العدد 572 صدر بتاريخ 13أغسطس2018
عندما لا نستطيع، مهما بلغت قدرتنا، امتلاك شيء ما حتى يصبح بعيدا عن متناول أيدينا، نظل نراه محاطا بهالة مضيئة تكسبه بريقا ناصعا الإضاءة، ويتحول تدريجيا إلى حاجة ملحة لنا تعمل على محو كل ما هو جميل حولنا، مقابل جمال وهمي غير مرئي يظل مصورنا داخلنا فقط. تلك الصورة الزائفة هي أساس كل الشرور من حولنا، حيث يمتلك البشر طبيعة تمتاز بالأنانية وهي الرغبة الدائمة في الامتلاك، وهنا يصبح لكل ما هو مفقود عنا جمال خاص، سندركه بشكل متكرر عندما ننظر للعرض المسرحي «ستوديو» بعين بطل عرضنا المصور العجوز الذي قام بدوره مخرج ومؤلف العرض «علاء الكاشف».
يتم مراعاة الفضاء المسرحي الخاص بكل عرض عن طريق ثلاثة مفاتيح هامة - كما أرى - وهي: “المسرح الذي قدم عليه العرض المسرحي، فضاء المسرح الذي لجأ إليه كل من المخرج ومصمم الديكور، العلاقة بين ممثلي العرض والحيز الخاص بالجمهور”. والحقيقة، إن الجوانب الثلاثة امتلكت ثراء في هذا العرض، ولكن قبل الخوض فيها يجب تسيط الضوء على المصور الذي أخذنا معه في رحلة مأسوية متفرقة الأحداث بسبب استدعاء المصور لبعض من زبائنه في يومه الأخير قبل إغلاقه للاستوديو. بدأ المصور يحدث الجمهور عن مهنته وعن قسوة عامل الزمن الذي أثر على مهنته وهددها بالاختفاء رغم أهميته في صنع ذكرياتنا القديمة، ويبدأ في اللجوء إلى تقنية الكولاج السينمائية بانتقاله المتكرر من لوحة إلى أخرى تمسه بشكل عملي وشخصي.
رسمت اللوحات بشكل متضافر داخل مسرح الغرفة الخاص بمسرح الغد الذي عرض العرض المسرحي عليه، ولكن أيضا كان رسم اللوحات الأربع مقرونا برسمة الجمهور الذي وضع على جانبي الغرفة بحيث تدور الأحداث في منتصف الغرفة بشكل طولي أمام الجمهور، وعندما بدأ المصور الحكي تحدث إلى الجمهور بإدخاله في حكايته مجبرا كما لو كانوا زبائنه المدعوين.
في هذا العرض نحن أمام شخصية واحدة تقوم بالحكي وهي المصور، وبقية الشخصيات تأتي في لوحات غير مكتملة ينقصها النضج، تصل بنا إلى مرحلة ما وتنتهي دون أن تصل بنا إلى النشوة، فقط تثير لذتنا، وهو أمر تعمده المخرج برسمه لجمال مفقود يتماشى مع شخصية المصور نفسه التي تبدأ في التلاشي والفقد رغم ما يملكه من جمال.
احتضن مؤدي شخصية المصور الجمهور داخل أحداثه بذكاء شديد أثناء طرحه للعرض، وذلك عندما استمر هاتف إحدى السيدات من الجمهور في الرنين، فذهب إليها وقام بالاحتكاك معها عن طريق أخذه لهاتفها والإجابة على المتصل بأنها غير قادرة على الرد لأنها داخل استوديو التصوير الخاص به الآن ثم أعطاها هاتفها وأكمل نسج حكاياته، ومن جديد تفاعل مع الجمهور عند حديثه عن فينوس ربة الجمال مقطوعة اليدين فأخذ يغازل إحدى المتفرجات ويلقي عليها حديثه الخاص بحبه لفينوس كما لو كان يتحدث عنها، حتى يشيح بوجهه عنها ويذهب للتمثال الذي يأخذنا لقصة حب غير مكتملة بين هانم والمصور الذي فضل تمثالا حجريا عليها فتزوجت من خواجة وتركته، وعند شعوره بالفقد والتخلي بعد رحيلها تظهر فتاة البالرينا لنا وتبدأ الرقص بعدما أصابها الفشل ولكن إصرارها يجعلها تتراقص كفراشة لامعة تحت ضوء القمر المنعكس على بحيرة ما، لكنها تختفي فجأة، لا نعلم هل كانت حقيقية بالفعل أم مجرد لوحة متخيلة أصابت العجوز، وما أكد الحيرة هو كل من اللوحة الثالثة والرابعة.
