حى الأزبكية ودوره في تطور المسرح العربي

حى الأزبكية ودوره في تطور المسرح العربي

العدد 653 صدر بتاريخ 2مارس2020

 لم يكن اختيار حي الأزبكية ليكون الموطن الأول الذي تنطلق منه شرارة المسرح المصري، والمسرح العربي، مجرد اختيار عشوائي.. فقد لعب هذا الحي أدوارا ثقافية، وفنية متنوعة، وأدوار سياسية واجتماعية مهمة، وعلى مر العصور، منذُ عصر المماليك، مما مهد له هذه المكانة الفنية المهمة، ليس في مصر وحدها، ولكنه قاد حركة ثقافية وفنية امتدت إلى كل أرجاء العالم العربي، حيث تحول إلى جسر ضم بين ضفتيه كل ألوان الفنون، وقلعة تلتقي فيها أفئدة العالم العربي بمواهبها الفنية والثقافية المتنوعة، لتثبت أن الفن هو الوسيلة الحقيقية، لتقارب وتواصل أبناء العروبة.
ما قبل بناء مسرح حديقة الأزبكية:
استطاعت منطقة الأزبكية منذ العصور الأولى، أن تربط بين كل المناطق الرئيسية في القاهرة بمختلف أنماطها الفكرية والمعمارية، فما بين الفسطاط العاصمة الإسلامية، وبين منطقة الأزهر، والقاهرة الفاطمية، بمدلولاتها الفكرية والدينية المختلفة، وبين منطقة باب الحديد (رمسيس)، ملتقى الثقافات المصرية المتعددة، ثم منطقة بولاق، العاصمة التجارية لمصر وقتذاك، التي استمدت الأزبكية منها بركتها لقرب منطقة بولاق بوادي النيل، كل ذلك جعل منطقة الأزبكية مؤهلة لقيادة ثقافية وتجارية وفنية كبرى، في مصر لتطل بأشعاعتها على عالمنا العربي، ومن الغريب أن يرتبط اسم الأزبكية، بالثورات المصرية، في العصور المختلفة منذ المماليك، وحتى الاحتلال الإنجليزي لمصر، مرورا بفترة الحملة الفرنسية، ومسرحها المزعوم.
السلطان أزبك والبداية الحقيقية:
ورغم أن منطقة وجه البركة ظلت مهملة، بعد الفتح الإسلامى لأن حركة العمران كانت قد انتقلت إلى مدينة الفسطاط التي تحولت إلى عاصمة للبلاد.
وظل حال المنطقة في طي النسيان، حتى جاء الخليفة الفاطمي الظافر سنة 440 هجريا، فشيد قصرا ضخما يدعى «قصر الؤلؤة»، وأدخل إليها الماء عن طريق بركة أمر بحفرها عن طريق الخليج الناصري وأطلق عليها اسم «بركة بطن البقرة» تلك البركة التي تلاشت وأُهملت بعد العصر الفاطمي، وفي العصر المملوكي أراد المماليك تحويلها إلى متنزه عام فقاموا بحفر خليج إليها عُرف باسم خليج الذكر، كما قام الأمير بدر الدين التركماني ببناء دكة للمتفرجين على بعض العروض الفنية التي كانت تُقدم، ولكن هذا لم ينقذ منطقة الأزبكية من الإهمال.
لكن التاريخ الحقيقي لمنطقة الأزبكية بدأ في عام 881 هجرية (1475 ميلادية)، في عهد السلطان قايتباي حين أهدى إلى قائد جيوشه الأمير التركي الأتابك أزبك الخازندار حسب طلبه بعد التقاعد، جزءا من بركة الأزبكية ليبني عليها قصرا، ولم يتوانى الأمير أزبك في تحويل هذه الأرض الجرداء إلى متنفس جديد للخضرة، ومكان يسعى إليه كل أصحاب الجاه والمال ليبنوا فيه قصورهم المتجاورة مع قصر الأمير أزبك.
ظهور مناطق الاحتفال:
وقام أزبك بإنشاء عدد من المنشآت وكان من ضمنها، المسجد الذي عرف باسمه، وعدد من المنشآت الأخرى التي أعادت الحياة إلى الحديقة العتيقة، وتحولت الأزبكية إلى ملتقى عام، يلتقي فيه الأعيان وكبار رجال الدولة، وكان العامة يشاركون الأمراء في الاحتفاليات الشعبية والدينية التي كانت تقام حول بركة الأزبكية، حيث كان الأمراء مع العامة يجلسون بين الأشجار المتناثرة في كل مكان يتابعون هذه الاحتفاليات. وابتدع الأمير أزبك احتفالا خاصا سماه «احتفال فتح البركة»، فحينما يرتفع النيل يُفتح السد المقام عند مدخل البركة، فتتدفق المياه إليها، وبحلول عام 1495 كانت الأزبكية قد تحولت إلى حي من أهم أحياء القاهرة، وملتقى فني وثقافي لكل الطبقات.
