المسرح المصرى «سؤال النشأة».. مقاربة أولية (2-2)

 المسرح المصرى «سؤال النشأة».. مقاربة أولية (2-2)

العدد 704 صدر بتاريخ 22فبراير2021

المسرح المصرى وسؤال النشأة
بادئ زى بدء، وعلى ضوء ما سبق، يستحيل علينا مقارنة مسرحنا بالمسرح الغربى، فالسياقات التاريخية؛ المعرفية والعلمية والإجتماعية والسياسية... إلخ، لدينا ولدى الغرب، شديدة التباين، وما من سبيل لمقارنتهما ببعضهما.

اللغة العربية ونظام الإشتقاق:
تتميز اللغة العربية بنظام الإشتقاق الصارم- فتلك اللغة لا تأذن لكلمة جديدة بالدخول دون الخضوع لنظام الإشتقاق.
ويتحدث بعض المحللين اللغويين عن أن هذا المنحى هو الذى ساعد اللغة العربية على الإحتفاظ ببنياتها على مر العصور، فى مقابل إهدار «الذات الفردية العربية»، والدفع بها إلى التبَخُّر، أو الإقامة على هامش المتن اللغوى، فى “المجاز فقط”- والتعبيرات المجازية لا تعرف الطريق إلى القواميس والمعاجم اللغوية...
سنلاحظ هنا أمرين:
الأول ــ يتعلق بإهدار الذات الفردية: فى اللغات الأخرى الغربية، على سبيل المثال، يتم السماح للفرد بإطلاق كلمة جديدة على شئ ما، حتى لو كان اسمه هو نفسه، مما يعنى أن «الذات الفردية الغربية” تخوض تجربة وجود الموجود، لأن البنية اللغوية لديهم لا تخضع خضوعا تاما ومحكما لنظام الإشتقاق، من هنا كان افساح تلك البنية المجال للتجربة الفردية.
أى أن اللغة لديهم تفكر وتتكلم بداخل رأس الفرد كما أن الفرد يفكر ويتكلم داخل بنية اللغة.
أما لدينا، فالبنية اللغوية محكمة الإغلاق، ومنفصلة تماما عن مستعمليها، ويبدو أن هذا هو نفسه سبب إزدهار الشعر عند العرب، فهو مكان الملتاثين والغاوين والهائمين على وجوههم، حتى أن «القرآن الكريم» حذر منه.
ماسبق يضعنا أمام «المجاز»؛ بما هو المَهْرَب الوحيد أمام العربى للتحرر من «النظام اللغوى”. هذا بالإضافة إلى رفض العرب القدماء للخيال المنفلت من عقاله، بل إن “الخيال” بالمعنى الذى نعرفه الآن، لم يكن يعد معيارا جماليا يتميز به الشعر والشاعر، بل نقيصه و”خبال”!...
سنلاحظ هنا أن نظام اللغة كان يجد ما يعادله فى النظام الإجتماعى القبلى «نسبة للقبيلة»، إذ ليس للفرد أن يعبِّر عن ذاته الفردية؛ فلا مكان لها فى اللغة والشعر والواقع الإجتماعى...
“المجاز» كان هو المتنَفَّس الوحيد للعربى، هذا فضلا عن «اللغات المحلية- الإستعمالية، اليومية»؛ وهو ما عُرِفَ بالإزدواج اللسانى العربى.
فالعربى يكتب بالعربية الفصحى «المعيارية»، ويفكر ويتحدث بالعامية المحلية «الإستعمالية”، مما جعل التداخل بين البنيتين ومن ثم تشابكهما، وصراعهما معا، إشكالية ثقافية ملازمة للإنسان عربى منذ ظهور الإسلام وانتشاره إلى الآن...

