بداية نهاية مهمة زكي طليمات في تونس

بداية نهاية مهمة زكي طليمات في تونس

العدد 755 صدر بتاريخ 14فبراير2022

انتهت معركة طليمات مع أمينة نور الدين، واستمر طليمات في مسيرته الناجحة نحو المسرح التونسي، لا سيما وأن تطبيق قانون التطهير بدأت تخفّ وطأته، وأصبح طليمات مدير عام «المسرح الشعبي» في مصر، لذلك وافقت وزارة الإرشاد القومي على منحه أجازة خارج القطر من أجل استمرار إشرافه الفني على الفرقة القومية بتونس في موسمها الجديد، بناء على طلب رسمي من بلدية تونس. وموافقة الوزارة على الأجازة يعدّ دليلاً واضحاً على اهتمام المسئولين عن المسرح المصري بما يجري في المسرح التونسي فوق ما فيه من عمل مباشر لتوثيق الروابط الأدبية والفنية بيننا وبين القطر العربي الشقيق! هكذا قالت مجلة «الفن» في ديسمبر 1954.
وصل طليمات إلى تونس وبعد أيام أرسل في يناير 1955 رسالة إلى جريدة «القاهرة»، نشرتها له تحت عنوان «مصري يرسي قواعد المسرح في تونس»، أهم ما جاء فيها قوله: لقد استقبلتني تونس، كعهدي بها، استقبالاً كريماً، ورحبت بي صحافتها أيما ترحيب ولا عجب فتونس ترحب دائماً بما ترسله مصر على شريطة أن يكون سليماً ونافعاً ومنزهاً عن الأغراض، وكانت أول أسئلة وجهت إليّ من بعض رجال الصحافة الذين تفضلوا باستقبالي في المطار «ما هي الروايات التي أتيت بها معك؟» وكان عليّ أن أسميها وأن أسمي كتابها وأن ألخص مواضيعها .. إلخ. وفي اليوم الثاني، كان قدومي وما أحمله معي، والنشاط المرجو من «الفرقة القومية التونسية» كل هذا كان يشغل أعمدة من الصحف، بين صور وتعليقات!! وقيام «الفرقة القومية التونسية» يعتبر حجر الزاوية في بناء المسرح التونسي الحديث، إذ يفتح أبواب الاحتراف للهواة لأول مرة، كما يؤلف المجال الحيوي لخريجي «مدرسة التمثيل التونسية» التي وضعتُ أساسها الأول مع إدارة التعليم التونسية عام 1950 حينما جئت تونس لأول مرة مع «الفرقة المصرية» وألقيت محاضرات وجوب إنشاء هذه المدرسة وأذكيت حماسة المفكرين والممثلين. وهذه المدرسة تعمل منذ عام 1951 بإدارة أديب معروف هو السيد «حسن الزمرلي» ويتولى تعليم فن الإلقاء والتمثيل الأستاذ «محمد العقربي» الذي تعلم المسرح في فرنسا. وقد أقام لي رئيس البلدية ومحافظ الحاضرة التونسية «الجنرال شاذلي حيدر» حفلة بدار البلدية حضرها أعضاء لجنة الفنون الجميلة، وبعد أن تبادلنا خطب الاستقبال والترحيب، أخذنا نبحث في شئون الفرقة. لقد كانت هذه الفرقة في العام الماضي محاولة لإثبات كفاية الممثلين التونسيين في أن تكون لهم فرقة قومية ولتحقيق رغبة البلدية في الارتقاء بالمسرح، وقد نجحت المحاولة نجاحاً رددته المحافل والصحافة بعد تقديم مسرحيتي «تاجر البندقية» و«ليلة من ألف ليلة»؛ ولكن الفرقة في هذا العام أصبحت حقيقة تقوم على أرض ثابتة ولها إعانة مالية وتتألف من خمسة عشر ممثلاً غير المنظمين والعمال، ولإدارة الفرقة أن تستعين بعناصر من خارج أعضائها إذا لزم الأمر على أن تدفع لهم أجوراً بحسب جهودهم. وأعمل