وفي عصر الأمير كتخدا قام بتشييد قصر كبير بوجه البركة الشرقية 1517م وأسماه «العتبة الزرقاء» بسبب أن لون بوابته التي كانت تؤدي لشارع الأزهر كانت زرقاء اللون، بالإضافة إلى وجود بلاطات زرقاء فوق عتبته.
وقد أشاد نابليون بهذه القصور ووصفها بأنها أعجوبة من الجمال، فقد كان أمراء المماليك يتبارون في تشييد الأفخم والأجل، لكن للأسف احترقت تلك القصور التي شيدت من الرخام خلال ثورات القاهرة ضد الحملة الفرنسية، وثورات الشعب ضد المماليك، وثورات المماليك ضد بعضهم البعض، فللأسف كان المصريون يعبرون عن غضبهم وسخطهم بإحراق تلك القصور.
أعمال فنية قدمت في الأزبكية وانتشرت في وجه البركة أماكن خيال الظل التي كانت تتضمن بعض الألفاظ والتلميحات الجنسية.. كما تحولت المنطقة إلى واحدة من أهم المراكز التجارية بالقاهرة نتيجة التزاحم والإقبال عليها من كل الملل والاتجاهات الدينية والاجتماعية، وانتشرت المقاهي حول وجه البركة، فلا عجب أن راجت سوق الأدب الشعبي بوجه البركة رواجا لم يسبق له مثل، وكثر إنتاج الأدب على اختلاف أنواعه كثرة هائلة، ومن القصص التي ظهرت في هذا العصر «سيرة الظاهر بيبرس»، في سبعة آلاف صفحة، وقد صورت القصة الحياة الاجتماعية المصرية في القرى والمدن، كما صورت فساد الحياة في مدينة القاهرة، وعن فتوات الحسينية، وما كان لهم من نفوذ، وما اتصفوا به من عادات وأخلاق.. ويبرز وسط هذا الزخم في الأدب الشعبي، سيرة الظاهر بيبرس، التي كان بين أحداثها شخصية «عثمان ابن الحبلة»، الذي كان يتخذ مغارات جبل المقطم مقرا له ومقاما، ويعيش مع عصابته على الخطف والنهب، وكان الناس يفرون من أي مكان يقترب منه عثمان، ولم ينج من شره كبار الحكام.. ولكن بيبرس استطاع أن يكسر غروره، وجعله يتوب عن السرقة والنهب، وجعله ملازما له، وأصبح ساعده الأيمن قبل توليه ملك مصر.
وكانت هذه الأعمال تنتقد بزخ بعض الحكام وإسرافهم في شهواتهم، وانصرافهم عن شؤون العباد.
ونجد في سيرة بيبرس قصص للجاسوسية والمكائد وحكايات عن التخفي والتنكر، إلى جانب أن السيرة اشتملت على تصوير كافة نواحي الحياة الحياة المصرية، وبرز في السيرة استخدام البنج أو المخدر في الطعام، ويشيع فيها استخدام السحر وتسخير الجان، وبجانب سيرة الظاهر بيبرس انتشرت قصص العشاق وأخبارهم ونوادرهم، وراجت بعض الكتب القديمة التي تتناول هذه الموضوعات مثل كتاب «مصارع العشاق» لأبي بكر محمد سراج، شاعت مقاهي الغناء بشكل كبير حتى أصبحت المقاهي تتنافس في إحضار أفضل المغنين الذين كانوا يتنافسون في تطوير أدائهم فكانوا يتنافسون على مؤلفي الأزجال وكان من أدباء البركة الذين ذكرهم الجبرتي (قاسم بن عطا الله المصري المتوفي في عام 1785م ومحمد بن شبانة المتوفي في عام 1795م ومصطفى أسعد اللقيمي الدمياطي المتوفي في عام 1755).
