المسرح المصري في فلسطين قبل نكبة 1948 (5) نجيب الريحاني ينجح في فلسطين

المسرح المصري في فلسطين قبل نكبة 1948 (5) نجيب الريحاني ينجح في فلسطين

ترويسة مسرح الريحاني

العدد 683 صدر بتاريخ 28سبتمبر2020

بعد نجاح عروض الريحاني المسرحية في فلسطين عام 1930 - كما أوضحنا ذلك في المقالة السابقة - أراد الريحاني تكرار النجاح في العام التالي، وكان متعهد حفلاته «خضر النحاس». وأخبرتنا مجلة «الكشكول» المصرية في نوفمبر 1931، أن الفرقة سافرت بالفعل إلى بور سعيد لتستأنف السفر إلى فلسطين؛ ولكنها تلقت أمراً من حكومة فلسطين بعدم الموافقة على دخولها الأراضي الفلسطينية!! فاضطرت الفرقة إلى استعادة ثمانية وعشرين طرداً سبقت الفرقة إلى يافا!! وقد كشفت مجلة «الصباح» المصرية عن سبب هذا المنع - وهو الأزمة المالية العالمية - قائلة: «وقد تحرينا عن الأسباب التي دعت إلى ذلك، فعلمنا أنها ترجع إلى استحكام الضائقة المالية في هذه البلاد، ورغبة البلاد في حماية أهلها من إنفاق أموالهم على مشاهدة التمثيل، في وقت هم في حاجة فيه إلى القدر اليسير من المال».
مسرح سينما إديسون
في عام 1934، أقامت فلسطين معرضاً وطنياً تجارياً كبيراً في القدس لمحاربة البضائع الصهيونية، وكان بالمعرض مسرح كبير، استطاع متعهد حفلاته «ثابت درويش» أن يتفق مع بعض الفرق المسرحية المصرية، ومنها فرقة الريحاني لعرض المسرحيات أمام جمهور المعرض وزائريه من البلدان العربية؛ فظن مدير المعرض «محمد علي الطاهر» أن هذه الفرق تسعى إلى إفشال معرضه بتدبير صهيوني من خلال إلهاء جمهور المعرض بالمسرحيات، وقد أعلن ذلك صراحة في الصحف الفلسطينية!
وصلت هذه الأخبار إلى مصر، فسألت جريدة «المقطم» المصرية - في إبريل 1934 - نجيب الريحاني عن حقيقة الأمر - قبل أن يسافر إلى فلسطين – فقال: « لِمَ نحارب العرب، وهم منا ونحن منهم. بل بالعكس أننا نفرح لنهضتهم، ونتألم لما يصيبهم من ضير وأذى. فالدعوى التي تزعم أننا مأجورو الصهيونية باطلة من أساسها! فقد اتفق معنا للذهاب إلى فلسطين ناس من المسلمين المعروفين لنا بغيرتهم على دينهم وكرههم للصهيونية وأشياعها، أذكر لكم منهم «محمد الخالدي وثابت درويش». ثم كيف ينصرف الناس عن المعرض إلى شهود تمثيلنا، والمعروف أن المعرض مفتوح الأبواب في النهار، وأننا نحيي حفلاتنا في الليل، والمعرض مغلق الأبواب طول الليل. إنني أتحدى كل من يقول إننا ذاهبون للمعاضدة في محاربة المعرض، الذي نرجو له كل نجاح وتوفيق. إن اتفاق من ذكرت لكم معنا، عمل تجاري لا دخل للدين أو السياسة فيه! فهم يعلمون أن أيام المعرض تغص فيها فلسطين بالوفود من جميع الأقطار العربية، ولا بد لهذه الوفود من ملاهٍ تقضي فيها سهراتها البريئة المنزهة عن كل نقص وإثم. وأختم حديثي معكم بأني أكرر لكم حبنا للعرب ورجاءنا أن ينجح معرضهم ويوفق».