منذ وصلت على تدعيم نظام الفرقة على غرار ما هو قائم بمصر وقد صدر قرار بتأليف لجنة إدارية تضع الخطة الرئيسية للفرقة وتشرف على إدارتها بحيث لا تدع مجالاً لاستبداد مدير الفرقة أو للوساطات والمحسوبية، وهذه اللجنة مؤلفة من خمسة من أعضاء البلدية، ثم مني ومن مدير إدارة الفرقة ومن ثلاثة أعضاء من الخارج معروفين بأدبهم وبجهادهم المسرحي. وستكون للفرقة لجنة لاختيار المسرحيات وأخرى للموسيقى يختارون من أعضاء اللجنة الإدارية السابقة، إذ أن البلدية ألفت فرقة أوركستر لتعمل مع الفرقة، وتعزف خلال فترات الاستراحة. وفي تونس أعداء ومناهضون لقيام الفرقة التونسية، ولها أنصار وجنود أيضاً والحرب تجري بين الطرفين من غير هوادة، والمؤامرات تعقد في الظلام. وقدامى هواة التمثيل ينقصون من قدر خريجي «مدرسة التمثيل». أقول إنها نفس الحالة التي خضت غمارها في مصر، وأعاني كثيراً من هذا، ولكنني أعمل بحذر مستعيناً بتجاربي التي مرت بي، ما عدا تجربة العقوق التي نزلت بي من بعض تلاميذي، لأنني لو أقمت لها وزناً لبقيت في مصر ولما ألقيت بنفسي من جديد في المعركة القائمة. وأنني لسعيد بهذه الحال كل السعادة لأنها تذكرني بنفسي وجهدي السابق وتطمئنني على أن غريزة النضال التي ركبتها الفطرة في كياني ما برحت قوية وثابة، وأن حبي يطغى على كل ألم ينالني منه أو عقوق ينزل بي. عندي أمل كبير بأن هذه «الفرقة القومية التونسية» ستصبح حجر الزاوية في نهضة فنية تشمل تونس والجزائر ومراكش، وكلها أقطار عربية شقيقة، وأن مصر تؤدي واجبها نحو شقيقاتها في عالم الأدب والمسرح.
والجدير بالذكر إن المسرحيات التي جاء بها طليمات من أجل تمثيلها عبر الفرقة التونسية، هي: «الناصر» لعزيز أباظة، و«ابن جلا» لمحمود تيمور، و«الشيخ متلوف» اقتباس عثمان جلال، و«الأيدي القذرة» لسارتر، و«البخيل» لموليير، و«يوليوس قيصر» لشكسبير. وفي هذا الصدد نشرت جريدة «القاهرة» في فبراير 1955 خبراً، قالت فيه: «أرسل إلينا الأستاذ زكي طليمات خطاباً من تونس يقول فيه: إنه سيبدأ موسمه غداً «17 فبراير» وقد أعد مسرحيتي «ابن جلا» و«يوليوس قيصر»، وقد ألقى محاضرتين عن المسرح العربي وتطوراته في جامعتي الخلدونية والزيتونة».

إنذار ببداية النهاية
عرض طليمات مع الفرقة القومية التونسية مسرحية «ابن جلا» في مارس 1955، وللأسف لم أجد أصداء نجاحها في الصحف المصرية أو التونسية أو أنها لاقت اهتمام أي مراسل تونسي!! وفي المقابل لم أجد غير مقالة واحدة كُتبت فقط لتهاجم طليمات، وتوحي بفشله أمام الجميع!! ولعل السبب في ذلك راجع إلى أن موعد عرض المسرحية وقع في بداية الفترة الانتقالية بين استقلال تونس الداخلي الذي بدأ في الأول من يناير 1955، والاستقلال النهائي الذي تم في 20 مارس 1956!! فهناك احتمال بأن زكي طليمات أصبح غير مرغوب فيه؛ بوصفه أجنبياً – تبعاً لشعارات هذه الفترة – وأن تونس يجب أن تُبنى بسواعد أبنائها التونسيين بعد استقلالها!! هذا الاحتمال يعضده الهجوم المنشور في المقالة التي أشرت إليها، والتي نشرتها مجلة «أهل الفن» في مارس 1955، وكتبها «محمد الصالح العمروني» تحت عنوان «مرة أخرى يفشل زكي طليمات في تونس»، وقال فيها:
