مسرح اللاجئين الميلودراما وفقدان الحداثة(1-2)

مسرح اللاجئين  الميلودراما وفقدان الحداثة(1-2)

العدد 753 صدر بتاريخ 31يناير2022

يبدو أن الميلودراما ارتبطت بشكل وثيق منذ البداية بالمنفى. فأبطالها وبطلاتها، وأطفالها الذين يعانون، وأمهاتهم المفقودات وآباءهم اليائسون، وحتى أشرارها المتوحشين، كلهم منفيون – يبتعد الممثلون إلى حد ما عن مكانهم الملائم، ووطنهم الطبيعي وأسرهم. لقد بدأت برغبة في الكلام عن هذا الحواز التأسيسي – لكي أنظر عن كثب أكثر إلى كيف ربطت الميلودراما نفسها بتجارب الانتزاع والنزوح والفقد والانشقاق، وأن أفكر فيما يمكن أن يرويه لنا مسرح اللاجئين هذا عن تكوين الدراما الحديثة، وعن حدود تاريخ الدراما في الحداثة . 
 ورغم ذلك، أثناء متابعة فكرتي، انجذب انتباهي إلى ظاهرة أشد تأثيرا من فكرة ثبات الميلودراما علي المنفى: وهي تحديدا فكرة عزلة الميلودراما نفسها عن تاريخ الدراما الحديثة، وفي جانب كبير منها، عزلتها عن تاريخ الثقافة الحديثة . فقد كانت هذه العزلة سريعة وعنيفة بشكل ملحوظ، ومشحونة بالعاطفة، استمرت لفترة طويلة بعد أن استنفدت أي مبرر يمكن تصوره – لم تكن أقل إثارة للدهشة في طريقتها من أي عزلة ميلودرامية . وإذا تتبعنا، مثل الغالبية العظمى، إشارة نودير Nodier القوية واعتبرنا أن مسرحية  جيلبيرت دو بكسيركورت Guilbert de Pixerecourt «كولينا Coelina» – والتي حققت نجاحا كبيرا في عام 1800 – النموذج التأسيسي للشكل الميلودرامي، فيبدو أن هناك أسبابا قليلة لقيام الثقافة الرسمية بفعل أي شيء غير تبني الميلودراما، ويبدو للوهلة الأولى أن هذا هو ما حدث. فكما جادل كل من نودير وبيكسيريكورت، لم يهدف هذا النوع الفني الجديد إلى الانتقاص من الدراما بل إعلائها وإحيائها كفن من شأنه أن يغرس الفضيلة واللياقة في شعب يعاني من إراقة الدماء في الثورة الفرنسية، وقد اعترف نقاد بيكسيريكورت  بالنزعة المحافظة الأساسية في الشكل الجديد والالتزام بالنظام والأخلاق . ومع ذلك خلال عشر سنوات، تميز التقويم النقدي لهذا النوع الفني بمستوى غير عادي من العداء، وفي زهاء عشرين سنة – في اللحظة التي جعلت منها شعبيتها شكلا فنيا سائدا – أصبحت الميلودراما السبب الرئيس في انهيار الدراما واضمحلالها . وبحلول عام 1830، اعتُبر هذا النوع الجديد والأول من نوعه في ذلك القرن، مبتذلا ولا يصلح الا للجهلاء والأميين، رغم نجاحه المذهل. وفي عام 1843 كتب بيكسيريكورت، في نهاية حياته المهنية، اتهاما للميلودراما الرومانسية التي كانت من سلالات الدراما، أنها نوع فني قذر وفاحش وشرير وغير أخلاقي وخطير، وخالي من الاهتمام أو الحقيقة. وطوال القرن النصف التاليين تقريبا كان الشكل، كما قال الأرديس نيكول «محتقر ومهملا» من النقاد والمتخصصين في الدراما، فهو نوع جدير بالملاحظة باعتباره فقط إحباط أحمق لتطور الدراما الحديثة كفن . 
الخلاص الميلودرامي: 
 في العقود الأخيرة انعكس التطور بشكل كبير، حيث تحول الاهتمام النقدي بالثقافة الشعبية والجماهيرية إلى الميلودراما كعنصر مركزي في الثقافة السردية الحديثة، ووجدت فيها نمطا أساسيا للوعي بعد المقدس؛ وهو الخطاب الأساسي للانبثاق الجماعي الناشئ عن المجتمع والهوية ؛ والتطور الجمالي التأسيسي في الرواية والسينما والتليفزيون ؛ واللغة السائدة في الإدارة الحديثة للحياة العامة والسياسة ؛ وقوة التشكيل في ابتكار المفاهيم الحديثة للأسرة والجنس والعرق والأمة. فلم تعد الميلودراما منفية من تاريخ الثقافة، بل تبدو الآن مركزية فيه، والخيط الأساسي في غلاف ونسيج الحداثة العالمية . 
