إيطاليا والمسرح في مصر في القرن التاسع عشر

إيطاليا والمسرح في مصر في القرن التاسع عشر

العدد 623 صدر بتاريخ 5أغسطس2019

مسارح الإسكندرية
إذا انتقلنا إلى عاصمة مصر الثانية، وأقصد بها الإسكندرية – معقل الجاليات الأجنبية، وتحديدا الجالية الإيطالية – سنجد العروض المسرحية الإيطالية، هي العروض الأولى، التي تم عرضها على مسرحي زيزينيا وروسيني عند افتتاحهما في ديسمبر 1864. وظلت العروض الإيطالية هي المهيمنة على هذين المسرحين طوال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. وقد نجحت الصحف الإيطالية، التي كانت تصدر في الإسكندرية، مثل جريدة «إيكو دي إيجيتو L’eco di Egitto» في تتبع العروض الإيطالية وتوثيقها في هذين المسرحين منذ عام 1866. وللأسف لا أستطيع الاعتماد على هذه الصحيفة؛ حيث إن البحث يعتمد فقط الكتابات العربية!!
وبناء على ذلك، سأبدأ بالحديث عن مسرح زيزينيا، عندما بدأت جريدة الأهرام تنقل أخبار عروضه الإيطالية، قائلة يوم 21/ 1/ 1881 تحت عنوان (المسيو أرنست روسي): «هو المشخص الإيطالي المشهور، الذي حضر عواصم الدنيا، وشخّص فيها. فكان له في كل محل المقام الأول في التشخيص والشهرة السامية. ونال من حكومته وسواها نياشين الافتخار. ففي هذه الأثناء أتى ثغرنا ليقدم 12 رواية، يبتدئ بها من مساء غد (السبت)، ومعه جوق مؤلف من أربعين شخصا بين ذكور وإناث. وقد اقتبله جم غفير من التبعية الإيطالية وسواها، وقابلوه بالترحيب والإكرام، جراء لما للكومندور المذكور من الشهرة في هذا الفن. وإننا نحث أبناء اللغة العربية إلى الاشتراك في حضور التشخيص، لما هنالك من الفائدة، خصوصا لأن اللغة الإيطالية هي لغة عامة في البلدة. وعندنا أن الحضور المستمر يبعث على الغيرة، ويبث روح الهمة فنتقاسم مع سوانا حقوق المسرة والفائدة». وإشارة الجريدة في نهاية الخبر إلى حث الجمهور العربي في الإسكندرية على حضور هذه العروض؛ التي تُقدم باللغة الإيطالية، دلالة قوية إلى مدى الترابط بين المصريين والجالية الإيطالية. ومن مظاهر هذا الترابط، أن اللغة الإيطالية في الإسكندرية، أصبحت لغة عامة مثلها مثل اللغة العربية!».
وواصلت جريدة الأهرام تتبعها لعروض هذه الفرقة، فنقلت لنا وصفا تفصيليا دقيقا لأول عرض، وكان بعنوان (كين)، الذي حضره جمهور كبير. وقد أجادت الجريدة في وصفها لبطل العرض روسي وتمثيله، قائلة يوم 24/ 1/ 1881: «وأول ما ظهر المسيو روسي في ساحة المرسح، صفق له الجمهور، وطالما اتبع التصفيق إشارة الاستحسان بعد ذلك، لما أتى به من حسن الحركات، والإلقاء، والترتيب، والتشخيص العام. حتى لم يكن يظن أن هنالك تقليدا. والغريب أنه تقمص تحت صور شتى، فظهر عاشقا، ثم مشخصا، ثم بطلا. وكان في كل موضوع يأتي بالحركة الطبيعية، حتى خيل للحضور أن الأمر واقعي. وتلك هي البراعة التي بها يتفاوت المشخصون. والخلاصة أن المسيو المذكور لم يكتسب هذه الشهرة عن حسن حظ، بل عن اتقان واجتهاد. فكان له بين رجال هذا الفن مقام سام. وكفى ما أظهر له الجمهور في الليلة المذكورة من إشارات المسرة؛ فإنه كان يظهر أمامهم بعد إسدال الستار أكثر من ثلاث مرار، استدعاء للتصفيق. وانصرف من حضر مثنيا شاكرا».