وسافرت فرقة الريحاني إلى فلسطين، وبدأت الصحف الفلسطينية تُعلن عن حفلاتها، مثل جريدة «الجامعة العربية» التي نشرت إعلاناً – كررت نشره في أعداد كثيرة – قالت فيه: « بشرى لعشاق الكوميدي بقدوم الأستاذ نجيب الريحاني «كشكش بك» إلى فلسطين مع فرقته الشهيرة المؤلفة من 40 ممثل وممثلة مع أوركسترا راقية واستعداد فني كبير، وسيبدأ عرض رواياته في القدس على مسرح سينما أديسون أيام 8 و9 و10 أيار القادم. ومن ثم يحيي حفلتين كبيرتين في يافا يومي 11 و12 أيار على مسرح سينما أبولو في العجمي». كما تابعت الجريدة نفسها أخبار العروض، فذكرت أن الفرقة عرضت على مسرح سينما أديسون مسرحيات: «الدنيا لما تضحك»، و«مستشفى المجانين»، و«ابحث عن المرأة».
ومن أمثلة ما نشرته جريدة «الجامعة العربية» عن عروض الريحاني، كلمتها تحت عنوان «كشكش بك في رواية الدنيا لما تضحك»، قالت فيها: « مثلت أمس فرقة الأستاذ نجيب الريحاني روايتها الشهيرة الجديدة «الدنيا لما تضحك» على مسرح سينما أديسون، فأجادت فيها كل الإجادة، وأبدعت الإبداع كله ولا سيما الأستاذ نجيب الريحاني، الذي أضحك الحاضرين بفنه ونكاته المنتزعة انتزاعاً من روحه المرحة وطبيعته الفكهة. وقد اكتظت أمس دار السينما بالمتفرجين وامتلأت الألواج بالسيدات حتى لم يبق محل فارغ. وقد ابتهج المتفرجون كل الابتهاج بما سمعوا وشاهدوا من التمثيل الهزلي الراقي الذي كله عبرات ومواعظ. والذي انتقدناه وانتقده غيرنا من المتفرجين هو التأخر في الابتداء بالتمثيل، فقد شرع فيه بعد التاسعة والنصف وانتهى منه في الثانية بعد منتصف الليل. وهذا التأخر يحرم الكثيرين الذين يرغبون في العودة في الليالي التالية لمشاهدة التمثيل من تحقيق رغبتهم؛ لأن الإفراط في السهر لا يمكنهم من ذلك فنرجو أن يحل متعهدو الحفلات ملحوظتنا هذه محلها من الاعتبار وأن يشرع بالتمثيل قبل التاسعة».
الإعلان الغريب
في منتصف مايو 1934، قرأنا آخر إعلان منشور عن الريحاني وفرقته في هذه الزيارة، نشرته جريدة «الجامعة العربية»، وأوضحت فيه إن الفرقة ستعرض مسرحيتين في حيفا على «مسرح سينما عين دور»، هما: «ابحث عن المرأة»، و«الدنيا لما تضحك». وإلى هنا تنتهي أخبار الريحاني في هذه الزيارة التي انتهت في مايو 1934. وقبل أن أنتقل إلى زيارة الريحاني التالية، يجب أن أعترف بوجود إعلان مسرحي منشور في جريدة «الدفاع» الفلسطينية في 3 أغسطس 1934 عن كشكش بك، لم أستطع تفسيره أو تحديد ملكية صاحبه: هل هو إعلان لنجيب الريحاني، أم لأمين عطا الله؟ والأرجح أنه يخص الريحاني، لأن في العدد نفسه من الجريدة يوجد إعلان آخر صريح باسم أمين عطا الله، بوصفه «كشش بك»!! وهذا يؤكد أن الإعلان المقصود يخص الريحاني! وهنا يجب أن أعترف أيضاً بأن هذا الإعلان يخص عروض الريحاني في «المعرض العربي بالقدس» الذي تحدثنا عنه من قبل، والذي لا أملك دليلاً واحداً على تنفيذ ما في هذا الإعلان، لسبب بسيط، وهو أن الريحاني كان موجوداً في فلسطين في مايو، وهذا الإعلان منشور في أغسطس! ولا أظن أن الريحاني زار فلسطين مرتين في عام واحد!! هذا بالإضافة إلى أن الإعلان منشور يوم 3/8/1934 وفي هذا التاريخ – وقبله وبعده -  كان الريحاني يعرض مسرحياته في كازينو لونابارك بالإسكندرية، كما نشرت جريدة «المقطم» المصرية في إعلاناتها ابتداء من 2 أغسطس إلى 9 أغسطس 1934!! أما الإعلان الغريب التي نشرته جريدة «الدفاع» الصادرة في يافا، فهذا نصه:
« يُرفع الستار الساعة التاسعة والنصف تماماً .. «اطمئنوا» .. فقريباً يعود إلى يافا «كشكش بك» لإحياء ثلاث ليالٍ على مسرح قهوة «المعرض العربي» في الهواء الطلق .. كراسي جيدة ومنمرة .. محلات خصوصية للسيدات .. المرح والسرور والضحك المتواصل .. ثلاث ليال من العمر فقط .. فرصة قد لا تعود فاغتنموها .. أبدع الروايات الفكاهية والمنولوجات الشعبية .. تمثيل وإلقاء أشهر الممثلين والمنولوجيست، 30 ممثل وممثلة، فانتظروا مساء الجمعة 3 أغسطس والسبت 4 أغسطس والأحد 5 منه .. «فيلا كايدا أو الحب يقتل» .. «عش الغرام أو الشاطر حسن» .. «ورشة المراكب أو معرض الجمال» .. أسعار التذاكر درجة أولى 120 ملا، درجة ثانية 80 ملا .. ألواج أمامية لأربعة أشخاص سعر جنيه واحد .. اطلبوا التذاكر لحفلات «كشكش بك» من السادة: نمر ناصر طريق المنشية، وشاكر عبد الجواد باب السرايا، ومحمد سعيد الحلواني».
هذا الإعلان ربما تُزال غرابته، لو عرفنا أن الريحاني دائماً كان حظه عاثراً في رحلاته إلى فلسطين، ولعل السر في ذلك – ما أشرت إليه من قبل - أن أمين عطا الله هو «كشكش بك» المعروف والمعتمد في فلسطين، لذلك كان الفشل والحظ العاثر من نصيب الريحاني! بل وكان الريحاني عازفاً عن السفر إلى فلسطين لهذا السبب! وتأكيداً على ذلك، هذه الواقعة، التي ذكرتها جريدة «أبو الهول» في أكتوبر 1941، قائلة تحت عنوان «إلغاء رحلة الريحاني إلى فلسطين»: كان الأستاذ نجيب الريحاني قد تعاقد على السفر في رحلة إلى فلسطين، مع فرقته أول نوفمبر. وقد وقّع العقد فعلاً في الأسبوع الماضي. وفي مساء الخميس الماضي بينما كان الأستاذ نجيب جالساً في غرفته استعداداً للتمثيل، فوجئ بمتعهد هذه الحفلات يقول: « أنا عايز تعمل معروف يا أستاذ، تأجل الرحلة كام يوم عن الموعد اللي اتفقنا عليه» ولم يتركه الأستاذ الريحاني يتمم حديثه وقال له: «جيت للحق، كمان أنا الفار بيلعب في عِبّي من ساعة ما كتبت الكونتراتو ده .. لا تأجيل ولا مش تأجيل .. أحنا نقطع الكونتراتو ستين حتة»! وقد نُفذ اقتراح «التقطيع» وأُلغيت الرحلة.