 ولكن إذا بدت عملية نفي الميلودراما وخلاصها مدهشة، فان الأسئلة المتضمنة في هذه الرؤية المنقحة مزعجة . 
 إذا كانت الميلودراما قد علمت المخيلة الحديثة بهذه الطرق الأساسية والسائدة، والى أي مدى يمتد تأثيرها، وبأي شكل؟. وبأي درجة كنا مشروطين – وهل مازلنا مشروطين – بطريقتها الخاصة في الرؤية، وقد انغمسنا في رؤيتها الخيالية للعالم؟. وربما السؤال الأكثر أهمية، كيف اكتسبت هذا التأثير، ولماذا استغرق العلماء وقتا وطويلا حتى أدركوا دورها؟ يتضح المدى المحتمل للمشكلة في الطريقة التي أتت بها الدراسات الحديثة في جعل قصة الميلودراما نفسها ميلودرامية. وكما يلاحظ بن سنجر Ben Singer، فان التاريخ النقدي للميلودراما يشبه «سيناريو الميلودراما الكلاسيكية»، الذي تتعرض فيه الضحية لسوء معاملة لفترة طويلة، وتمارس في النهاية انقلابا مفاجئا في مصيرها . يلائم مثل هذا التصنيف جيدا مع المضمون العام للدراسات التنقيحية التي، علي الرغم من أنها تجادل بشكل مقنع من أجل اعتراف أقوى بتأثير الميلودراما علي الخيال الثقافي، فإنها تقدم استعادة الشكل علي استعادة الشرعية لدراما بريئة محمية في منازل الفقراء والمنفيون إلى الهامش من قبل عصابة النخبة الأشرار . 
 تتجلي التشوهات التي ينطوي عليها هذا المنظور، علي الأقل، في الطريقة التي يبدو بها أن العلم يتشبث بأوهام ميلودرامية حول الميلودراما نفسها – في العديد من الطرق التي لا يزال فيها التاريخ الثقافي لهذا النوع طبيعيا، ولا يزال التطور الشكلي مشوشا ومهجورا، وكذلك طابعها الاجتماعي والتأثير الذي تقدمه لكي يتناسب مع متطلبات النقد الدفاعي. وتتضح هذه الميول في الطريقة التي يستمر فيها بعض العلماء في افتراض أن جماليات الميلودراما الأساسية بشكلها الكامل وظلت جامدة ؛ وأن بنيتها السردية وشخصياتها وصيغها وتقنياتها كانت مجرد تقاليد واضحة وبريئة – قوالب محايدة قابلة للتبديل وجد الوعي الشعبي فيها تعبيرا متنوعا، وأن كلماته المستقلة هي من كتلة غير متمايزة من شيء تعبيري زائل لا يعبر عن شيء أكثر أهم من اهتمامات الجمهور الشره والمشتت بالسلع والموضة. ولا تكمن مثل هذه الافتراضات وراء الميول النقدية الملحوظة للتعامل مع الميلودراما كنوع تاريخي ولكن كأسلوب انتقالي حديث؛ لا تركز علي الوجود الأساسي للميلودراما كشكل مسرحي، بل تركز علي وجودها الثانوي في الرواية والسينما والتليفزيون والخطاب الثقافي، والاستفسار عن تاريخها اللاحق وحدودها بدلا من أصولها التكوينية الدينامية. وأنه أمر لا يصدق أن نلاحظ أنه بعد أربعة عقود من حالة بيتر بروك المقنعة حول مركزية الميلودراما في الخيال الثقافي الحديث، لا يزال هو التاريخ الرسمي للميلودراما المسرحي، كما أشارت جين مودي Jane Moody، مايكل بوث Michael Booth، في كتابهما «الميلودراما الانجليزية English Melodram» – وهو عمل نشر منذ نصف قرن . 