واستمرت جريدة الأهرام – طوال يناير وفبراير 1881 - في تتبعها لأخبار هذا الممثل وفرقته، فنقلت لنا اهتمام جميع الجرائد بعروضه، لدرجة أن أهالي القاهرة شعروا بالغيرة من أهالي الإسكندرية، وطالبوا بحضور الفرقة لتعرض عروضها في الأوبرا الخديوية بالقاهرة – وهو الأمر الذي حدث بالفعل – كما أسهبت الجريدة في وصفها لعرض مسرحية «لويس الحادي عشر»، التي عرضته الفرقة في زيزينيا، ولاقى استحسان الجميع، مما دفع الجالية الإيطالية إلى إقامة وليمة عشاء في أوتيل أبات، على شرف المسيو روسي وفرقته. وقد ألقى الأديب (فابري) في هذا الاحتفال خطبة بليغة.
وفي مارس 1881، جاءت الفرقة الإيطالية – التي كانت تعرض في الأوبرا الخديوية – إلى الإسكندرية، وعرضت في زيزينيا مسرحية «لوسيادي لامرمور». كما قدمت مسرحية أخرى، خُصص دخلها - والذي بلغ عشرة آلاف فرنك - لمدارس البنات الإيطالية. وفي مايو ويونيو 1881، عرضت الفرقة الإيطالية بقيادة المسيو (اليبراندي) عروضا مسرحية في الإسكندرية، بصورة تبادلية بين مسرحي زيزيتيا وروسيني.. هكذا أخبرتنا جريدة الأهرام.
وفي الرابع عشر من مارس سنة 1882، احتفلت الجالية الإيطالية بعيد ميلاد ملك إيطاليا «هومبرت الأول»، وذلك بإقامة احتفال فني كبير في تياترو زيزينيا، اشتمل على عروض مسرحية وفقرات راقصة، وخُصص دخله – البالغ ثمانية آلاف فرنك - لمساعدة مدرسة البنات الإيطالية. وحضر هذا الاحتفال محافظ الإسكندرية، وقنصل إيطاليا، وقمندان وقادة وضباط الدارعة «أفوندارتوري»، وهي سفينة حربية إيطالية، كانت راسية في ميناء الإسكندرية.
وهذا الاحتفال تكرر في مارس من العام التالي، وقالت عنه جريدة الأهرام في 9/ 3/ 1883: «عزمت التبعة الإيطالية على أن تقيم مساء 14 الحالي، ليلة راقصة في تياترو زيزينيا، احتفالا بعيد مولد جلالة الملك هومبرت الأول. وقررت اللجنة العاملة، أن يقسم دخل الليلة إلى قسمين: أحدهما يوزع على الفقراء بمعرفة الجمعية الإيطالية الخيرية، والآخر يُنفح سعفة لمدرسة البنات الإيطالية، التي قضت الحوادث بإحراق محلها القديم، فنحث الجمهور على الحضور للاشتراك في العمل الخيري، ونوال الأجر مقابل الغاية المقصودة». والمقصود بالحوادث التي أدت إلى إحراق المدرسة، هي حوادث الثورة العرابية، وحصار الأسطول الإنجليزي للإسكندرية، وضربها بالمدافع في يوليو 1882.. إلخ الأحداث، التي أدت إلى احتلال إنجلترا لمصر!».
ومن أنشطة الفرق الإيطالية المسرحية بمسرح زيزينيا عام 1890، عرض مسرحية «كليوباترا ملكة مصر» بطولة مدام البونورة روز، التي مثلت دور كليوباترا. وفي مارس 1898، أقامت جمعية محب الفقير اليونانية حفلة خيرية في مسرح زيزينيا، وعرضت فيه الفرقة الإيطالية مسرحية «الحمامتين»، وبلغ الإيراد ستمائه جنيه. وفي الشهر نفسه، قالت جريدة المقطم في 23/ 3/ 1898: «تحتفل الجمعية الخيرية للروم الكاثوليك، مساء يوم الخميس القادم، بإحياء ليلة باهرة في مرسح زيزينيا. يمثل فيها الجوق الإيطالي رواية من نخبة رواياته. وتكون تلك الليلة فريدة في بابها، لما تعودناه من أريحية أعيان طائفة الروم الكاثوليك».