«كلنا يذكر فشل الأستاذ زكي طليمات في العام الماضي عندما كان يُخرج ويُمثل رواية شكسبير الخالدة «تاجر البندقية» في تونس. وكلنا يذكر ما قالته أمينة نور الدين في «أهل الفن» عند رجوعها إلى مصر تعليقاً على هاته الرواية. وكانت الفرقة القومية التي زعمت البلدية تكوينها تمثل هاته الرواية وتهدي مجاناً التذاكر للدخول. وكنا نصحنا فيما سبق الأستاذ زكي طليمات على عدم تمثيل هاته الرواية لما احتوته من اختلاف والذوق العربي، ولكن الأستاذ زكي أصرّ على تمثيلها. فكان له ما كان من فشل، ثم أخرج الأستاذ زكي طليمات رواية «ليلة من ألف ليلة وليلة» التي وضعها الأستاذ بيرم التونسي بأسلوبه الساخر وفلسفته الضاحكة. وكانت هاته الرواية من نوع «الأوبريت» وضع ألحانها الرائعة الخالدة الموسيقار العبقري عبد العزيز محمود [الاسم الصحيح: عبد العزيز محمد] واضطلعت بدور البطولة المطربة الكبيرة لور دكاش مع عواطف رمضان ونخبة من الممثلين التونسيين وعلى رأسهم عميد المسرح التونسي وحامل لواءه الفنان عبد العزيز العقربي. وكلنا يذكر النجاح الذي لقيته هاته «الأوبريت»، وكان الإخراج بديعاً رائعاً والحق يقال. كنا نظن في ذلك الوقت أن الأستاذ زكي فهم من هاته التجربة، فهم فشله في التمثيل ونجاحه في الإخراج، ولكن لن يفهم شيئاً من هذا. أو قل بالأحرى أنه أراد أن لا يفهم شيئاً. واليوم يعود إلينا الأستاذ زكي طليمات، وكم نحن مسرورون بعودته هذه، والحفاوة التي يلاقيها زكي الآن في تونس أكبر دليل وأسطع برهان على هذا. وبعد مضي أكثر من شهر ونصف شهر قضاها الأستاذ زكي في «البروفات» مع أعضاء الفرقة البلدية، فقدم لنا رواية «ابن جلا» أو «الحجاج بن يوسف» للكاتب المسرحي محمود تيمور. وأخرج الأستاذ الرواية مع قيامه – طبعاً – بدور البطولة أي في دور الحجاج بن يوسف. وكانت المهزلة، المهزلة الكبرى يا أستاذ زكي. أقسم لكم باسم الفن وقداسته، إنكم كنتم بعيدين كل البعد عن الحجاج وعن روح الحجاج وعن شخصية الحجاج. أتدرون ماذا كنتم يا أستاذنا العزيز؟ كنت «شيوخاً» لا أكثر ولا أقل. أين أنتم من الحجاج ذلك القائد العربي الذي يحدثنا عنه التاريخ، ذلك الجبار العنيد القاسي القادم القوي العزيمة، ذو جأش ودهاء وإقدام ومكر. أين هذا يا ترى من زكي الضعيف النحيف؟ كم كان يكون النجاح حليفك لو أعطيت هذا الدور لعبد العزيز العقربي، أو حتى على الأقل لابن التيجاني، واكتفيت بالإخراج الذي كان رائعاً. أما الموسيقى التي استمعنا لها بين فصول الرواية فكانت ضعيفة، ضعيفة جداً، خالية من كل روح ومن كل تصوير. هذا وإن الرواية أعجبت الأستاذ البشير المتهني الذي كان يجلس بجانبي كل الإعجاب وكان يصفق بكل قواه، واللبيب بالإشارة يفهم». وعلقت المجلة في نهاية المقالة قائلة: «إننا ننشر هذه الكلمة عملاً بحرية النشر، والكلمة للفنان الكبير زكي طليمات»!