 ولم تكن مشكلة هذه الميول ببساطة مسألة التركيز: انهم يتحدثون عما يبدو أنه نبذ واسع الانتشار لمواجهة خصوصية الميلودراما التاريخية واحتمالاتها وتأثيرها، ويعززون بدلا من ذلك إحساسا مضللا عن مكانتها كطريقة حديثة في التفكير والتمثيل، وحيادها الظاهري باعتبارها انعكاسا طبيعيا للثقافة الحديثة – النوع نفسه كمنتج ومحاكاة تمثيلية للوعي الحديث فضلا عن كونها قوة فاعلة وقاهرة عليه . وإذا كان لا بد لنا أن نفهم الميلودراما في التاريخ، وليس مجرد تخيل التاريخ من جديد باعتباره ميلودراما، فيبدو من الضروري أن نقاوم ونقلب هذه الميول : نسأل عن كيفية ظهور الميلودراما، وكيف وظفت واكتسبت قوة جمالية، وكيف شاركت وشكلت إنتاج الثقافة والحديثة والوعي . 
 تؤكد المعالجات النقدية للتطور الأولي للميلودراما علي غموض تاريخها الرسمي المبكر، مع الإشارة بشكل مختلف إلى استمراريتها المتعددة مع الدراما القوطية، ومع الدراما الشعبية، ومع مسرح الإبهار في أواخر القرن الثامن عشر في بريطانيا ؛ إذ لفتت الانتباه إلى استخدام جان جاك روسو للمصطلح قبل عقود من استخدام بيكسيركورت، واقترحت أن العمل التأسيسي الأخير ربما يتميز بأنه حدث مذهل فضلا عن كونه مزيجا بارعا من العناصر الموجودة مسبقا. ومع ذلك، إذا بدا أن الشروط الشكلية للميلودراما في مكانها بحلول عام 1790 علي أقصى تقدير، فقد كانت الشروط الثقافية لابتكارها ونموها المفاجئ متحققة، كما يجادل نودير عموما، من خلال التجربة المحددة والمستمرة في العقد الثوري الفرنسي، وفي سياق تلك التجربة أصبح المنطق التاريخي المحدد لشكل الميلودراما، والطريقة المحددة التي شرك بها في تشكيل الوعي، أصبحت واضحة أولا . 

الثورة الصدمة:
 لفت العديد من علماء الميلودراما، علي غرار بيتر بروك، الانتباه إلى أحدى السمات الأساسية للتجربة المشتركة للعقد الثوري الفرنسي: وهي تحديدا خيبة الأمل العنيف من العالم وافتتاحه للمعنى بعد المقدس لنظام الواقع وبنيته. ورغم ذلك، لم تتميز التجربة الثورية فقط بالجاذبية المهولة والمخيفة لتلك الأزمة وانهيار الاعتقاد، بل تميزت أيضا بشكلها المرعب وشخصيتها وتطورها المذهل عبر الزمن . وفضلا عن حدوثها كحافز كبير ومزعج، فتحتها الثورة في الزمن الحالي – وعلي مدى زمن طويل – باعتبارها تقريبا سلسلة غير محتملة للصراعات السياسية والاجتماعية غير المتوقعة وغير المسيطر عليها، إذ يبدو أن كل منهما يميز نقطة نهاية منطقية، ويؤدي كل منهما، في غضون أشهر أو أسابيع أو حتى أيام، إلى انهيار ما لا يمكن تصوره سابقا، إذ يتتبع الكل حركة طاحنة ومنزلقة لا تقاوم من الفضيحة وأزمات الصراع والانهيار والعنف والحرب وأخيرا الإرهاب. وفضلا عن تحقيق رؤيتها المطروحة عن المجتمع السياسي اليوتوبي، اتبعت الثورة، بالنسبة للمعاصرين، مسارا لا هوادة فيه من خيبة الأمل المؤلمة والمتسارعة، وتقويضه بشكل متزايد لا يرحم، يفرض سلسلة كاملة من الجهود، كل منها يائس قليلا، ومطلقا بعض الشيء، لإعادة تصور الهوية المجتمعية وإعادة تأسيسها، واستهلاك قوة وشرعية كل النماذج السابقة والتقليدية للوحدة الجماعية في هذه العملية . فقد كانت الوفيات والاضطرابات في الثورة مروعة بالتأكيد، ولكن الأكثر رعبا وفزعا كانت الطرق التي قوضت بها الأحداث الثورية قواعد البنية الاجتماعية نفسها بشكل لا هوادة فيه، فتمزقت أنظمة القرابة التي تخلت عن الطقوس في المجتمع المدني، والتوصل أخيرا إلى فقدان كبير للإيمان بفاعلية اللغة كأداة للحقيقة. واستمت عواقبها بخيبة الأمل من جميع الجوانب، ولم تقدم بشكل مباشر إحساسا واسع النطاق بالحرية المكتشفة حديثا، ولكن شعورا رهيبا بالخسارة ومشاعر معقدة ومشتركة علي نطاق واسع بالذنب والغضب والتواطؤ . ولم تختبر هذه الصدمة بشكل متساو في كل مكان، ولكن من المؤكد أنها تركت مع فورية غير مسبوقة من قبل الجميع – ضخم قوتها من خلال قوى الاتصال الموسعة بشكل كبير، والعرض المذهل وعنف القوة العسكرية، وأصبحت أفعالها أكثر حيوية من خلال استحضارها لنماذج التمثيل المسرحية والدرامية. مثل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تم بث كارثة الثورة لجذب الجمهور الذي اقترب أكثر مما مضى بالتطور الدرامي المتزايد للأحداث، وطارده بعد ذلك الشعور بالذنب لأنه شهد، بلا حول ولا قوة انتقال النبيل إلى موجة لا يمكن وقفها علي ما يبدو من العنف الانتقامي والإعدام الجماعي . 