الإزدواج الدلالى اللغوى والمسرح:
سنلاحظ بأن «أشكال الفرجة الشعبية»، كانت تستند إلى مرجعية لغوية «عامية» محلية... وأعتقد بأن وجودها وازدهارها فى العالم العربى الإسلامى، كان معادلا للشعر- أى أنها كانت بمثابة الأشكال الجمالية التى لعبت أدوار «المهارِب الخيالية» بالنسبة للإنسان العربى؛ «المهارِب» التى أتاحت له ممارسة إختلافه الدلالى.
لكن البنية التاريخية والحضارية للمجتمع لم تتح للعربى أفقا متسعا بما يكفى  لممارسة إختلافه- ذلك أن “المقدس” كان هو الذى يحكم تلك المجتمعات، ولم تكن “الدولة” سوى تمثيلا له.
وبتعبير آخر، «الدولة العربية الإسلامية» استحوذت لنفسها على «مبدأ المحاكاة أو التمثيل»، أو فلنقل بأنها أمَّمَته؛ اختصَّت نفسها به، وحرَّمته على غيرها!..
لذا بدت الممارسة الشعبية لأشكال الفرجة؛ كبذور درامية متناثرة، مكبوتة أو مقموعة، وغير مكتملة النمو، أو كإرهاصات مسرحية ذات طابع هامشى، يغلب عليها الطابع الطقسى أو الإحتفالى، وإن تضَمَّنت نوعا من النقد الإجتماعى، الأخلاقى، فى أساليب بارودية “parody” مناوئة للأيديولوجيا الدينية، السياسية، السائدة؛ لا سيما فى تمحورها حول الجسد ـــ دراسات «باختين” المتعلقة بالجسد والإحتفالات الشعبية كممارسة للتعدد الخطابى، مهمة فى هذا الصدد...
الإنفتاح على الغرب فى عصر أسرة محمد على، مع التراجع التدريجى للخلافة العثمانية، وضعف السلطة الدينية «المقدسة» وتوافد الجاليات الأجنبية... إلخ، هو الذى سمح بخلخلة البنية العتيقة التى انطوت عليها مجتمعاتنا وثقافتنا ككل، بما فى ذلك بنية اللغة، مما فتح الفضاء العام أمام أنواع أخرى مستحدثة وأكثر تطورا من أشكال التمثيل- بالمعنى الواسع للكلمة؛ كـ (القصة القصيرة والرواية والمسرح- الصحافة، التعليم... إلخ)...
قبل أن أسترسل، هناك ملاحظة تتعلق بأن العلامات اللغوية «النَصِّيِّة»، تتميز عن العلامات اللغوية الحياتية «التى يتداولها الناس فى الحياة اليومية» بكونها علامات لغوية «فنية»، هذا وتناولنا لها من زاوية «التواصل مع الجمهور» يجب أن يرتكز على تاريخ وأنواع اللغات الفنية والأدبية لدينا- كرموز ومواضعات- أو باعتبارها “تنتمى لأنماط التمثيل الأيديولوجية» التى يزخر بها واقعنا الثقافى...  وهو ما لم يفطن إليه أىٍّ ممن تناولوا إشكالية اللغة والتواصل فى مسرحنا من قبل...
مع ملاحظة أن مثل تلك اللغة «المجازية» تسمح بتجاوز الإشكاليات الناتجة عن الإنغلاق التاريخى للغة العربية على نفسها، نظرا لما تتضمنه من إمكانية الإنفتاح على آفاق تعبيرية لغوية «محلية».
مع ملاحظة أن تلك اللغة المجازية أو الفنية، كانت هى المستودع الأكبر الحاوى لكل ما هو معارض للغة المقدسة السائدة، بل ويمكن القول إنها كانت بمثابة معمل التدريب والتجريب الخاص بأشكال التمثيل الممنوعة من التداول أو المحدودة الإنتشار...
الإزدواج الدلالى المتعلق بالعلامة اللغوية، يوجد فى كل ما يمكن أن يتصف بـ «الدارمية”؛ إذ هو الذى يتيح للدراما إمكانية الوجود، ذلك أنه هو الصانع «للمفارقة الدرامية».
مما يعنى أن ظهور المسرح لدينا كان تعبيرا عن وجود خلخلة دلالية ما أصابت وحدة العلامة اللغوية. ذلك أن التحولات الإجتماعية الناتجة عن الإنفتاح على الغرب- تلك التى بلغت ذروتها فى عهد الخديوى إسماعيل- لاذت باللغة، وتوطَّنتها؛ بما هى الواقع الجديد الذى تواضع عليه قطاعات كبيرة من الشعب المصرى؛ ومن مظاهر ذلك، تعدد اللغات الإجتماعية وامتزاجها باللغات الأجنبية.