الحملة الفرنسية: وجدت الحملة الفرنسية أن منطقة الأزبكية هي المكان الأمثل لثكنات القادة وجنود الحملة الفرنسية، فقاموا بتزيين المنطقة والاهتمام بها، وبناء المنشآت المختلفة بها، وكان أهم ما شيده نابليون بالمنطقة مسرحا ضخما.. بناحية غيط النوبي بوجه لبركة، ترفيها عن الجنود وتسلية لهم، ولكن هذا المسرح دُمر خلال ثورة 1799 فأعاد الجنرال مينو بناءه وأطلق عليه اسم (مسرح الجمهورية) وكان موقعه بالقرب من شارع غيط النوبي الآن، وهذا الكلام يدل على أن المسرح الذي شيده نابليون ليس هو المسرح الذي شيده مينو بدليل تغيير المكان.
هل آثرت الحملة الفرنسية على المسرح: هناك بعض المراجع تزعم بأن هذا المسرح قد أثر تأثيرا مباشرا على تطور المسرح المصري، وهذا كلام عارٍ تماما من الصحة، صحيح أن الفودفيلات التي قدمت على هذا المسرح، هي أول ما وصل للعالم العربي بصورة حية عن المسرح الغربي، معتمدين في استنتاجهم على وجود رجلين ضمن حملة نابليون من أصحاب الفنون الجميلة وكبار الموسيقيين، وقد مثَّلا بعض الروايات الفرنسية بمصر لتسلية الضباط، ولكني أتشكك في النتائج الفنية لهذا المسرح، فمن الثابت أن «نابليون» لم يضم إلى حملته أية فرق مسرحية، ولكن عقب وصوله، وكان يعد نفسه لمقام طويل في مصر - كتب إلى حكومة الإدارة في باريس آنذاك «قائمة بالأشياء التي رأى شحنها بالبحر من فرنسا، ومن بينها فرقة من الممثلين وفرقة راقصات باليه وثلاثة أو أربعة من ممثلي مسرح العرائس لعامة الشعب»، إلا أن شيئا مما طلبه نابليون في قائمته تلك لم تبعث به حكومة الإدارة، إذ إنها ألغت القافلة الثانية التي كان ينتظرها نابليون بين لحظة وأخرى في شهر أغسطس، لأنها رأت أن السفن وحمولتها ألزام لإيطاليا منها إلى مصر، لهذا استعان نابليون بجنود وضباط الحملة مِن مَن لهم ميول فنية لتقديم أعمال الفودفيل، وكان الجنود يقومون بأدوار الرجال والنساء أيضا، وهو أمر لم يكن ليتقبله الذوق المصري وقتذاك، وناهيك بأنهم هواة وليسوا محترفين، فقد كانت العروض لا تقدم إلا باللغة الفرنسية، التي لا يجيدها معظم المصريين، ورغم هذا لم تك تقدم إلا برسوم، كما أشار الجبرتي، وكانت الغلبة للفنون الأخرى التي أشرنا أليها آنفا، لقربها أولا من الروح المصرية، ومحاكاتها لهم ولمشكلاتهم، ولأنها كانت تقدم بلغتهم هم، ودون رسوم للدخول إليها. وإن كان هناك تأثير للمسرح الأوروبي على المصريين، فهذا كان نابعا من أن الأعيان الأتراك والمصريين، في فترات لاحقه، ورجال الحاشية، وضباط الجيش، كانوا يشاهدون المسرح الأوروبي، بينما لم يصل هذا المسرح للعامة أو للطبقات الوسطى، نتيجة تراجع طبع الكتب والأعمال المترجمة، فكانت الحياة الثقافية في كساد، قبل إنشاء مطبعة بولاق عام 1819 - 1820.
لهذا أتشكك في أي نتيجة يخرج بها الباحثون ليؤكدوا زورا وبهتانا أن مسرح الحملة الفرنسية أثر على المصريين.. فهذا الرأي نابع من مبدأ التبعية الثقافية، ومبالغة في أثر الحملة الفرنسية على مصر، التي لا أنكر تأثيرها في نواح كثيرة إلا المسرح، فالمسرح الذي قدمته الحملة الفرنسية على مصر لم يؤثر بشكل مباشر، أو غير مباشر، كما سبق الإشارة.
والدليل على عدم تأثر المصريين بالمسرح الفرنسي الذي أقامه نابليون، أن المسرح المصري قد خبا بعد رحيل الحملة الفرنسية عن مصر ولم يزدهر إلا في أشكال الفرجة الشعبية التي عرفها المصريون من قبل الحملة الفرنسية على مصر، ويقول جمال بدوي في كتاب محمد علي وأولاده «ولو دققنا في طبيعة السنوات الأربع التي تلت الحملة الفرنسية، لن نجد أثرا واحدا يدل على تغلغل الأفكار الأوروبية بين المصريين، ولن نسمع عن فولتير أو روسو أو موليير أو نظم الانتخابات والعقد الاجتماعي وإرادة الأمة، إلا بعد أن يعود الشيخ رفاعة الطهطاوي من رحلته إلى باريس في عام 1831، أي بعد ثلاثين عاما من رحيل الحملة.
