«سلاطين الهلايل».. رؤية تجريبية في تناول (السيرة الهلالية )

«سلاطين الهلايل»..  رؤية تجريبية في تناول (السيرة الهلالية )

العدد 722 صدر بتاريخ 28يونيو2021

صدر عن دار الأدهم للنشر والتوزيع كتاب “سلاطين الهلايل” (113 صفحة ) - 2020 -  تأليف ( بكري عبد الحميد )، الذي يقدم لنا نصا مسرحيا جديدا متميزا سواءا أكان علي مستوى الطرح كعمل  تجريبي حداثي، أوعلي مستوى التناول.. حين يعود إلي سيرتنا الهلالية الشعبية التي يعدها العالم من التراث الشعبي الحي حتي الآن .
والنص ثلاثية مسرحية الأولي بعنوان «الهلالي» “ وكتبها عام 2004، والثانية بعنوان “تغريبة بني هلال» عام 2017 ، والثالثة بعنوان «أبواب تونس» عام 2019، وبذلك يكون قد كتب الثلاثية أو النصوص الثلاثة على مدى خمسة عشر عاما ..
والنصوص الثلاث تتمحور حول محاولة «دياب بن غانم»  أحد أبطال هذه السيرة الاستيلاء علي (سعدي) (بنت الزناتي خليفة) سلطان تونس.. بعد أن قتله بحربته ، وأن يُنصب نفسه سلطانا على الجميع.. بما فيهم (الهلالية) الذين خرجوا لغزو تونس للافراج عن مساجينهم أبناء سلطانهم حسن (مرعي ويحي ويونس) حين استبدت الرغبة  (بدياب) في أن يستولي علي كل شيء بصفته المنتصر وحدة ، لأنه هو الذي قتل الزناتي  سلطان تونس بحربته ، وتقاومه (سعدى) التي أحبت (مرعي)، وهي التي وساعدت الهلالية فى غزو تونس مملكة أبيها – لكنه (سعدى) تمتنع علي (دياب) وتستغيث ببني هلال لينقذوها من براثنه -  لكن دياب لا يعبأ ويرى أن الهلالية موتي ولا يجرؤ أحد علي مواجهته .
الملفت للنظر  في هذه الثلاثية التي تركز علي شهوة اغتصاب (سعدى) بالقوة التي استبدت بدياب، والكاتب هنا يحاول الرجوع إلي (متن) السيرة  وراوياتها المتعددة فيظهر تقريبا أبطال هذه السيرة منذ ( ديوان المواليد ) إلي (التغريبة) وغزو تونس لذا نجد أبطالها حتى جيل الآباء والأمهات مثل (خضرة الشريفة والدة (أبو زيد) ، ووالده (رزق الهلالي)، والشخصيات الاخري من أجيال مختلفة.. التي جاء ذكرها في (الملحمة)، وأضاف المؤلف الي شخصيات السيرة شخصية  جديدة ترافق دياب في شروره هي علي التوالي  في النصوص الثلاثة ( غراب البين ، رمز الكراهية والحقد والغواية  والبوار ) ،وكذلك (العراف ) أي ضارب الرمل الحاضر في النصوص الثلاثة بأسماء مختلفة وهي (الأغبر والنوحي) ويأتي حوار النصوص الثلاثة بلهجة محلية بحتة هي لهجة جنوب الصعيد ، وهي لهجة ذات جماليات خاصة بها في محاولة للاقتراب من المتلقى الذي يجهل تفاصيل أحداث السيرة وأسرارها على مدى سنوات طوال -  الأمر الذي يجعل (المتلقي) -  خاصة هؤلاء الذين لا يعرفون تفاصيل السيرة الأصلية في حالة من الابهام والمتاهة والغموض ، وان جاء مركز (الثقل) في الموضوع هو : (سعدى) بنت الزناتي خليفة سلطان تونس العاشقة(لمرعي ) الهلالي ومحاولة (دياب) الاستيلاء عليها أو امتلاكها واغتصابها ومحاولة سعدى الإفلات منه.. بعد أن فرطت في سبيل حبها لتخون وطنها تونس .. لكن كثرة الشخصيات خلق الكثير من التشويش على هذا الموضوع-  فقد قصد المؤلف أن يركز علي فكرة اغتصاب (دياب ) (لسعدي)  ، ومحاولة (سعدى) أن تشهد الهلالية وتستدعيهم من الماضي البعيد أو القريب علي ظلم دياب الذي لم يعد يراعي تقاليد القبيلة وأصول أخلاقياتها ، ويربط المؤلف بشخصيات الشر (غراب البين ، والأغبر، والنوحي) التي ابتدعها .. ليكتشف حالة الشؤم والخراب الذي هبط علي هؤلاء القوم الذي يراهم (دياب) موتي قد سكنوا القبور ولم يبقي حيا سواه بعد أن استولى على تونس .. بينما يظل (صوت الزناتي) يطارد ابنته (سعدى) ويوصيها بتونس وأسوارها بعد أن فرطت فيها بسبب حبها (لمرعي) الذي ضيعها لمرعي وضيع تونس سلطنه أبيها .