“التعدد الثقافى”- الذى شهدته مصر- فى تلك الفترة، والصراع الإجتماعى والسياسى الملازم له، فى إطار الدولة الحديثة الناشئة، بتشكيلاتها الطبقية الجديدة، هو نفسه ما أتاح «للذات الفردية» إمكانية الوجود فى «واقع» يتغير تاريخيا، من هنا انبثقت الدراما.
أما عن اللغة النَصِّيِّة، المتعددة الدلالات والمرجعيات، فلم يكن بإمكانها أن تنأى بنفسها عن الفوضى الدلالية التى اجتاحت المجتمع آنذاك. لذا لم يكن غريبا أن نرى «لغة مسرحية» هجينة و أشكال درامية هجينة أيضا؛ خليط من مواد تراثية شعبية وتراثية أدبية فى إطار درامى غربى، مقتبس أو معرَّب أو ممصَّر ... كما رأينا فى نصوص «يعقوب صنوع، محمد عثمان جلال، إسماعيل عاصم، القبانى، فرح أنطون، إبراهيم رمزى، محمد تيمور... إلخ.».
أما العروض المسرحية، فلم تكن سوى تجسيدا مرئيا ومسموعا لتلك المواد الثقافية الهجينة...
ما أريد قوله هنا، هو أن تلك الهجنة اللغوية، هى نفسها، وبما هى تعدُّد دوال ومدلولات متصارعة إجتماعيا، كانت هى التى ألحت بوجود المفارقات الصانعة للعالم الدرامى، إذ تُبنى المواقف الدرامية على سوء تفاهم لغوى، ناتج عن الإزدواج الدلالى.
وهو ما يعنى أنه حين أمكن  «للعلامات اللغوية» ذات التأسيس الإجتماعى الجديد أن ترقص فوق «الأشياء- المراجع»، أمكن للمسرح أن يوجد.
أما عن الكيفية التى تطور بها هذا التأسيس «اللغوى- الدرامى”، والأطوار التاريخية التى مر بها، فمجال بحثى كبير ومتسع، لا مجال هنا للتعرض له، مادمنا نتحدث فقط عن دواعى نشأة الظاهرة المسرحية لدينا.
ومع ذلك، سأكتفى بالإشارة المقتضبة إلى ظاهرتين هامتين:
الأولى: لاشك أن التمثيلات اللغوية والتعاطى “الذهنى- الخيالى” معها، كما فى حالة الشعر، كان هو السائد لدينا فى مرحلة البدايات، ذلك أن «التمثيلات المادية- التجسيدية» من المنظور المقدس، عادة ما كانت فى موضع إدانة، لذا كانت العروض المسرحية تستند فى وجودها إلى العروض الخيالية التى ترتسم فى أذهان الجمهور- على نحو ما كان يحدث فى العروض الشيكسبيرية، فى عصر النهضة، على الخشبة العارية- مع الفارق بالطبع.
وفى تقديرى كان ذلك يعود إلى عدم وجود ما نطلق عليه «لغات خشبة المسرح»، فلدى الغرب، أمكن لفن الإخراج المسرحى «فن العرض» أن يوجد بالإستناد إلى فنون أخرى ذات تاريخ طويل ومواضعات وتقاليد، منها «البالية»- وهو أساس فن الحركة ، و»الفن التشكيلى”- كأساس للمعالجات المكانية أو الديكورية، و”الموسيقى» بأنواعها المختلفة...
وبطبيعة الحال لا وجود لمثل تلك الخبرات الفنية لدينا...
هذا مع ملاحظة أن فن التصوير العربى، تمحور حول ما يعرف بـ «الأرابيسك»، وهو فن تجريدى تماما، ويعتمد على التكرار اللانهائى للوحدات، وكذلك الموسيقى لدينا كانت «صوفي»؛ إذ يقال بأن الطرق الصوفية هى التى حفظت لنا- فضلا عن أنها هى التى أنتجت لنا- ما يسمى بالموسيقى العربية، أما عن “الرقص”، فلم يكن يوجد سوى الرقص البلدى وبعض الرقصات الشعبية كالتحطيب، ثم الحركات التى يأتيها المشاركون فى الأذكار الصوفية.
من هنا- إنعكست مشكلة المحدودية القصوى لأشكال التمثيل البصرية على العروض المسرحية، لتصير عروضا لغوية «نصِّيَّة» بلا لغة مسرحية مرئية.


محمد حامد السلامونى