هذا الوصف الوثيق للثورة مفيدا ليس فقط لأنه يذكرنا بحالة جمهور الميلودراما الأول المؤلمة، بل أيضا لأنه يوضح بشكل أكبر الدرجة التي نفذت بها المسرحيات الميلودرامية، في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، أنماطا معينة وأحداثا نموذجية ومواقف مثالية لهذه التجربة الصادمة، ولعبت عليها . وأصبح الطراز البدائي لتلك الأعمال المبكرة – اليتيم والشاهد الأخرس علي الجريمة و والوريث المحروم والشرير الأرستوقراطي المنفي والمرأة التي تعاني وهي تبحث عن العزاء في عالم يفتقر إلى الاستقرار الأسري – أكثر وضوحا باعتباره نموذجيا ومجازيا، وليس مجرد نوع بلا صدى مع حالة ما بعد القداسة الغامضة في الحداثة، ولكنها رموز نموذجية للاضطرابات الحقيقية والأنواع الأكثر تحديدا من خيبة الأمل وضياع الوقت . وبالمثل، تكتسب البنية السردية لتلك المسرحيات المبكرة الوضوح في ضوء ذلك باعتبارها نمطا تأسس في تاريخ أزمة ثورية معينة : بداية من الفساد المتعذر تفسيره للسلطة البطريركية وتدخل التهديدات غير المتوقعة لعنف القتلة وصولا إلى انقسام المجتمع المنفي محليا وتفاني الصراع الاجتماعي في تنافس القوة القتالية، جسدت الميلودراما المبكرة نمطا من الأحداث يتوافق مع أزمة التجربة الثورية بشكل ملحوظ. وتتوافق مسرحية بكسيريكورت «كولينا» مع هذه البنية التاريخية بشكل وثيق، بحيث يمكن قراءتها كقصة رمزية للعقد الذي تنهيه . 
يوضح الاعتراف بالتجليات التاريخية للميلودراما المبكرة الطرق التي أعاد النوع من خلالها تشكيل التاريخ الذي عرضه وتكشف هذه الأمور جانبا من الطريقة التي يكتسب بها الشكل الجديد قوة جمالية وتأثيرا نفسيا وتأثيرا فكريا . فأوضح شيء في هذه المسرحيات الميلودرامية هو الرؤية الأخلاقية المحافظة، والطريقة التي أطر بها الشكل سرديات الصدمة منذ البداية ضمن أوهام نهائية للعدالة التعويضية والمجتمع المستعاد . وقد رأى نودير هذا التأطير الأخلاقي كأفضل إنجازات بكسيريكورت، وأبرز ملامح النوع وأكثرها استعادة، إذ أوضح أن : 
 عند ولادة الميلودراما لم تعد المسيحية موجودة وكأنها لم تكن  موجودة من قبل . فقد أغلقت أبواب الاعتراف، وخلا المنبر، ولم يعد الصوت السياسي مسموعا إلا بمفارقات خطيرة ..... فأين يمكن أن يتجه الناس إلى إرشاد يوجههم ... إن لم يتجهوا إلى الميلودراما .  
