناك بكل خفة منطلقة وسعيدة وكلها طاقة وبهجة وحيوية، مما يتسبب ذلك فى وقوع جوليان فى حبها بجنون، فتتحول شخصيته إلى النقيض تماما من شخص يتصف باللامبالاة وعدم الإقبال على الحياة إلى شخص مسئول ومتزن بعدما استطاعت لورا أن تستغل حبه وتعلقه بها فى تغيير نمط حياته تماما، مما يجعله يحلم بالبقاء معها فى أي مكان يتحدد فيه مصيرها سواء أن كان بالدنيا أو العالم الآخر، وقد وضع الكاتب أيريك شميت هنا لقصة حب جوليان ولورا نهاية مفتوحة براويته «فندق العالمين»، بأن أحاط الغموض بمصير جوليان أمام المتلقى عند دخوله الأسانسير بأن جعل كلا من الإشارة الحمراء والخضراء يضيئان معا، وكأنه أراد أن يقول لنا أن مصير ذلك الحب سيظل معلقا بين الحياة والموت على أمل العودة من جديد، ولكن الدراماتورج ياسر أبو العينين كان له هنا كلمة أخرى بأن أراد أن يضيف بعدا آخر لهذه الراوية، بأن أضاف مشهد آخر بعد دخول جوليان للأسانسير يعطى نفس ذات المعنى الذى أراده الكاتب الفرنسى، ولكنه يضيف تأثيرا أقوى نفسيا وبصريا على المتلقى، كما يعد أيضا بمثابة تيسير للفهم على المتلقى العادى غير المفكر أو العميق فلسفيا، وقد دعم التونى مخرج العرض ذاك المشهد برؤية إخراجية جمالية تساعد المتلقى البسيط على الفهم والتأثير العاطفى الأقوى فى آن واحد، بأن رأينا من امامنا مصير جوليان بعد دخوله الأسانسير وهو مستلقى فى غيبوبته على سرير المستشفى بالأجهزة والمحاليل، بينما تحوم روحه من حول حبيبته لورا التى قد أختار لها القدر الحياة والهبوط إلى الأرض ولكنها لا تستطيع أن تراه أو تشعر به، بينما هو ايضا فى ذات الوقت يراها ويسمعها ولكنه لا يستطيع محاورتها او ملامستها حيث أن كل منهم فى عالم نقيض الآخر، لورا فى عالم الحياة وجوليان فى عالم آخر معلق بين السماء والأرض، كما أستطاع محمود البيطار فى دور «المنجم راجابور» أن يرسم البسمة على وجوه جمهور المتلقى بخفة ظله وقفشاته الكوميدية حيث انه يمثل الخط الكوميدى الوحيد بالعرض المسرحى، راجابور كان يشغل وظيفة بسيطة هاجر على أثرها إلى أمريكا وهناك حدث له تحول بعد مرض ابنته ووفاتها بعيدا عنه، مما جعله يحترف مهنة التنجيم ومن ثم إصابته غيبوبة سكر ليجد نفسه فى ذاك الفندق الذى يجمع جميع من فقدوا وعيهم، كما نجد ياسر أبو العينين فى دور «الرئيس دلبيك» وهو ثرى ورئيس لثلاث شركات، وجد نفسه فى ذلك الفندق بعد أن صدمه شخص مستهتر مخالف للقانون بدراجة كان يقودها على رصيف المارة، وقد وضح من خلال أداء أبو العينين للشخصية انه يعتمد على استذكار الشخصيات أكثر من تقمصها نتيجة ثقافته وحبه للقراءة والإطلاع فأحسن أداء الشخصية جيدا من الخارج، هناك أيضا سمية الإمام فى دور « الخادمة مارى مارتن» وهى إنسانه بسيطة لم تنال قدرا من التعليم وبالتالى ضعيفة الإيمان دوما تتساءل بالفندق عن ماذا بعد الموت؟، وقد أتقنت سمية الإمام أن تنقل تلك البساطة والمحدودية للشخصية التى تلعبها لجمهور المتلقى من خلال أدائها الفطرى البسيط بما يتناسب مع طبيعة الكاركتر المرسوم .
الديكور لناردين عماد كان من المفترض أن يأتى غير تقليدى بما يناسب فكرة المكان الأسطورية أو لنقل الروحانية ولكنه جاء أشبه بالواقعية، أما الأزياء لها فجاءت ملائمة لطبيعة كل شخصية ووظيفتها وجنسية بلدها، ولكن فى ضوء الإمكانيات المحدودة لميزانية العرض المسرحى نستطيع أن نقول انه قد وفقت ناردين عماد إلى حد ما فى تأدية الغرض المطلوب من فكرة العرض المسرحى .