آخر رحلة إلى فلسطين
بعد غياب تسع سنوات، زار الريحاني فلسطين، ومهد لقدومه «إبراهيم الشنطي» رئيس تحرير جريدة «الدفاع»، بكلمة - غير مسبوقة في معلوماتها - نشرها في يونية 1943، تحت عنوان «من هو الأستاذ نجيب الريحاني؟»، قال فيها: « يزور فلسطين بعد أسبوعين نابغة المسرح المصري، الممثل الكوميدي الشهير الأستاذ نجيب الريحاني. ولا شك في أن نجيب الريحاني – رغم أنه لم يزر فلسطين منذ خمس عشرة سنة – معروف كل المعرفة لدى الجمهور الفلسطيني الكريم، الذي قدر مجهوداته الفنية وأعجب بتمثيله الرائع وأدواره المتقنة فيما مثله من روايات. والريحاني أقدر ممثل كوميدي يضع الحوادث الواقعة في أدواره المضحكة لانتقادها أو لإظهار محاسنها. ورواياته كلها فيها درس وعبرة وتسلية. وميزة الأستاذ الريحاني التي تفرد بها دون غيره من ممثلي مصر الكبار، هي أنه قام بالتمثيل أمام عدد كبير من الملوك والأمراء والكبراء. فقد قام بعرض قطع من فنه الرائع أمام المرحوم الملك فؤاد. كما مثل عدداً من رواياته أمام صاحب الجلالة الملك فاروق، وصاحبة الجلالة الملكة، وأنعم عليه حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق بنيشان النيل، تقديراً لفنه العظيم ونبوغه النادر بالتمثيل. وفي سنة 1938 عندما زار سمو الأمير شاهبور القاهرة لعقد قرانه على صاحبة الجلالة الأمبراطورة فوزية، عرض الأستاذ الريحاني فنه وتمثيله أمام الأمبراطور. فأعجب به الأمبراطور وشجعه وأنعم عليه بجوائز ثمينة. ولم يكتف الريحاني بتقدير الملوك لفنه، بل حاز أيضاً تقدير الحكومات والهيئات. فقد أمرت له الحكومة المصرية في هذه السنة بألفي جنيه مصري إعانة لفرقته. وهذا المبلغ أكبر مبلغ تحصل عليه فرقة تمثيلية مصرية من حكومة مصر، وفي هذا ما فيه من تقدير خاص لفن الريحاني ونبوغه، ولم تكتفِ الحكومة المصرية بتقديم الهبات المالية له، بل عمدت أخيراً وأباحت له التمثيل في دار الأوبرا الملكية، دار الحكومة الرسمية للتمثيل، مع أن التمثيل في الأوبرا مقصور فقط على الفرقة المصرية الحكومية. وهناك ميزة أخرى للأستاذ الريحاني، وهي أنه حظي بعطف وتشجيع وتأييد جميع الطبقات الشعبية. فمسرح «ريتس» في شارع عماد الدين بالقاهرة، يزدحم كل ليلة بالأمراء وصفوة الكبراء والزعماء وفضليات السيدات والأوانس، لمشاهدة هذا الممثل العجيب الذي طبق فنه الآفاق. والميزة الثالثة للريحاني الذي سيصل يوم 24 حزيران الجاري لهذه البلاد، هي أنه قادم ليعرض آخر منتوجاته الفنية العظيمة، لا طمعاً بالشهرة، فشهرته قد سبقته، وإنما حباً بالجمهور الفلسطيني، ورغبة منه في أن يشاهد الجمهور العربي ما وصلت إليه الفنون المصرية من تقدم ونجاح».
وعلى الرغم من القول بأن الريحاني لم يزر فلسطين منذ خمسة عشر سنة – والحقيقة إنها تسع سنوات فقط – إلا أن هذا التقديم، كان إعلاناً موفقاً لتعريف الجماهير في فلسطين بمن هو الريحاني! وفي المقابل نشرت مجلة «الصباح» المصرية حواراً مع الريحاني – في يونية 1943 أيضاً – وسألته: ما هو الغرض الذي ترمي إليه من رحلتك إلى فلسطين؟ فأجاب: إذا كانت لي آمال من رحلة فلسطين، فإنها تنحصر في أمل واحد، هو أن أعمم رسالتي الفنية في هذا القطر الشقيق! ففلسطين كقطر متحضر، وشعب فلسطين كشعب شقيق عزيز، له علينا حق واجب. هذا الحق هو أن يفوز بنصيب من الفن المصري فيستمتع به، ويأخذ منه ما يراه من دروس. وليسجل ما يراه عليه من نقد وملاحظات. وعندما سألته المجلة: لقد مضت أعوام طويلة لم تسافر فيها إلى فلسطين فلماذا؟ فأجاب: إن تفكيري في رحلة فلسطين هذا العام، لم يكن من أجل الشهرة، أو السعي وراء الربح. ولكن لأطفئ لهيب الحنين الذي اندلع بين جوانحي لهذه البلاد الشرقية المجيدة، التي أحمل لها في نفسي كل إعزاز وإكبار.