علي الرغم من ذلك، فان ما حدث ضمن هذا الإطار مهم بنفس القدر، وان كان أقل وضوحا لأن الميلودراما المبكرة لم تقتصر علي إعادة تمثيل الصدمة التاريخية بين قوسين، كما أنها ضغطت وكثفت التاريخ، وأعادت تشكيل أفعاله الممتدة إلى مجال ونطاق أكبر بكثير من الآنية، وتسريع وتطوير أشكال أزماته المتتالية، وأعادت دمج الصراع السياسي والاجتماعي في الديناميات المسرحية للعلاقات الأسرية الشخصية . ولم يكن الهدف من هذه التكتيكات التعليم الأخلاقي ولكن القوة العاطفية وشدة التأثير، إذ لم يكن تطورها مدفوعا بالقصد التعليمي، وكنه كان مدفوعا بالضرورة الدرامية. وكما يوضح نودير مرة أخرى «جسّد متفرجو الميلودراما في الشوارع وفي الميادين العامة أعظم دراما في التاريخ ... احتاج هؤلاء المتفرجون الموقرون إلى مشاعر مماثلة لتلك التي حرموا منها بالعودة إلى النظام . ولتلبية هذه المتطلبات المثيرة – لتقديم تأثير عاطفي من خلال القوة المذهلة – كان يجب علي الدراما الجديدة ألا تعرض فقط مجرد تجربة معاد تصويرها، بل واقعا مركزا ورفيعا، وقد فعلت ذلك من خلال الحركة الهزلية والأفعال التراجيدية التي تبنتها لغة التجسيم العاطفي الشديد واختزال جميع العناصر باستثناء العناصر الأشد تضررا من سلسلة الصراعات والصدمات والمفاجآت المتتالية والممتدة . 
يلفت تقويم نودير الانتباه إلى مساهمة بكسيريكورت التأسيسية في هذه الابتكارات الشكلية المعقدة أيضا، لكنه يقدمها بشكل واضح في نغمات اعتذاريه وتحذيرية وإنجازات منهجية ثانوية بالنسبة لأخلاقيات تأطير النوع الجديد، وجديرة بالملاحظة، إذا وجدت كدليل علي مهارات بكسيريكورت التقنية . فعدم ارتياحه مفهوم، ولكنه يمثل إحدى الحركات التكوينية في المنفى النقدي للميلودراما، لأنه بحلول عام 1843، في عصر الميلودراما الإجرامية، في مسرحيات روبرت ماكير، وجاك شيبرد، كان من الواضح جدا أن هذه الحركات كانت تحديدا عناصر الشكل الميلودرامي – وليس أخلاقها السامية – التي اكتسبت التأثير الأكبر، ووصلت إلى التطوير الأكثر كثافة من جانب منتجي المسرح الميلودرامي الأوائل، وأكدت العناصر الأكثر ثباتا في النوع الذي كان في ذلك الوقت غير قابل للدفاع عنه بشروط نودير التعويضية. في الواقع إن مسرحية توماس هولكروفت Thomas Holcroft «حكاية الغموض The Tale of Mystery» وهي معالجة لمسرحية «كولينا» عام 1802 والتي عرضت علي المسرح البريطاني، حيث تم إسكات السياسة والاستبداد الأخلاقي من الأصل الفرنسي، لأنه تم تصعيد  خصائصها الحسية، التي يمكن أن تُفهم علي أنها جهد منظم ومحسوب لدفع هذه السمة الثانوية إلى المقدمة. وأشارت الاستجابات النقدية لهذه المعالجة الدرامية أن تغييرات هولكروف كانت مؤثرة، بينما أهملوا مسألة أخلاقيات المسرحية، وأشادوا بإنجازها المذهل للتأثير العاطفي وقوتها المؤثرة – تصويرها غير المسبوق للشغف والفعل، والعجلة والاضطراب . فما تشير إليه هذه التأكيدات هو أن الميول النقدية لرؤية الميلودراما المبكرة كشكل تميز عموما برؤيتها الاجتماعية التعويضية قد تلغي ما يبدو أنه كان أساسا لجاذبية هذا النوع وضرورة لتشكيل تطوره الشكلي منذ البداية تقريبا: أي قدرتها علي تقديم أحاسيس عاطفية ذات كثافة كبيرة، أو كما قال أحد النقاد  المعجبين بمسرحية «حكاية الغموض» انه التأثير الملحوظ للشكل الجديد علي العقل البشري . 
.....................................................................................
• نشرت هذه المقالة في theater journal 61 (2009) 175-190 by the Johns Hopkins University Press
• مايو باكلي  يعمل أستاذا بقسم اللغة الانجليزية بجامعة روتجرز بالولايات المتحدة الأمريكية . من أبرز كتبه : «التراجيديا تسير في الشوارع: الثورة الفرنسية وظهور الدراما الحديثة».  


ترجمة أحمد عبد الفتاح