«عميان» أبوكبير.. وعلاقته بمسرح الإعاقة

«عميان» أبوكبير..  وعلاقته بمسرح الإعاقة

العدد 657 صدر بتاريخ 30مارس2020

إستقبل قصر ثقافة الزقازيق التابع لفرع الشرقية عَرض لمسرحية (موريس ميترلنك) “العميان” والتي أنتجتها الهيئة العامة لقصور الثقافة من خلال قصر ثقافة منصور حسن بأبو كبير شرقية للعام المسرحي 2020م، والتي عرضت في إطار مهرجان المسرح الإقليمي بشرق الدلتا، ولأن العرض كما هو واضح من عنوانه ومعالجته وطبيعة شخصياته التي في أغلبها من فاقدي البصر ذوي الاحتياجات البصرية الخاصة وهي أحد أوجه الاعاقة مما يجعل العرض ينتمي بشكل ما إلي عروض النوع المسرحي الذي صار يفرض وجوده بشدة اثر اهتمام العالم بالاعاقة وهو “مسرح الإعاقة” ولكن يتحقق ذلك هنا في هذا العرض من حيث الشكل والموضوع فقط بينما طبيعة المعالجة التي صاغها (ميترلنك) ما كانت تبالي بالإعاقة ذاتها علي النحو الذي يرفع شعار الاهتمام بها عالمياً في هذا الزمان ولا الرؤية الإخراجية إتجهت إلي ذلك في تنفيذها للعرض حيث استخدم العمي في هذه التجربة المسرحية الجيدة علي سبيل الرمز عندما يتهم شخص ما أو جماعة بأنها تعمي عن رؤية الواقع أو المستقبل أي أن الحكاية هنا لها وجه آخر يتعلق بفقد المرشد ودليل الثقة والقائد ولو كان ضعيفاً فإنه أفضل من اللا شيء أن يكون لدي العميان عينان ضعيفتان تحيطهما علماً ببعض ما يجري وتضمن لهم شيء من الآمان في رؤية الطريق لهو أمر محمود في ذاته وأفضل مئات المرات من التردي والضلال أن يضل العميان الطريق فيتوقفون عن الحياة تقريباً في انتظار ما يظنون أغلب الوقت أنه آت ولكنه أبداً لا يعود إذ يكتشفون في نهاية العرض وبعد طول انتظار أن المشرف علي الملجأ الذي يعيشون فيه والذي قام بدوره الصامت أغلب العرض (محمود السيد) قد أحضرهما إلي ذلك المكان البعيد الذي تخبطوا طويلاً في وصفة تأكيداً علي فكرة الضياع التي سيطرت عليهم باختفاء المشرف الذي بموته تنسد كل أبواب الآمال في أوجههم حيث لا يعرفون إلي أين يتجهون خشية المصير المحتوم الذي يخشونه جميعاً وهو الموت التحاقاً بالمشرف وفي النص والعرض لا فرق بين أغلب العميان فالكل سواء من دون استثناء رجالاً كانوا أو نساء تعددت الأسباب والعمي واحد يعني لا أحد منهم يصلح أن يكون قائدا يقود الركب نحو أي مصير ولا أحد منهم مغامر أو مقامر ولا أحد قرر أن يضحي بنفسه في أن يتقدم لكي يقود الأخرين حتي لو أذي أو مات لا أحد خرج عن المحبس وإنما الكل مستسلم والوحيد الذي تحرك خارج الصندوق قرب نهاية العرض هو الذي لا يتمتع بإعاقة واحدة وإنما لديه إعاقة أخري إضافة إلي العمي وهي أنه فاقد لحاسة السمع ولذلك لم يسمع كل ما مر به أقرانه من أحداث وظل في واد خاص لا شيء يقلقه إلا طلب الطعام الذي تأخر أكثر من المعتاد ولذا يردد من وقت إلي آخر مقاطع يرددها المتسولين من فاقدي البصر يستعطفون الناس باستخدام عاهتهم وهو أيضاً يطلب من الناس من دون أن يستقبل ردود الأفعال أو لنقل الأقوال التي تخبره أنهم جميعهم في حال واحد ووضع متشابه ولا أحد في العميان جميعاً لديه ماء أو طعام ويبدو أن هذا الفتي ثنائي الإعاقة من شدة الضغط يغادر وحده محبسهم بالجزيرة ويدور حول المكان ثم سرعان ما يعود من حيث ذهب، ويعرضها المخرج بأن يجعله ينزل إلي صالة المشاهدة يسير علي غير هدي حتى يعود إلي حيث يجلس أقرانه