تدهور حال الأزبكية: تدهور حال البركة قبل أزبك وبعد خروج الحملة الفرنسية على مصر، واستمر التدهور حتى عصر الخديوي إسماعيل، فتحولت مقاهي وجه البركة إلى مراقص ومغانٍ وأندية للقوادين وتجار الأعراض، وبؤرة للحشاشين وبائعي المخدرات، ومجمع لطلاب اللهو الحرام، وكان أصحاب المقاهي يتنافسون في اجتذاب الجماهير، فيتخذون وسائل مختلفة لإغراء الناس بالجلوس في مقاهيم، فمنهم من يستأجر الفتيات الجميلات من بنات الهوى، يرقصن رقصات البطن التي لا تزال معروفة، ولما لم تكن هناك رقابة على تلك المقاهي، لذلك ذهب أصحابها في الفحش إلى حد بعيد، فكان السهر فيها غير محدود بوقت معين، والراقصات يزاولن عملهن شبه عاريات، فلم تكن إحداهن تلبس إلا ثوبا رقيقا لا يستر جسمها.
وكانت طائفة الغجر والجعيدية منتشرة في وجه البركة انتشارا عظيما، لأن أجورهم كانت في متناول الطبقات الفقيرة، لذلك كان الإقبال عليهم شديدا، ومقاهيهم ومواخيرهم مزدحمة بالطبقات الفقيرة.
وكانت بعض المقاهي تستأجر القصاص ليسلوا الناس بالحكايات اللطيفة والنوادر الطريفة، وكان القاص يجلس فوق دكة مرتفعة، ويأتي بحركات تناسب المقام، ويغير صوته ويبدله تبعا لمواقف القصة المختلفة، فهناك موقف يحتاج فيها إلى صوت مرتفع غليط، وموقف يحتاج إلى صوت منخفض حزين، وغيره يحتاج إلى صوت ينم عن التوسل والتضرع، وموقف يحتاج إلى صوت مضحك، وهكذا.
وفي أثناء القصة ينشد القاص بعض الأزجال والموشحات أو المواويل أو الشعر العامي الذي لا يتقيد فيه ناظمه بوزن ولا بصحة نحو واستقامة لغة وإنما يرتجله كيفما كان، وليس فيه من سمات الشعر إلا وحدة القافية، ونجد كثيرا من هذا الشعر في سيرة الظاهر بيبرس.
عودة الأزبكية
ولكن التحول الحقيقي لمنطقة الأزبكية حدث بعد التطور العمراني والفكري والفني الذي حدث في عصر الخديوي إسماعيل، صاحب أكبر الإنجازات الثقافية والفنية والمعمارية في تاريخ مصر.
ولكن قبل أن نترك هذه الجزئية علينا ألا ننسى دور محمد علي، الذي ساهم بثورته التنويرية، في تهيئ المجتمع لتقبل فكرة هذا الوافد الجديد عليه، وهو المسرح، فالبعثات التي أرسلها محمد علي إلى أوروبا ساهمت بشكل كبير في تهيئة المجتمع لتقبل هذه الفكرة، فعندما شاهد أعضاء البعثات العلمية إلى أوروبا المسرح أدركوا دوره وأهميته، فنجد أن رفاعة رافع الطهطاوي يصف المسرح في عام 1834 على أن دوره يرقى لدور الآداب الرفيعة، ويصفه بأنه مدرسة عظيمة ودرس في الأخلاق يقدم من خلال وسيط.
واستكمل المسيرة من بعده الخديوي إسماعيل، الذي وجد أن منطقة الأزبكية هي المكان الأمثل لتحقيق حلمه الكبير ببناء مدينة تضاهي في عمرانها وبهائها أجمل المدن الأوروبية، وقد خطى خطواته الأولى نحو هذا، مما أثار أحقاد المستعمر الإنجليزي، خاصة مع احتفالية افتتاح قناة السويس، فكان التخطيط لعزله قبل أن تخطو مصر خطواتها الأوسع نحو التقدم، فدبروا له المكائد لعزله، فظلمه المستعمر الإنجليزي مرة، وظلمه التاريخ وظلمناه نحن ألف مرة، وللأسف ما زلنا نردد حتى اليوم أكذوبة الديون التي أغرق بها الخديوي إسماعيل مصر، والتي كانت أكذوبة ابتدعها المستعمر الإنجليزي لعزله، ولهذا الأمر حديث آخر.


سمير حنفى محمود