ورغم اعتماد الكاتب في الأساس علي أهل الجنوب في صياغة حواره العامي  المليئ بالزخم الشاعري، ونلمح درايته وعلمه بلغات خشبة المسرح والتعامل مع  بوعي ودراية سواء في تفاصيل الإضاءة والحركة والإيقاع والمعادل الصوتي المؤثر  في (الموال) وعلي الربابة (العراف) ، و(الندب الشعبي) ، أي المراثي الشعبية والبكائيات ، وفقرات من السيرة الهلالية  يرويها شاعر الربابة أي شاعر السيرة كما في ختام النص الثاني حيث يشير (صوت الربابة)الغاضب الذي يصاحب محاولة اغتصاب سعدى – صراخ نساء  ملتاعة والعويل في الخلفية غير واضح. ونشهد في النص الثاني من الثلاثية مواويل من السيرة وأن كانت (لا يتضمنها النص المكتوب) معتمدا علي ديوان (المواليد) في هذا النص من الثلاثية في (شكل المربع) الذي تؤدي به السيرة في الجنوب ، وأحيانا يجمع ما بين الموال من السيرة و(العدوده) الجنوبية.. (دون ذكر لنص الموال أو العدوده . أما في النص الثالث نجد (غراب البين ، والأغبر، النوحي ) في صورة جميلة ووسم ، وكأننا قد وصلنا إلي نوع آخر من الشر هو شر الأجنبي المٌقنع حيث يتوجه (دياب) لانتهاك سعدى والاستيلاء عليها .. كما استولي علي تونس وقهر قبائل هلال التي صحبته كواحد من أبناء قبيلتهم (الهلالية ، الزغرابة) التي ينتمي إليها دياب الزغبي.
ويبدأ  النص الثالث (أبواب تونس ) بالموت حيث تتمني (سعدى) الموت ولا يأتي .. فيجيبها (النوحي) أحد أسماء الشر بأن الموت جاهز لمن يطلبه في شخص دياب ويقرر بأنه لن يسمح لها بالموت ، وينتقل المشهد إلي عرش الزناتي وحوله رجالة (الأمير معبد)، و(سعدى) في ملابسها الملكية، ليعيد تجسيد تفسير حلم الزناتي الشهير علي لسان (العراف) الذي هو(النوحي).. ليزداد الأمر غموضا وينتقل المشهد إلي مجلس السلطان حسن وأولاده (يحي ومرعي ويونس)، حيث يتنبأ  العراف بنهاية سعدى المفجعة.. فيكاد كل طرف أن يفتك بالعراف ، ويركز هذا النص الثالث علي شخصية (الزناتي) ، ويكشف حيرة (سعدى) بين حبها (لمرعي) الهلالي وإخلاصها لأبيها الزناتي الذي يطاردها بصوته البعيد ..   فيحرضها (العراف) علي خيانة أبيها لتنحاز إلي مرعي وقبيلته ، ويستعيد الكاتب مشهد أمنية (خضرة) عند البحيرة لتلد في النهاية ( أبي زيد) الأسمر وتكون نهايتها الطرد من قبيلة الهلالية، وينتقل المؤلف بين المشاهد المتفرقة من “السيرة” لنري في النهاية رجال الهلايل وقد أصابهم العمي ولا يسمعون بعد أن خرجوا من القبور ، ولا يبقي سوي (دياب) وقد استطاع  الكاتب بكري عبد الحميد أن يكشف عن تشرزم العرب وسقوطهم فى هوة الانشقاق والفرقة والعداءات ليعكس وضعا آنيا لامتنا العربية التي تسقط وتنهشها الهزيمة والخذلان  وظلم أهلها بعضهم لبعض.
وأخيرا فإن (سلاطين الهلايل ) نص جرئ ومغامر ينبئ عن ظهور رجل مسرح متمرس -  لكن تظل الخطيئة الكبرى أن (المتلقي) الآن الذي انقطعت اواصرة بالتراث الشعبي وعلى رأسه (السيرة الهلالية) ، بما لم يتح له استيعاب تفاصيلها، وإدراك مغزاها.. حيث وضعة مؤلفنا في حالة غموض ومتاهة تحرمه من متعة التلقي والفهم ..!!


عبد الغنى داوود