بسبب الرغبة الدائمة في التواصل بين المصور وبين الجمهور، فقد قام بوضع شاب وشابة بين الجمهور وأخرجهما من وسطهما على أنه يعلم حقيقتهما، فنكون أمام مشهد رفض أم صعيدية لزواج ابنها من فتاة الغجر، وتبدأ في تدبير المكائد لها ولكن ينقلب السحر على الساحر وتقتل حفيدها بيديها، ومن تلك اللوحة نتشابك مع اللوحة الرابعة بأن هذا الشاب هو ابنه الذي سافر للخارج وتوفي دون أن يودعه؛ رغم ضرورة الإشادة بالأداء التمثيلي الخاص باللوحة الثالثة لكل من الأم (سماسم جامع) في دور زيادة والزوج والزوجة، إلا أن تلك اللوحة بالتحديد قد تسببت في إفساد متعة العرض، فالقصة لا تلمس المصور بشكل شخصي بل تخص عاملة تنظيف الاستوديو لديه، كما أن الزمن هو أغلى ما يوجد في عروض الحكي، فلا يجب للوحة أن تمتلك زمنا أكثر لها من اللوحات الأخرى التي يجب توافقها زمنيا، إلا إن كان للمخرج رأي آخر بأن نكون أمام لوحة أساسية في العرض المقدم تكون مؤثره في قصة الحكاء، وهذا للأسف لم يحدث وكان أقرب لبوابة خاطئة من أجل الدخول في قصة ولده يوسف الذي تركه.
كان أول ما استمعت أذن الجمهور له هو أغنية “يا دنيا يا غرامي” للمطرب «محمد عبد الوهاب» التي تسببت مع الإضاءة في خلق حالة كلاسيكية تحيلنا زمنيا إلى حقبة الأربعينات مثلا، فنجد ذلك في الكاسيت القديم الذي يعتمد المصور عليه كآلته الترفيهية السمعية رغم التطور التكنولوجي الذي وصلنا إليه الآن، وما يؤكد حالات التنقل الزمني كانت ملابس حبيبته هانم التي كانت ترتدي عباءة ملتفة على جسدها وبرقع يغطي وجهها. لذلك يمكننا الجزم بالحقبة التاريخية، ولكن بسبب تعمده طرح لوحات بعينها فلم نستطع معرفة بقية الأزمنة، خصوصا أننا ما زلنا أمام ضبابية اللوحة الثانية التي لا تملك وجودا زمنيا ومكانيا ملموسا، في حقيقة الأمر أنها لا تمتلك وجودا حقيقيا أيضا.
تتشابه حالة الغموض في الأحداث مع النهاية القاطعة للعرض بغلق المصور لمكانه الحميمي الوحيد ورحيله الذي يشير لنا بوفاته وليس مجرد ترك مكان؛ لم ينتهِ العرض برحيل المصور، فمثلما كان الجمهور بدايته كان نهايته، فقد أصابت الدهشة الجمهور بعدما وجد صورهم تعرض باللون الأبيض والأسود وسط الصور القديمة التي تخص المصور، والتي التقطها قبل بداية العرض مصور المسرح “مدحت صبري” الذي قدم العرض كإهداء له على جهوده، مدحت نفسه يتماشى مع العرض فهو عنصر مهم في الوسط المسرحي لكنه غير مكتمل يختفي كالظل، ليصبح العرض بأكمله حالة من الجمال المفقود.