وقد نشرت جريدة «الدفاع» الفلسطينية إعلاناً – قبل وصول الريحاني – أبانت فيه أن الفرقة ستعرض مسرحياتها في «سينما سيون» وهو الاسم المرادف الأول لسينما «صهيون»! ومن المسرحيات المذكورة في الإعلان - الذي تكرر كثيراً في أعداد الجريدة - «الستات ما يعرفوش يكدبوا»، و«حسن ومرقص وكوهين». أما مجلة «الصباح» المصرية، فقد أعلنت قائلة: «اليوم 24 يونيو تبدأ الأعياد الفنية في فلسطين .. الأستاذ نجيب الريحاني وفرقته، يقدم أقوى الروايات الممتازة من خلاصة إنتاجه الفني في عدة أعوام .. القدس على مسرح زيون [وهو الاسم المرادف الثاني لسينما صهيون] .. يافا على مسرح الحمراء .. حيفا على مسرح عين دور .. يقوم بالدور الأول ملك الكوميديا والفودفيل الأستاذ نجيب الريحاني مع صفوة ممثلي وممثلات الدرجة الأولى .. الروايات المقرر تمثيلها: «حسن ومرقص وكوهين»، «الدلوعة»، «استنى بختك»، «الستات ما يعرفوش يكدبوا»».
بدأت عروض الريحاني في فلسطين، وبدأ «إبراهيم الشنطي» كتاباته حولها في جريدته الفلسطينية «الدفاع»، فكتب في أواخر يونية 1943، كلمة قال فيها: « نجيب الريحاني .. هذا هو الفنان الموهوب، صديق النفس المتعبة المهمومة، يبعث إليها بالمسرة والراحة. هذا هو الذي جعل القاهرة تضحك منذ وقف على مسارحها قبل عشرين عاماً وإلى اليوم. إبداع في كل شيء، تشهد له روايته اليوم، وتشهدها غداً، وبعد سنة. فإذا بها جديدة عليك، وإذا أنت المشوق إليها دائما. موهبة شخصية يتسلط بها على جماهيره، فإذا هو يُبدد منها الهموم والمشاغل ويجعلها تمضي وقتاً غير قصير في جو من المرح، لا تحظى به في مواقف وحالات أخرى. والرجل أديب أخلاقي، مع ما له من اتصال وثيق بجماهيره. فإنك لا تسمع في كل رواياته كلمة أو عبارة تؤذي الذوق السليم. إنه يعتمد على مقدرته البارعة وطبيعته المدهشة في جعل جماهيره تضحك ملء قلوبها، وليس على الإشارات والعبارات غير اللائقة. ومن هنا كانت سمعة الريحاني، ومن هنا كانت عبقريته. والرواية الوحيدة التي تمثل في القاهرة لتسعين ليلة متوالية، هي رواية الريحاني أياً كانت. ومع ذلك ففي كل ليلة يمتلئ مسرحه المعروف، بأرقى الطبقات والبيوت. ومجرد ظهوره على المسرح، كافٍ لأن يدخل البشاشة على الوجوه، وأن يعد النفوس لساعات جميلة خفيفة، يذهب وقتها دون حساب. والريحاني في رواياته يتناول صميم الحياة، ثم يضفي على مواضيعه ألواناً من المسرة لا يستطيع إضفاءها مؤلف أو ممثل آخر غيره. يعاونه في ذلك أديب فنان مثله، هو «بديع خيري»، كل واحد منهما متمم للآخر. والعنصر النسائي في الفرقة غني بما للآنسات الممثلات ميمي وزوزو شكيب من مقدرة رائعة، لا تتم روايات الريحاني إلا بها. ولقد تقيم في القاهرة أسابيع لا تريد الذهاب في لياليها إلى أي مرسح، لكنك تذهب فقط إلى نجيب الريحاني، إذ تنشد نسيان نفسك في ذلك الجو المفرح الحافل بألوان السرور النقية .. هذا هو الريحاني كما سنراه الليلة».