فكرة العرض المسرحى «غيبوبة» تتيح له أن يعرض فى قاعة مسرح مغلقة أو مكشوفة على اعتبار انه مكان معلق بين السماء والأرض، وبالتالى نظريا ساحة الهناجر جاءت مناسبة ولكن عمليا تحتاج إلى ديكور مغاير تماما غير الذى شاهدناه بالعرض المسرحى بعكس لو كانت القاعة مغلقة، كما إنه لم يتم إعدادها وتهيئتها بالشكل الكافى من قبل مصممة الديكور ليشعر فيها المتلقى انه جزء من العرض أو ممن ينتظرون دورهم فى دخول ذاك المكان، كما أن المسرح لم يكن فيه الموتيفات التى تتيح للمتلقى الرؤيا المناسبة للعرض، فجاء جميع جمهور العرض على مستوى واحد مما أثر فى المشاهدة وربما كانت الإمكانيات هى السبب، لذا من موقعى هذا أمنى النفس بأن يكون لوزارة الثقافة نظرة اهتمام بمسرح قصور الثقافة فى زيادة المخصصات المالية لهذا القطاع الهام الذى ينافس مسرح الدولة أحيانا بمستوى ما يقدم من عروضه .
الأشعار لأحمد زيدان هى أحد أهم العناصر التى ساهمت فى نجاح العرض المسرحى لما فيها من عذوبة ومشاعر مرهفة خففت من ثقل موضوع النص الفلسفي ورهبة فكرته على قلب جمهور المتلقى، كما جاءت الأشعار جديدة فى طرحها وعبرت بشكل كبير عن الفكرة الفلسفية للعرض وأضافت له من خلال قصة الحب العبثية والغير تقليدية بين أثنين محبين لم يلتقوا الا فى عالم ما بين الحياة والموت، فوجدنا زيدان يتساءل من خلالها فى أبياته الشعرية، هل من الممكن أن يكون هناك حب بالفعل فى العالم الآخر :
كيف يمكن للقلوبِ بعدَ موتٍ أنْ تُحبْ ؟
كيف يصبحُ فجأةً للموتِ قلبْ ؟
ثم طرح تساؤلا آخر عن إمكانية خلود هذا الحب الكامن فى عالم الغيب من عدمه، ومن ثم أعطى الأمل بعدها والأسباب التى تضمن له البقاء حتى لو مات المحبين فسيظل القلب يخفق حتى لقاء آخر فى عالم آخر ما بعد الموت أجمل وأنقى يجمع شمل قلوبهم مرة أخرى : 
هل ُسيبقى الحبُ أبداً أم سيفنىْ ؟
يكفي أنً .. قلبي اُلمحزون غنىْ
لا يهم متى التقينا أو إلى أين َالطريقْ ؟
الزهورُ بطيبِ قلبكِ سوف تهدينا الرحيقْ
آن للقلب الرقيقِ أن يدقَ 
وأن يُحِبْ .
لذا نجح زيدان بشكل كبير فى وضع الكلمات التى تصل إلى قلب المتلقى وعقله بشكل مبسط بالرغم من فلسفة الفكرة وصعوبة إدراك العقل البشرى لها وطرحها باللغة العربية الفصحى تلك اللغة الأصعب على الممثل والمتلقى معا . 
فى الغالب لا تكتمل جمال الكلمة وشعور المتلقى بها إلا باللحن والصوت الذى يجيدان التعبير عنها، فجاءت الحان زياد هجرس مع توزيع مصطفى حافظ وبصوت المطربة الواعدة صدفة وما تملكه من إحساس دافئ لتعطى للكلمات رونقا وجاذبية تجعل كل من يسمعها يتفاعل معها ويظل يرددها حتى بعد نهاية العرض . كما أضافت الإستعراضات لمحمد بحيرى خلودا فى ذاكرة المتلقى لتلك الكلمات والألحان والصوت الشجى من خلال إنسيابية ورومانسية الحركة فيها وكأنها كليب غنائى لأثنين من العشاق .
نخلص من كل ما سبق ،،، أن العرض المسرحى «غيبوبة» هو عرض ينتمى إلى مسرح العبث وفلسفات ما بعد الموت، وفكرة الغيبوبة والبحث فيما ورائها، هل هى غياب الجسد ولكن تظل الروح يقظة وتعى ما حولها ؟!، هل هى ترمى إلى ما وراء السطور حيث تغييب العقل عن الحقائق لنظل نعيش فى عالم من الزيف والخداع ؟!، حقيقة هو عرض مسرحى يستحق التأمل والبحث، تنافس فيه جميع الممثلون فى عزف أعذب ألحان الأداء التمثيلى، كما ساعدت الإضاءة لأحمد أمين فى استثارة مشاعر الممثلين وإبراز جماليات التكوين المسرحى، والأشعار لأحمد زيدان على ألحان زياد هجرس وبصوت صدفة نجحوا فى تأكيد فكرة الاشتياق والغياب القهرى، فقط أرى أن العرض كان من الممكن أن يختزل فى وقت أقل حيث هناك عدة مشاهد متشابهة ومكررة، كذا هناك مناطق كثيرة من الديكور لم تستغل فى الأداء الحركى وكان من الممكن الاستغناء عنها تماما، وفى النهاية من وجهة نظرى النقدية قدم كلا من حسام التونى كمخرج وياسر أبو العينين كدراماتورج رؤية فلسفية بديعة لعرض مسرحى محكم ومنضبط سواء على مستوى الطرح أو على مستوى الحركة، يرقى إلى عروض مسارح الدولة وينبغى على وزارة الثقافة أن تعيد النظر فيه للعرض مرة أخرى على أحدى القاعات المسرحية التابعة لها والتى تتلائم مع طبيعة العرض . 


أشرف فؤاد