مذكرات نجيب الريحاني الحقيقية والمجهولة(2) الاعتزال مبكرا!!

مذكرات نجيب الريحاني الحقيقية والمجهولة(2) الاعتزال مبكرا!!

العدد 810 صدر بتاريخ 6مارس2023

منذ ظهور الريحاني وحتى أبريل 1932، لم نعرف شيئاً عن تاريخ الريحاني المسرحي مجموعاً في مقالة أو كتاب!! وكل ما نعرفه هو أخبار نشاطه المتواصل منذ ظهوره ممثلاً أو صاحب فرقة أو مبدع لشخصيته الفنية الشهيرة «كشكش بك»! ففي أبريل 1932 – وأمام اشتداد الأزمة المالية العالمية - نشرت مجلة «الصباح» بياناً رسمياً تقدمت به «لجنة مراقبة الفرق التمثيلية» إلى معالي وزير المعارف بخصوص الإعانات المالية التي ستمنحها الوزارة لمديري الفرق المسرحية، وكذلك للممثلين والممثلات! وشمل هذا البيان عدة مقترحات، منها:
أن الوزارة ستقدم إعانتها المالية للفرق الجدية والفكاهية – أي التراجيدية والكوميدية - مع تفضيل الفرق الأولى على الثانية في قدر الإعانة، نظراً إلى أنها تُخرج روايات بعضها مكتوب باللغة العربية الفصحى! وفي هذا ما فيه من أثر ذي شأن في نشر اللغة العربية وإذاعة محاسنها وتقريبها إلى أذهان الجمهور. وتمسك الوزارة بمبدأ إعانة الفرق الفكاهية يرجع لرغبتها في أن تحقق للوزارة من هذا الطريق نوعاً من الإشراف على جهود هذه الفرق! فتوجهها بقدر الإمكان التوجيه الصالح، باعتبار أنها أداة ذات أثر في أخلاق الجمهور الكبير، الذي يغشاها. ويزيد اللجنة اعتقاداً بصواب رأيها في هذا الصدد أنه كان من جراء رقابة الوزارة لهذه الفرق في العام الماضي أن ارتفع المستوى الفني والأدبي لعملها، وتجنبت رواياتها المواقف المزرية. وفوق هذا فلا يمكن إهمال شأن هذا النوع من التمثيل بعد المرحلة التي قطعها منذ نشأته في سبيل تدعيم الكوميديا المحلية لمجتمعنا المصري.
أما الفرق التي تستحق الإعانة من الوزارة، فهي: فرقة مسرح رمسيس ليوسف وهبي، وفرقة فاطمة رشدي، وفرقة نجيب الريحاني، وفرقة علي الكسار، وفرقة فكتوريا موسى وعبد الله عكاشة، بالإضافة إلى نادي رمسيس ببور سعيد، كونه نادياً فنياً يقوم بجهود كبيرة. وبناءً على ذلك جاءت الإعانات المالية هكذا: 400 ج لفرقة رمسيس، 400 ج لفرقة فاطمة رشدي، 150 ج لفرقة نجيب الريحاني، 150 ج لفرقة علي الكسار، 50 ج لفكتوريا وعكاشة، 100 ج لنادي رمسيس ببور سعيد.
ورأت اللجنة جعل مبلغ جوائز الممثلين على درجات ثلاث أولى وثانية وثالثة! بشرط إعلاء قيمة الجائزة لممثلي الفرق التراجيدية كالآتي: «التمثيل الجدي» الجائزة الأولى 25 ج، الثانية 15 ج، الثالثة 10 ج. أما «التمثيل الفكاهي» الجائزة الأولى 20 ج، الثانية 10 ج، الثالثة 6 ج. ومن الواضح أن وزارة المعارف كانت متعسفة ضد الفرق الكوميدية «الفكاهية»، ومنتصرة للفرق التراجيدية «الجدية»! وهذا الأمر في هذا التوقيت كان متوقعاً ولا غرابة فيه، إذا علمنا أن وزير المعارف هو «محمد حلمي عيسى باشا»، المشهور بلقب «وزير التقاليد»!! وهو الذي أغلق أول معهد للتمثيل العربي في مصر والعالم العربي، وحوّله إلى قاعة محاضرات عام 1931!!