وفي اليوم التالي، نشر «إبراهيم الشنطي» مقالة أخرى وأخيرة، تحت عنوان «فرقة الريحاني على مسرح الحمراء»، قال فيها: « مثلت فرقة الريحاني ليلة أمس رواية «قسمتي»، وليلة أمس الأول رواية «الدلوعة». وكانت قاعة سينما الحمراء والواجهات مزدحمة بالمئات من الذين جاءوا لمشاهدة فن الريحاني وتمثيله. وقد أمضى الجمهور وقتاً ملأ السرور فيه قلوبه. وكما ذكرنا في عدد «الدفاع» أمس تنطوي روايات هذا الفنان الموهوب على صميم الحياة، لكنه يتناول ذلك تناولاً يقلب فيه المأساة إلى كوميدية مضحكة. ومن هنا كانت المقدرة التي انفرد بها الريحاني. إنه يعرض لأبأس الأحوال والشئون في الحياة ولمواضع النقد، لكنه يجعل من كل ذلك أسباباً قوية تشفق جماهيره على نفسها من الضحك المفرط. وقد أظهر الريحاني تفوقه المألوف المعروف، كما أظهر أفراد الفرقة براعتهم. والريحاني يحتاج إلى مسرح تبسط السكينة جناحها عليه، فكل عبارة بل كل كلمة يتفوه بها وأفراد فرقته ينبغي سماعها وإلا ضاعت على النظارة فرصة. لأجل ذلك يرجى إلى الجمهور المحافظة التامة على السكون والنظام. وفي الحق أن الجميع راعوا هذا ليلة أمس والتي قبلها. والفرقة تشكرهم على ذلك مزيد الشكر. ولرواية «قسمتي» منزلة خاصة بين روايات الفرقة، وقد عرضت في القاهرة شهوراً طويلة بل أطول مدة عرضت فيها أية رواية أخرى. وفيها تمتع الجمهور بوقت خفيف أنساه أعباء الحياة في تلك الساعات القليلة. والشيء الحسن الذي لاحظناه أن الأستاذ الريحاني كان يسرع بين الفصل والآخر فلا يترك النظارة إلا نحو ربع ساعة ثم يعود إليهم. وقد اُستقبل في الليلتين بالتصفيق المتواصل، كما اُستقبل أيضاً به أفراد الفرقة، الذين يعرفهم الجمهور من أدوارهم البارعة في الأفلام».
عاد الريحاني إلى القاهرة من رحلته الأخيرة في فلسطين، فعقدت معه مجلة «روز اليوسف» المصرية حواراً في أواخر يوليو 1943، حول رحلته هذه، فقال عنها: هذه أول مرة نُستقبل فيها هذا الاستقبال العظيم، مما يدل على حب إخواننا الفلسطينيين لنا. فقد كنا محل حفاوة بالغة في كل بلد نزلنا فيه، وكانت الصحافة الفلسطينية تنشر أخبارنا وكأننا الجيش الثامن، وكأني الجنرال مونتجومري [في هذه الفترة كانت الحرب العالمية الثانية مشتعلة]. وقال عن العروض: كان المفروض أن نقوم بتمثيل 8 روايات، ولكننا مثلنا 13 رواية. وعندما سألته المجلة: كيف قابل الشعب الفلسطيني رواياتك؟ فأجاب: « الثقافة الفنية في فلسطين أقل منها في مصر. ويرجع ذلك لعدم وجود فرق تمثيلية محلية هناك، تغذي الجمهور بهذا الفن وترفع مستواه الثقافي الفني. ولست أعني بهذا أن إخواننا الفلسطينيين لا يقدرون فننا أو لا يتذوقونه، كلا .. فإنني رأيت تغييراً واضحاً في نظرة الجمهور للتمثيل، ويستطيع أي واحد أن يحكم بهذا. ولم تكن النكتة هي التي تؤثر في الجمهور – كما كان ولا يزال عندنا – بل الحركات المألوفة هي التي كانت تضحكهم .. ولكن هذا تغير كثيراً أو أصبح الشعب الفلسطيني يفهم روح النكتة المصرية ويضحك لها».


سيد علي إسماعيل