روجيه عساف ومسرح الحكواتي

روجيه عساف ومسرح الحكواتي

العدد 729 صدر بتاريخ 16أغسطس2021

لم تكن تجربة المخرج اللبناني المسرحي الرائد «روجيه عساف» وليدة الصدفة أو ضربا في الفراغ بل عن دراسة معمقة لآليات المسرح الحديث في العالم وفهم جاد لمدارسه المختلفة والتنقيب فيها وراء التفاصيل لصنع حالة متفردة تجمع في ثناياها لين عراقة التراث وفتح آفاق جديدة لمسرح يتوازى مع متطلبات العصر والمجتمع من خلال ابتكار مفردات جديدة للعرض المسرحي بداية من دراسته للفنون المسرحية في «ستراسبورج»، هو شغوف جدا بالاستقلال الفني، يظهر ذلك جيدا من تكوينه لفرقة «محترف بيروت» بالاشتراك مع نضال الأشقر فور تخرجه، والتي كانا يهدفان من خلالها تكوين «مركز درامي»، يكون همه المباشر تقديم عروض مسرحية خلال المواسم المسرحية، على أن يكون طموحه الأكبر والأبعد أن يقدم 
خدمة مسرحية حقيقية لجمهور الناس، وقد استطاعا خلال فترة قصيرة 1968 -1972 في تقديم مسرح سياسي تميز بعمق الأداء من خلال عدة عروض، نذكر منها «المفتش» المأخوذة عن أحد الأعمال الأدبية لجوجل، و»عدد خاص» وهي عبارة عن مجموعة من الاسكتشات 1968، و «ماجدالون» 1969، و»كارت بلانش» 1970، و»إضراب اللصوص» 1971، و»مرجانة وياقوت والتفاحة» 1972، و»أزرار أكتوبر» 1972.
وقد تميزت هذه العروض بخاصية فنية اتخذها «روجيه عساف» كتيمة أساسية في عمله المسرحي ألا وهو «الارتجال الجماعي» والاعتماد على فكرة «الورشة» المسرحية.
وبعد انتهاء تجربة «المحترف» راح «عساف» يبحث في التراث العربي والموروث الشعبي ليؤلف من تناثرات الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي دراما حادة كاشفة وراصدة وناعمة في آن، فقدم «أيام الخيام» و»مذكرات أيوب» و»لوسي» و»في انتظار جودو» و»الجرس» والتي يتضح من عناوينه أنمه لم يكن منفصلا عن تاريخه العربي والإنساني.
ولنأخذ مثالا على ذلك عرض «الجرس» 1991 التي ألفها وقام ببطولتها رفيق على أحمد الممثل اللبناني الكبير وأخرجها روجيه عساف حيث نرى ذلك التضفير بين الأصالة والمعاصرة لمواجهة ويلات الحرب في لبنان. أو على حد تعبير»رفيق على» في حوار له مع نديم جرجوة نشر بالعدد الثاني من جريدة «الفنون» الكويتية فبراير 2001: «أنها اختصرت مرحلة الانتقال من مسرح الحكواتي – بطبيعته الجماعية – الذي يقدم الحكاية في شكل مسرحية، إلى الفرد الواحد، فهي عودة إلى الأصالة مع استعمال تقنيات اكتسبناها خلال تجربة الحكواتي، التي هدفت إلى لقاء الجميع – من دون استثناء – دفاعا عن مجتمعنا  وذاكرتنا ضد همجية الحرب التي التهمت ذاكرة الناس والمجتمع وقسمته إلى فئات وطوائف».
ويظهر من كلام رفيق على السابق إحدى الوظائف الدرامية التي غلفت المنتج الفني لمسرح الحكواتي الذي أعاد صياغته «عساف» في لبنان وانتشر بعد ذلك في الوطن العربي، فعرض «الجرس» جاء بمثابة إعلان صارخ للمأزق اللبناني بفضحه لهشاشة البنية السياسية والفكرية، والنسيج الاجتماعي، وبإيغاله في خصوصية النفس البشرية التي عانت التمزق والتشرد والخراب.