مسبباً لهم مزيداً من الخوف والذعر بعدما اكتشفوا أنهم بل عيون تري الطريق إلي الجزيرة التي اصطحبهم المشرف للتريض بها والتمتع برؤية الشمس ثم العودة إلي الملجأ، ولكن لا أحد منهم يري النور بعينيه ليدل جمعهم إلا طفل رضيع ابن سيدة طيبة من نساء الملجأ وهي الأم التي منذ ولدت طفلها تحتضنه ولا تكلم أحداً كأن التقدم نحو المستقبل مغلق طريقه حتي إشعار آخر ولا أحد يري في هذا الموقف من العرض غير ذلك الرضيع الذي انتزعته أحدي النساء من والدته لعلها تسترشد به فيبكي إن رأي شيئا غريبا فيرشدهما علي الطريق، وهذا تفكير غير مجد بالواقع لأن الطفل يري ولا يتكلم ولذلك الاعتماد عليه لن يؤدي إلي شيء في الواقع هو فعل لا ينفع وإنما في الواقع الدرامي كان هذا الطفل وتلك العيون هي العيون السليمة التي نتطلع بها إلي رؤية طريق المستقبل لأن هذا العرض في هذا التوقيت أو ربما في كل الأوقات يعبر عن حياة الإنسان والبلدان حيث لا أحد يري كل الأشياء والمستقبل مظلم بالنسبة للجميع وعلي ذلك فالكل عميان من وجهة نظر كاتب هذا النص ومخرجه ولذلك رغم أن كل شخصيات العرض جعلها المخرج “أحمد سوكارنو” عميانا ورغم أنهم جميعهم بذلوا جهداً كبيرا في محاولة إثبات أنهم مكفوفين إلا أن ذلك يتافي مع الرؤية التي أرادوا تقديمها والتي تعني في الميتاتيتر التي ينتمي لها العرض الذي لا يقصد فقط ما يقال إذ للمشاهد والمناظر والملابس تأويل آخر لتأكيد الأفكار التي يطرحها عرض العميان والرسائل التي تحمل مسئولية توصيلها (هدي السيد) في دور الشابة، و(مصطفي عبد القادر) في دور الأكبر، و(رحاب المهداوي) في دور الكبرى، و(السيد عبد المجيد) في دور الرابع، و(سلمي أيمن) في دور المعتوهة، و(عمرو منضود) في دور الأول، و(سماح أبو زيد) في دور (معددة)، ( محمدي محمود) في دور الثاني، و(جنة سوكارنو) في دور معددة، و( خالد الشبراوي) في دور الثالث، وقد تخلل العرض أغاني كتبها (فتحي الجندي) لكي تصف ما جري من دون إن تأخذ موقعها من دراما العرض بحيث يصبح جزءاً لا يتجزأ منه ولذلك بانت زائدة يسهل أستأصلها رغم جودتها من دون أن يحدث أي خلل بالعرض الذي صمم ديكوره (علاء سليم) فلم يوجد المكان الموحش الذي يجعل المتلقي يقلق بشأن هؤلاء العميان الذين رغم كل محاولاتهم محاكاة العمى إلا أنهم لم يكونوا أبداً عمياناً لأن العميان الحقيقيين جبارين ولا يستطيعون الخنوع والاستسلام كما فعل أبطال هذا العرض الذين تبنوا رسالة أخري تعبوا في صياغتها علي نحو ما كتب (سوكارنو) ملخصاً العرض علي البانفلت بقوله (العميان ....أنتم) يعني أن العميان ليسوا من الجزيرة بلا مشرف إنما نحن العميان ثم في الشطر التالي والأخير يقول (هل حقاً مبصرون؟ ) إذا الرجل في مفتاحه لدخول العرض يؤكد علي ما هو مقروء أن عميانه ليسوا عميان ولذلك يفتحون عيونهم علي آخرها في آخر مشاهد العرض ويحملونها بكل ما أمكنهم من تساؤل حول ما نحن فيه هل سنفتح عيوننا كما فعلوا وننتبه إلي الطريق أم نحبس أنفسنا إلي الأبد في شرك العمى وهذا كما نري يخيب ظن أمثالي ممن اعتقدوا أن للعرض علاقة بمسرح الإعاقة حيث لا نصيب له منه إلا في العنوان لكنه رغم ذلك عرض هام ويحمل رؤية ورسالة هامة ويضاف إلي رصيد يحتوي علي سلسلة من العروض القيمة التي قدمها المخرج “أحمد سوكارنو” مع فرقة قصر ثقافة منصور حسن بأبوكبير


محمود كحيلة