وإذا تركنا تياترو زيزينيا، وذهبنا إلى مسرح روسيني بالإسكندرية - الذي تزامن افتتاحه مع افتتاح زيزينيا عام 1864 – سنجد الفرق الإيطالية، أقامت فيه مواسم مسرحية كاملة، وسنتخذ فرقة (المسيو اليبراندي) نموذجا لهذه الفرق، وتحديدا في موسم سنة 1881، الذي استغرق خمسة أشهر: من مايو إلى سبتمبر. وأول مسرحية أطلعتنا عليها الصحف العربية، كانت مسرحية «تريز راكين»، ذات أربعة فصول، والتي عُرضت بعدها مسرحية ذات فصل واحد بعنوان «حمام بارد» - كما أخبرتنا جريدة الأهرام في فبراير ومارس - والمعروفة عربيا بالفصل المضحك. وفي 7/ 6/ 1881، قالت جريدة الأهرام تحت عنوان (الجوق الإيطالي): «يوم الأحد الساعة 3 ونصف بعد الظهر، قدم جوق المسيو اليبراندي في تياترو روسيني، تشخيصا على ذمة مدارس البنات الإيطالية، إيذانا بوقوع عيد إيطاليا الشعبي. فحضرها تلامذة المدرسة الإيطالية، وعدد من الأهالي. وشكروا لألطاف المشخصين، الذين قدموا على سبيل العادة في تلك الليلة، رواية أتقنوا ألعابها».
وإذا تتبعنا نشاط الفرقة على مسرح روسيني، سنجدها تعرض مجموعة من المسرحيات، منها: «كوزي أدافيني»، و«ابن كورالي»، و«مقاتلة النساء»، و«جويف أران». وتُعدّ مسرحية «الكونت دي مونت كريستو»، مسرحية فريدة في عرضها؛ حيث عرضتها الفرقة على مدار أربعة أيام، كل يوم فصل من فصولها الأربعة!! وشرحت جريدة الأهرام هذا الأمر في عددها يوم 6/ 9/ 1881، قائلة، تحت عنوان (الجوق الإيطالي): «أعلنا قبلا، عن عزم الجوق الإيطالي، على تشخيص رواية الكونت دي مونت كريستو، في تياترو روسيني على أربعة أقسام، في أربع ليال. فقدم المشخصون القسم الأول والثاني ليلتي الأحد والاثنين، وسيشخصون في هذا المساء وغدا القسمين الباقيين. أما الازدحام فكان وافيا، وأما التمثيل فكان متقنا».
والجدير بالذكر إن هناك مجموعة كبيرة من المسارح الصغيرة في الإسكندرية، تأتي في الأهمية والقيمة بعد مسرحي زيزينيا وروسيني. وهذه المسارح، كان بها نشاط مسرحي أيضا من قبل الفرق الإيطالية، مثل مسرح البوليتياما، الذي سنتخذه نموذجا لهذه المسارح في موسم عام 1882. وتُعد فرقة المسيو كاستابنا، أول فرقة إيطالية تعرض عروضها على هذا المسرح، وبلغ عددها نحو ثلاثين ليلة عرض، وكانت التذكر تُباع بنظام الاشتراك في اللوجات بسعر اثنتين وعشرين ليرة إسترلينية، والاشتراك في الكراسي بسعر ستين فرنكا، ومن عروض هذا الاشتراك، مسرحية «إرناني»، كما أخبرتنا جريدة الأهرام بذلك من يناير إلى أبريل 1882.
وفي أواخر عام 1882، أصيبت بعض المدن الإيطالية بطوفان، أسفر عن جرجى ومصابين، فقامت الفرقة الإيطالية بمسرح البوليتياما، بعرض ثلاثة عروض مسرحية، خصصت دخلها لمساعدة الجرحى والمصابين في إيطاليا من جراء هذا الطوفان. وعن آخر عرض من الثلاثة، قالت جريدة الأهرام بتاريخ 21/ 12/ 1882: «تقدم ليلة السبت الماضي في تياترو البوليتياما، تشخيص على ذمة المصابين بالطوفان في إيطاليا العليا، فحضره جم غفير في جملتهم قومندان الدارعة الإيطالية (فورميدال)، وبعض القناصل، وكان الدخل وافرا».
التعاون المسرحي
هذا النشاط المسرحي الإيطالي في مصر – في القرن التاسع عشر – شجع الفرق المسرحية العربية في إقامة تعاون فني غير مسبوق!! ففي عام 1894، قام سليمان القرداحي صاحب الفرقة المسرحية الشهيرة باسمه – وعلى مسرحه – بتمثيل دور البطولة في مسرحية (عطيل)، التي عرضتها الفرقة الإيطالية!! حيث مثلت الفرقة باللغة الإيطالية، ومثل القرداحي دور البطولة فيها باللغة العربية!! وحول هذا العرض الفريد، قالت جريدة (السرور) في 1/ 11/ 1894: «مثل ليلة أمس حضرة النبيه المتفنن سليمان أفندي قرداحي، في مرسحه الشهير، دور أوتلو بالعربي مع الجوق الإيطالي، الذي شخص هذه الراواية. فأظهر من براعة التمثيل ما أدهش الحضور، وأكد لهم أن في سويداء التشخيص رجالا لهم في موقف التمثيل، المقام الأول بين رجال هذا الفن الجليل، الذي بدأت تظهر محاسنه في المراسح العربية. فنشكر حضرته على هذه الهمة المثلى، التي أزاح بها الستار عن غوامض هذا الفن».