أو بمعنى آخر حاولت التأريخ للحظة إنسانية فاصلة من خلال سرد أحداث الوجع الإنساني للمواطن اللبناني دون مواربة أو تخوف، نظرا لأنها جاءت في بداية مرحلة انتقالية هامة في تاريخ لبنان، فمع بداية التسعينيات احتدم النقاش على المستويين الداخلي معتمدا على أسئلة محورية، منها كيفية صنع سلام ثابت على أسس عصرية، تحترم الخصوصية اللبنانية في أطرها المختلفة الثقافية والأيديولوجية.
وهنا برز صراع خطير بين متناقضين:
انبثق الأول من اللامبالاة المدوية إزاء ضرورة إزالة الحرب اللبنانية، وتفعيل المصالحة الوطنية الحقيقية.
وسعى الثاني بكل ما لديه من طاقة ثقافية وفنية إلى بلورة ثقافية مضادة لمنطق الحرب واستمرارها بأشكال مختلفة، بناء على مشروعها الداعي إلى سلم أهلي، عماده هذا المجتمع المدني العلماني. 
وقد راهن «عساف» على منطق المواجهة وضرورة أن يظل للمسرح دوره التنويري رغم انهيار ذاكرة الكثيرين الذين تمسكوا بشعارات زائفة، رغم تخلي الكثيرين – أيضا – رهاناتهم السياسية، ولا يوجد وصفا أدق من تساؤل الشاعر عباس بيضون في جريدة «السفير» 5/11/1997 حيث يقول: «ما الذي يبقى هذا الرجل واقفا في حين كان عليه أن يرحل من زمن، ألم يشهد سقوط رهانه مرة بعد مرة، رهانه السياسي ورهانه المسرحي، ورهانه الشخصي – ربما انهارت الذاكرة – بالتأكيد، انهار الجمع وانهارت الوحدة وانهار الشارع، لكنه بقى،  سقطت رهانات لكن مسرحه بقى،  وبمقدار ما تهاوت رهاناته تغذى مسرحه، وبمقدار ما عض بالمرارة سقى مسرحه منها،وبمقدار ما بدت أطروحته نفسها نائية وبعيدة ازداد فنه قوة، لقد وضع في مسرحه السقوط والمرارة والخسارة، فهذا المسرح لم يكن مصداق أطروحة، بل كان بحق تراجيديا انهيارها، وأحيانا صخب وغضب وهزء هذا الانهيار».
وبالفعل فهذا الكلام الدال على متلق واع وشاعر متمرس كعباس يبضون يوضح لنا طبيعة الأداء الملحمي عند «عساف» الذي جاء ليلقي بالنص المكتوب في زاوية صغيرة على خشبة المسرح بينما يعطي المساحة الأوسع والفضاء الأرحب لنص مسرحي يتشكل عبر التدريب الجاد على فنون الإلقاء والحكي واستعادة الذاكرة الجمعية واستخلاص التيمات الشعبية دون اقتحام الفعل اللغوي وتشعباته سواء كانت جمالية أو غير جمالية، والهدف من وراء ذلك هو إنتاج عناصر تفاعلية بين الممثل والجمهور، وهي طريقة – ربما تكون – أشبه بالطريقة الملحمية التي اشتهر بها مسرح «برتولد بريخت»، وتذكرنا – أيضا – بالمعادلة المعكوسة التي ابتكرها «لويجي بيرانديلو» والتي لجأ فيها إلى إبراز الممثل فوق النص.
وكثيرا ما يحاول «عساف» المراوغة في تسمية عروضه فنراه يطلق عليها في كثير من الأحيان «اللعبة المسرحية»، ولعله يكون محقا في تسميته هذه نظرا لما تحثه العروض من متعة شكلية للمتلقي وإيقاظ جوهري لوعيه الكامن بأسلوب كاريكاتوري يعتمد على الحركة الكاسرة للحظة الاندماج بين الجمهور والممثل.