الغريب أن الريحاني سخر من هذه التفرقة، ومن مبلغ الإعانة، وكتب تعلقاً على ذلك في جريدة «أبو الهول» - بعد أيام قليلة – عندما سألته الجريدة: ما تعليقك على الإعانة التي منحتها لفرقتك وزارة المعارف؟ فرد قائلاً: والله أنا شخصياً لم أكن أنتظر من وزارة التقاليد أن تعترف بنوع التمثيل الكوميدي، فإعانتها له على قلتها وضآلتها، تعتبر منها بمثابة اعتراف! وهذا الاعتراف خطوة كبيرة منها في سبيل التقدم المنشد للقضاء على التقاليد العتيقة. فأنا لا أنظر إلى الإعانة من حيث تؤديه معنى الكلمة، إنما أنظر إليها وأنا لا أكتم دهشتي من اعتراف بنا ما كنا نتوقعه من وزارة ترى في كل شيء مخالفة للتقاليد وخروجاً عليها. ولم أتوقع من وزارة المعارف في عهدها الحالي أن تعترف بنوع التمثيل الكوميدي ونحن نعرف رأي المشايخ في هذا النوع من التمثيل ونعرف سطوتهم وسيطرتهم!!
وبسبب هذه الجرأة في إبداء الرأي – ناهيك عن سخرية الوزارة من التمثيل الكوميدي – بالإضافة إلى يأس الريحاني من حياته التمثيلية وندمه على جهده طوال حياته الماضية دون جدوى .. قرر الريحاني اعتزال التمثيل!! فأجرت معه مجلة «الصباح» حواراً نشرته أواخر أبريل 1932 تحت عنوان «خسارة فنية كبرى للمسرح المصري .. الأستاذ نجيب الريحاني كشكش بك .. يعتزل التمثيل ويهجر مصر إلى نيويورك .. ما هي أسباب الاعتزال التي صرح بها لمندوب الصباح الفني؟».
قال الصحفي: هي المرة الأولى التي لقيت فيها الأستاذ نجيب الريحاني عابساً وما عهدته إلا باسماً ضحوكاً، وقد دفعني هذا التغير الفجائي إلى مبادرته بالسؤال عن أسبابه، وكنا في «قهوة الفن»! فأجابني وهو يتنهد: أليس من حق مصر عليّ وهو موطني وملاذي أن أحزن لفراقها إلى نيويورك، أسافر وحدي للإقامة بها إلى أن أموت!! لقد قضيت أربعة عشر عاماً أو يزيد، هي أفضل سني حياتي في خدمة التمثيل، فماذا أفادني التمثيل بعد هذه السنين الطويلة؟ هل اقتنيت مالاً؟ هل كونت منه ثروة؟ فاعترضته قائلاً: أليس في الثروة الأدبية ما يكفي لعزائك عن الثروة المادية؟! فأجاب: لو كانت لي كما تقول ثروة أدبية لما أغنتني عن الحاجة إلى المال، لا سيما في هذا العصر، فما بالك إذا كانت هذه الثروة الأدبية ليست أكثر من وهم أو خيال، إذا كان الجمهور لا يرحم الممثل إذا كان له من ظروفه في ليلة ما يحول بينه وبين إجادة تمثيله فيها، ولا يرى في ماضيه مهما كان مجيداً ما يشفع له عن قصوره في تلك الليلة تحت تأثير ظرف خاص! إذا كان هذا هو حال الجمهور مع الممثل المقصر في ليلة واحدة عن اضطرار، فهل تظن أن هذا الجمهور يحفظ للممثل شهرته إذا قعد به العجز أو كبر السن عن موالاة إرضائه؟ يا صديقي شهرة الفنان في مصر متاع زائل، وما أسرع ما تتلاشى باحتجابه وينساه الجمهور حتى من كان منه أشدهم إعجاباً به! ألم يكن للشيخ سلامة في حياته أنصار ومحبون؟ فأين هم الآن بعد موته؟ هل يذكره أحد حتى من أولئك الذي غمرهم فضله وما زالوا يعيشون في غمرته؟ وأين أنصار الشيخ سيد درويش وغير سلامة ودرويش من رجال الفنون الذين عاشوا وماتوا في خدمتها؟ فالثروة الأدبية التي تقول إن فيها ما يعزيني عن الثروة المادية هي ثروة وقتية تزول بزوال شبح الفنان من حياة الفن التي يباشرها، فإذا ما قصر في فنه مرة واحدة أخذ الجمهور عليه تقصيره وانفض عنه، وحتى إذا لم يقصر وظل مجداً طول حياته لم يضمن أيضاً انفضاض الجمهور السريع الملل الكثير السام. فإذا لم ينفض عنه لتقصيره انفض للملل الذي يعتريه من هول ما شاهده! 