والتعاون الآخر غير المسبوق أيضا، تم في عام 1897 – كما أخبرتنا جريدة المقطم - بين فرقة إسكندر فرح وفرقة إيطالية، اشتهرت بتقديم الفصول المضحكة والبانتومايم والفقرات الراقصة بين فصول المسرحية، أو بعد انتهائها. وأخبرتنا الصحف بأن إسكندر فرح قدّم على تياترو عباس بالإسكندرية مسرحية «حفظ الوداد» بطولة الشيخ سلامة حجازي، وتخلل فصول المسرحية فصل رقص بعنوان «العفريت الأسود»، قدمته الفرقة الإيطالية، وهو الفصل الذي قُدم مرة أخرى بعنوان «الشيطان الأسود». ومن الواضح أن النجاح كان حليف هذا التعاون، فتم اتفاق، أخبرتنا به جريدة المقطم يوم 31/ 5/ 1897، قائلة:
«قدم إلينا حضرة الأديب إسكندر أفندي فرح مدير الجوق العربي، وعقد اتفاقا مع القومسيون البلدي على تمثيل عشر روايات، من أبدع رواياته في تياترو عباس، يتخللها فصول رقص وبنطوميم، تقوم بها الجوقة الإيطالية، التي حازت شهرة عظيمة في ألعابها المتقنة، ومناظرها الجميلة. وقد فتح حضرته بابا للاشتراك عن الليالي العشر. ولا ريب أنه يلقى من إقبال أهل الثغر الإسكندري، ما يضمن له النجاح، لا سيما وأن شهرة هذا الجوق تغني عن الإطناب في مدحه. أما فئات الاشتراك فكما يأتي: بنوار 600 قرش صاغ عن الليالي العشر، لوج درجة أولى 500 قرش صاغ عن الليالي العشر، فوتيل 90 قرش صاغ. وتذاكر الاشتراك تباع في مكتبة حضرة الأديب جورج أفندي غرزوزى. وسيبدأ هذا الجوق بتمثيل أول رواياته مساء السبت القادم في 5 يونيو المقبل».
وبالفعل تم هذا الاتفاق - بهذا الاشتراك - ووصفت الصحف هذه العروض وصفا دقيقا، وسأكتفي بنقل وصفين لجريدة المقطم، لما فيهما من معلومات وتفاصيل عن الفرقة الإيطالية. الخبر الأول نشرته الجريدة يوم 10/ 6/ 1897، قالت فيه: «قدم من العاصمة جوق حضرة الأديب إسكندر أفندي فرح، وبدأ تمثيل رواياته البديعة في المرسح العباسي. فمثل مساء الأحد الماضي رواية (صلاح الدين الأيوبي)، ومساء الثلاثاء رواية (شهداء الغرام)، فأجاد الممثلون كل الإجادة. وقد تخلل التمثيل فصل رقص، قامت به ممثلات الجوقة الإيطالية، وفصل بانطوميم تخلله من المناظر الغريبة، وبدائع أعمال المهارة والخفة، ما يدهش النظار. وقد شهد أهل الإسكندرية عموما بأنهم لم يروا منذ عهد طويل ما يرونه الآن في فصول لوسيفيروس دواندا، والشيطان الأسود وغيرها. فنحث سكان الإسكندرية على اغتنام هذه الفرصة؛ لأن الجوقة الإيطالية على وشك العودة إلى بلادها».
والخبر الآخر، نشرته الجريدة يوم 18/ 6/ 1897، قائلة: «لا يزال جوق حضرة الأديب إسكندر أفندي فرح، يوالي تمثيل رواياته البديعة في المرسح العباسي. فقد مثل مساء الثلاثاء الماضي رواية (السر المكنون). ومثل هذه الليلة رواية (عظة الملوك). وقد أجاد الممثلون في تمثيل أدوارهم، ولا سيما المطرب المتقن الشيخ سلامة حجازي. وقد تخلل الفصول دور رقص قامت به الجوقة الإيطالية بين مناظر بديعة، لا يخالها الرائي إلا من طُرق السحر والشعوذة. وقصارى القول إن جوق حضرة فرح أفندي، كامل المعدات، يضارع الأجواق الأوروبية. فنحث الأهالي على انتهاز فيض السرور».


سيد علي إسماعيل