ونظرة سريعة إلى مسرحيته «جنينة الصنايع» والتي عرضت على مسرح»الغد» بالقاهرة، وقام ببطولتها حنان الحاج علي وبرناديت حديب وعصام بوخالد وفادي أبي سمرا وبيتي توتل صغير وأنطوان بلابان، والتي دارت حول مجموعة من الممثلين تسعى للإفلات من سيطرة مخرج مستبد لتمثل مسرحية تحكي عن حادث قتل بشع، تلقى فيه جثة الضحية مقطعة في «جنينة الصنايع»، يختلف الممثلون فيما بينهم حول الحادث ودوافعه، وفي نفس الوقت تبدو المدينة في الخلفية كجثة تحت وطأة رافعة بناء مسيطرة.
والعرض – كما نرى – ينطلق من بيروت الممزقة والمنهكة بعد حرب أهلية طويلة ليطرح أسئلة حول العنف والسيطرة والقسوة، وهي أسئلة – بالتالي – تصلح وبلا شك لوقتنا هذا.
«روجيه عساف» كان حريصا على أن يضع يده على بعض الجراح السياسية والاجتماعية قدر حرصه على أنيعبر كل ممثل عن إمكانياته التمثيلية، يتضح –ذلك – جيدا من خلال تنوع الأدوار التي قام بها كل ممثل على حدة، خاصة «حنان الحاج» التي أدت شخصية «آمنة» التي عبرت من خلالها عن انكسار المرأة وهشاشة دورها في ظل مجتمع ذكوري مستبد يعتمد على أحادية النظرة، وفكر الإقصاء لا التجاوز.
أما فادي أبي سمرا فقد نجح في تجسيد دور «الكلب» في شكل كاريكاتوري ساخر وفاضح في آن، وكاشف لكثير من العورات الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع الأبوي، كذلك جاء دور «برناديت حديب» ملفتا، حيث أدت دور الخادمة السريلانكية.
العمل في مجمله تجربة جمالية تعاون في تأليفها روجيه عساف وحنان الحاج علي وإيليان الراهب وحنان عبود ومحاسن العجم، وقد اعتمد هذا الفريق على عدة مصادر أدبية واجتماعية منها رواية «جريمة في البيت» ليوسف سلام ومسرحية «مسألة هوية» لمحاسن العجم وعدة تحقيقات لتينا أشقر.
وحول هذا العرض يقول «عساف»: «سنوات من الرفض للمسرح الإبهامي والخداعية المسرحية بحثا عن الهوية، توقا إلى علاقة صحيحة مع الواقع رغبة في مركز تتوحد فيه النفس مع الفن، والآن طواف الأسئلة محصورة داخل عالم يضيف يوما بعد يوم، ما الهوية إلا فرضية قيد الإثبات، وما الواقع إلا حصيلة اعتبارات ممكنة، مجموعة احتمالات، وما الخروج من الأعراف وعدم الامتثال إلا ابتكار أعراف جديدة للإيهام، وما قول الحقيقة إلا طريقة من طرق الكذب»».
«جنينة الصنايع» لعبة مسرحية دون سابق تصور وتصميم، هي كمين لصور افتراضية، تمثيل، والتمثيل في المعجم عملية حيوية يحول بها الجسم الغذاء إلى مادته، جمالية المسرحية أن كل أحداثها تشبه الحرب المنصرمة  والحال التي كانت سائدة في لبنان قبلها وخلالها، لكنها في كل تفاصيلها حقيقة، والجديد فيها هو الموقف منها، فعساف يؤرخ للحرب وأوزارها بطريقته الخاصة التي تكشف وتحلل وتغوص في عمق التفاصيل دون أدنى مباشرة، لأنه يرى – دائما – أن المسرح الجاد يكمن خلف الأقنعة.
 


عيد عبد الحليم