قلت: ومع ذلك يا أستاذ فأنا أستطيع أن أؤكد لك أنك ربحت من فنك الكثير وما أحسبك تنسى عهد «الإجبسيانة»! أجاب الأستاذ قائلاً: ربحت مالاً كثيراً أجل .. ولكن أين هو هذا المال؟ قلت له: هذا ما يتساءل عنه الكثيرون ويتقولون في شأنه تقولات كثيرة؟ فقال: كثيرة؟ لقد صرفته عن آخره على التمثيل وأقسم لك على هذا، لأن الجمهور حين أقبل على النوع الذي ابتكرته جعلني أربح المال الكثير فلما بدأ يسأم النوع لكثرة ما شاهده بدأت أنفق عن سعة لأطرد الملل عنه بابتكار أنواع جديدة، وقد كلفني هذا غالياً حتى أفلست تماماً ولم يعد في قدرتي الانفاق. فسألته: هل لي أن أعرف الباعث المباشر على هذا اليأس المستحكم؟ ألا تعتقد أن عليك أن تجاهد لتحصل على رضاء الجمهور؟ أجاب: ليس رضاء الجمهور عسيراً عليّ ولا على أي إنسان لأن إرضاءه من أسهل الأمور وأبسطها فهو يقنع بالزخرف والعرض ولا يعبأ بالحقيقة والجوهر. ولقد استطعت أن أرضي الجمهور في كل السنوات التي اشتغلت فيها بالتمثيل، ولكني لم أكن راضياً عن نفسي، فأنا لكي أرضي نفسي لا أستطيع إرضاء الجمهور، ولكي أرضي الجمهور لا أستطيع إرضاء نفسي.
قلت: وكيف ذلك؟ قال: إرضاء الجمهور يضطرني أن أقدم له أنواعاً غير فنية، بل هي أقرب إلى اللعب والعبث منها إلى الفن والتمثيل، ولو كنت تاجراً لداومت على إرضائه دون أن يكلفني ذلك جهداً غير محدود وقليل فما عليّ سوى أن أجمع خمس أو ست مشاهد مضحكة في ثلاثة فصول، وأجعل منها رواية أطلق عليها أي اسم أشاء، وأغالي في تصوير شخصياتها ورسم حوادثها فأضمن لنفسي رضاءه، ولكني لا أضمن رضاء نفسي، فإذا حاولت إرضاءها بتقديم روايات من نوع الكوميدي الأخلاقي ذلك النوع الذي لا وجود له في المسرح المصري، لأنه ما من فرقة تجرؤ على تقديمه، إذا حاولت ذلك صدمني الجمهور وانصرف عني. قلت: ألديك دليل على ذلك؟ قال: وأي دليل أقدمه لك أكبر من دليلي في رواية «الجنيه المصري»! لقد كانت فكرتي طول حياتي الفنية من الأنواع التي قدمتها للجمهور أن أهيئه تدريجياً لقبول نوع الكوميدي. وبعد جهاد أربعة عشر عاماً اعتقدت أن الجمهور قد تهيأ أخيراً لقبول هذا النوع من التمثيل فأقدمت على تمثيل رواية «الجنيه المصري» وأنا واثق كل الثقة من نجاحها، فصدمني الجمهور بعنف صدمة كان لي منها درس قاسٍ جعلني أتقهقر بشدة إلى النوع الأول الذي بدأت به فأخرجت «المحفظة يا مدام»، وكنت وأنا أسمع فيها رنين ضحكات الجمهور أحس بخفقات الأسى في قلبي الحزين، من ذلك اليوم بدأ اليأس يساورني ويملأ جوانحي، لأني إذا كنت لم أستطع تحويل الجمهور في مدى أربعة عشر عاماً صرفتها من حياتي فما أحسب إني بمستطيع تحويله ولم يبق من عمري ما يوازي هذه السنوات الطويلة.