طليمات يكافح
لم يرد زكي طليمات على هذا الهجوم، ولا على غيره، ولم يهتم بأمور كثيرة حدثت له في تونس توحي بأنه أصبح حملاً ثقيلاً على صدر بعض تلاميذه أو معاونيه!! وكأن القدر أراد تكرار ما حدث له في مصر من بعض تلاميذه، ليتكرر مرة أخرى في تونس من بعض تلاميذه ومعاونيه!! والحق يُقال: إنني لا أملك دليلاً على ذلك، ولكنه إحساس الباحث عندما يبحث عن أخبار فلا يجدها رغم توقعه بأنه سيمل من كثرتها! هذا بالإضافة إلى قراءة ما بين السطور في رسالة طليمات التالية!! ففي نوفمبر 1955 نشرت جريدة «القاهرة» رسالة من طليمات عنوانها «المسرح التونسي يغزو القاهرة»، أرسلها من تونس، قائلاً فيها:
«أما بعد، ولا أقول أما قبل! فيسرني وقد هدأت نفسي بعض الشيء، أن أحيطك بأن العمل هنا في تونس يجري على أحسن ما يكون. لقد أنهيت إخراج مسرحية «صقر قريش» التي كتبها الأستاذ محمود تيمور للفرقة التونسية بلا أجر، وأعجب إذا أردت أن تزداد عجباً، أن مسرحيات محمود تيمور تتجه الآن إلى تونس، ومسرحيات تيمور التاريخية تعتبر فتحاً جديداً في كتابة المسرحية التاريخية، من حيث المنهج والغرض، فهو الكاتب المصري الذي يقوّم الشخصيات التاريخية تقويماً إنسانياً، متخذاً من حوادث التاريخ وسيلة لهذا وليس غاية لذاتها. وأخذت من أمس الأول في إخراج مسرحية أخرى مكتوبة باللهجة التونسية ومقتبسة من مسرحية «شارع البهلوان» وسنبدأ موسمنا يوم 8 ديسمبر، وهو يتضمن هاتين المسرحيتين، ثم مسرحية «الوطن» التي ترجمتها وأخرجتها للفرقة المصرية عام 1944، أيام كنت مديراً فنياً لها. ثم ثلاث مسرحيات أخرى، موسم حافل؟؟ وقد تأخر موسم الفرقة التونسية بمناسبة حضور فرقة من القاهرة على رأسها الأخت الكريمة «تحية كاريوكا» والمطرب الشعبي «محمد عبد المطلب»، وستبدأ موسمها بالمسرح البلدي يوم 17 الجاري، وتنتهي في 2 ديسمبر. ولولا هذا لبدأنا العمل هذا الشهر».
فرقة النيل
الفرقة التي جاءت من القاهرة، وكانت السبب في تأخير موسم الفرقة القومية المسرحية التونسية، هي «فرقة النيل الاستعراضية»، والتي اشتملت على «تحية كاريوكا» و«محمد عبد المطلب» و«حورية حسن» والمنولجست «أحمد غانم»! وكتبت مجلة «الفن» مقالة عن حفلة الافتتاح في ديسمبر 1955 عنوانها «تحية كاريوكا مثال المرأة المصرية في التطور»، علمنا منها: أن الموسيقار «فاضل الشوا» هو الذي استقدم الفرقة، وحضر افتتاحها بالمسرح البلدي بعض الوزراء والأعيان. وقام زكي طليمات - بوصفه عميد الممثلين المصريين بتونس ووكيل نقابة المهن التمثيلية بالقاهرة – بإلقاء كلمة للجمهور قدّم فيها الفرقة. ومما قاله: «يرهبني أن أقف بينكم بوصفي وكيل نقابة المهن التمثيلية، لأقدم لكم «فرقة النيل الاستعراضية» التي تتشرف بأن تقدم لكم ألواناً من الفنون المصرية، بين غناء ورقص وفكاهة. لقد انزلق لساني فقلت فنوناً مصرية، وذلك من باب التجاوز والخضوع للحدود الجغرافية، ولو أنصفت لقلت فنوناً عربية، لأن العربية أشمل من المصرية ومن التونسية، بعد أن شملت العروبة الشاطئ الأفريقي من وادي النيل إلى المحيط الأطلسي. لقد فرضت العروبة طابعها على هذه الأقطار، بحيث جعلتها عربية في عاداتها وتقاليدها، وفي ثقافتها وفي فنونها. و«فرقة النيل» هذه جاءت تحمل إليكم تحية النيل، وأبناء النيل، جاء بها بعد جهد الأستاذ «فاضل الشوا» الموسيقار الذي يطوف «بكمنجته» الأقطار العربية، يتغنى بموسيقى العرب، ويجمع على ألحانها قلوب العرب ويلم الشمل الشتيت. ومن حسن الطالع، أن تحية النيل تجئ إليكم مع «تحية» أخرى، هي «تحية كاريوكا» نجمة هذه الفرقة، وهي أكبر من راقصة وأبرع من ممثلة مسرح وسينما. إنها مثال المرأة المصرية في التطور والتقدم». وقد دعا معهد الرشيدية - وهو مثل معهد الموسيقى في مصر، ويعد كمتحف للألحان والبشارف والمواويل - دعا المعهد فرقة النيل إلى حفلة شاي لاستماع بعض الألحان التونسية حضرها رئيس البلدية والوزراء. هذا وكانت آخر حفلات الفرقة في تونس يوم الخميس أول ديسمبر.
والجدير بالذكر إن «فرقة النيل الاستعراضية» سبقتها فرقة أخرى جاءت إلى تونس وعرضت على المسرح البلدي أيضاً، وكان بها المطربة «شهرزاد» والراقصة «لولا عبده»!


سيد علي إسماعيل