قلت: لكن مادام في وسعك إرضاء الجمهور دون جهد فلماذا لا تعمل على دوام رضائه؟ قال: قلت لك إني أردت من الأنواع التي ابتكرتها أن ندرج منها إلى نوع الكوميدي الأخلاقي، لأنه في نظري أرقى سلم لترقية المسرح المصري، فلما وجدت استحالة هذا التدرج يأست لأني لا أريد ولن أريد ولم أشتغل بالتمثيل ولن أشتغل بالتمثيل ليكون كل مجهودي وقفاً على إرضاء الجماهير، وإنما اشتغلت بالتمثيل لأرضي نفسي وأرضي الفن. قلت: ألا يمكن التوفيق مطلقاً بين إرضاء نفسك وإرضاء الجمهور؟ قال: حاولت ذلك فلم أنجح إلا في إرضاء أقلية لا تغذي فرقة لتعيش فانتظرت أن تساعدنا الحكومة مساعدة جدية فلم يُجدِ الانتظار ولم يبق لنا من أمل أنها ستعمل عملاً جدياً لخدمة الفن وليس عندي من المال ما يجعلني اعتمد على نفسي ولا أعبأ بالخسائر في سبيل ترقية الفن وكانت العناصر الأجنبية التي أدخلها في رواياتي تجذب لي جمهوراً من الأجانب يغذي إيراد فرقتي، فلما أردت أن أكون قومياً وأقصر رواياتي على الشخصيات القومية والعناصر المصرية أهملني الأجانب. فقلت له: لماذا لا تتخصص في نوع واحد؟ ولماذا تقلع أحياناً عن شخصية «كشكش» وهي شخصية ناجحة؟ أجاب قائلاً: لم أتخصص في نوع واحد لأن الفرق عندنا ليست متعددة لتخصص كل منها في نوع لا تتعداه وتهمل بقية الأنواع، وأقلع أحياناً عن شخصية كشكش لأنه من المتعذر أن تجد مواضيع لشخصية واحدة، ولأن شخصية كشكش أصبحت مبتذلة لكثرة من مثلها، والجمهور لا يتذوق الطعم فإذا شاهد مثلاً يوسف عز الدين في دور كشكش، ثم شاهدني فيه بعد ذلك لا يفرق بيني وبينه، لأنه لا يحس التفرقة، وليس له إلا من يراه سواء كان ممثلاً حقاً أو كان بهلواناً ثقيل الدم والظل. وسألته: هل صممتم على الرحيل؟ فقال: نعم فقد نظرت إلى ماضيّ فوجدت جهداً شاقاً لم يعزني عنه الحاضر ولم أجد له في المستقبل أملاً، فأنا حتى الآن رغم تعبي وجهدي لا زلت في حياتي الخاصة تعساً منكوراً! فأنا أسكن «بانسيون» وليست لي زوجة تحنو عليّ! ولو إني صرفت ما بذلت من جهد في غير التمثيل لكان حاضري غير ما هو الآن.
هذا الحوار هو أول حوار تحدث فيه الريحاني عن محطات معينة في حياته الفنية بصورة إجمالية، أردت أن أبدأ بها بوصفها إرهاصة لمذكرات الريحاني التي سننشرها فيما بعد .. هذا من جانب، ومن جانب آخر أؤكد على فكرة تدور في رأسي، وهي أن الريحاني لا يتحدث عن نفسه أو عن تاريخه الفني إلا لغرض ما!! فهذا الحوار نشرته المجلة – بموافقته طبعاً – عندما قرر الاعتزال!! فهل اعتزل الريحاني حقاً؟! طبعاً لا .. لم يعتزل، بل استمر في نشاطه الفني! وهذا يعني أن قرار اعتزال الريحاني كان بمثابة دعاية له أو تذكير بتاريخه الفني من باب الدعاية لما سيقدمه بعد ذلك!!
ومن السهل عليّ الآن أن أتحدث عن تفاصيل ما جاء في هذا الحوار من أمور تاريخية تتعلق بمسرح الريحاني – كما وعدتك عزيزي القارئ – مثل الحديث عن تفاصيل مسرحيتي «الجنيه المصري» و«المحفظة يا مدام»، وعن ظروف ابتكار الريحاني لشخصية «كشكش بك» .. إلخ ما جاء في الحوار!! لكنني لا أريد ذلك الآن، خشية أن تظن أن هذا الحوار هو المذكرات الحقيقية والمجهولة التي وعدتك بنشرها!!


سيد علي إسماعيل