مقاربات حول نظرية الأداء(3)

مقاربات حول نظرية الأداء(3)

العدد 795 صدر بتاريخ 21نوفمبر2022

      القواعد الخاصة موجودة، وتصاغ، وتستمر لأن الفعاليات شيء منفصل عن الحياة العادية (16) . يتم خلق عالم خاص حيث يمكن للناس وضع القواعد، ويعيدون ترتيب الزمن، ويحددون قيمة الأشياء، ويعملون من أجل المتعة . وهذا العالم الخاص هو علم مجاني ولكنه جزء حيوي من حياة الإنسان . ولا يمكن لأي مجتمع أو فرد أن يستغني عنه . وهو فعالية خاص إذا ما قارناها بالفعاليات العادية للعمل المنتج . وبمصطلحات التحليل النفسي، فان عالم فعاليات الأداء هذا هو مبدأ إضفاء الطابع المؤسسي علي المتعة . وقد اعتقد فرويد أن الفن هو تسامي الصراع بين المتعة ومبادئ الواقع ؛ وشعر أن الإبداع الفني كان امتدادا للحياة الخيالية – إذ عرف الفن بأنه لعب . وربما كان الفن الفردي كما وصفه فرويد . ولكن فعاليات الأداء هذه مختلفة . المسرح ( والموسيقى والرقص) هو فن بالمعنى الدقيق . ويجب أن يتوافق الأفراد المشاركون في الطقس والألعاب والرياضة مع القواعد التي تفصل فعاليتهم عن الحياة الفعلية . وعلى الرغم من أنني لا أريد التفصيل هنا، فأعتقد أن هذه الفعاليات هي النظائر الاجتماعية للخيال الفردي . وبالتالي فان وظيفتها الاجتماعية هي أن تظل منفصلة عن الحياة العادية، سواء بجعلها مثالية (في هذه الفعاليات التي يلعبها الناس بالقواعد) ونقدها (لماذا لا تكون الحياة لعبة ؟).

أماكن الأداء
ربما يكون هذا أوضح إذا تأملنا للحظة أين يتم أداء الألعاب الرياضية والمسرح . فالساحات الكبيرة والملاعب والكنائس والمسرح هي عبارة عن بنايات غالبا ما تكون ذاتية الدعم اقتصاديا . وتقع هذه المساحات الشاسعة في التجمعات السكنية حيت ترتفع العقارات خلال فترات زمنية كبيرة . وعلي عكس الأماكن المكتبية أو الصناعية أو المنزلية، يتم استخدام هذه الأماكن لأغراض مؤقتة وليس دائمة . وقد تبقي هذه الأماكن  غير مستخدمة خلال فترات طويلة من اليوم، وغالبا لعدة أيام متتالية . ثم, عندما تبدأ الألعاب، وعندما يتم تنظيم الخدمات، وعندما يبدأ العرض، تستخدم الأماكن بكثافة، ويجتذب جمهورا كبيرا يأتي للأحداث التي يتم تنظيمها . فالأماكن تعد بشكل فريد لكي يستطيع أن يشاهد الأحداث مجموعة كبيرة – ويصبحون واعين بأنفسهم في نفس الوقت . وتعزز هذه الترتيبات المشاعر الاحتفالية . وعلي حد تعبير جوفمان، هناك تجديد معبر وإعادة تجديد للقيم الأخلاقية في المجتمع في تلك الأماكن التي يتم فيها أداء الحقيقة . بالتأكيد تعزز هذه الأماكن، أكثر من غيرها, التضامن الاجتماعي : شخص لديه جذور عقائدية تجاه فريق، ويذهب إلى المسرح أساسا لنفس الأسباب . وما هي العواقب التي تنبع من قدرة التليفزيون علي دمج هذه الأماكن في صندوق واحد، مضاعفا لملايين المرات، لقد بدأنا نكتشف ذلك للتو .
     وسوف أسهل الأمر إذا لخصت العلاقات الشكلية بين اللعب والألعاب والرياضة والمسرح والطقس في خريطة الأداء . وبالإشارة إليها، نرى أن المسرح لديه خصائص مشتركة الألعاب والرياضة بشكل أكبر من اللعب والطقس . ورغم ذلك، ترتبط سمات معينة في مسرح الوقائع باللعب أكثر من الفعاليات الأخرى، وهذه الاشارة القوية للحقيقي تفصل المسرح التقليدي عن المسرح الجديد. علاوة علي ذلك، فان اللعب هو بوضوح المصدر الوراثي للفعاليات الأخرى : ما يفعله الأطفال، وينظمه الكبار . يتحدد الفاصل المميز بين الألعاب والرياضة والمسرح من ناحية، واللعب والطقس من الناحية الأخرى من خلال خاصية مختلفة, وبالقواعد التي تحكم الفعاليات . هذا التمييز بالقواعد هو الأساس لمزيد من الفروق . إذ يمكن تقسيم الفعاليات الخمس إلى ثلاثة مجموعات . فاللعب هو فعالية حرة نصنع فيه قواعدنا الخاصة . ووفقا للمصطلحات المنسوبة إلى فرويد، فان اللعب يعبر عن مبدأ المتعة، والعالم الخيالي الخاص، أما الطقس فهو مرتب بشكل صارم، ويعبر عن خضوع الشخص لقوى أكبر منه أو علي الأقل مختلفة عنه . فالطقس يلخص مبدأ الحقيقة، والموافقة علي إطاعة القواعد المفروضة  . أما الرياضة والألعاب والمسرح، فإنهم في الوسط بين هذين الطرفين . وفي هذه الفعاليات يعبر الناس عن سلوكهم الاجتماعي . وتنشئ هذه المجموعات الثلاث استمرارية، ومقياس متدرج مع كثير من التداخلات والتفاعلات. ومع ذلك، تصبح الفروق في الدرجة فروقا في النوع، فالطقس واللعب متشابهان في عدة وجوه – غالبا ما يلي فترات الترخيص المرحة فترات تتداخل مع فترات السيطرة علي الطقوس كما هو الحال في طقوس الثلاثاء أو في فعليات طقوس المهرجين . ولكي نقرأ خريطة الأداء بدقة فلا بد من جعلها اسطوانية بحيث يكون اللعب الطقوس لصيقين معا وفي الجهة الأخرى الألعاب والرياضة والمسرح .
      الألعاب والرياضة والمسرح هي مصطلحات وسطية تتوازن وأحيانا تتمازج وتتوسط، فاللعب (موجب) والطقس (سالب). وتوجد القواعد في المصطلحات الوسطية كأطر . وبعض القواعد تقول ما يجب أن يتم وبعضها ما لا يجب أن يتم . وهناك حرية بين الأطر . وأفضل لاعب في الحقيقة والأكثر قدرة سوف يستغل هذه الحرية. وهذا واضح في الرياضة والألعاب، ولكن ماذا عن المسرح؟ . الموقف بالنسبة الممثلة التي تلعب دور «هيدا جابلر» كمثال هو موقف معقد ( الشكل 1-4) . يختص الإطار الأول بخشبة المسرح المادية أو المكان, والإطار الثاني يختص بتقاليد عصرها ؛ والإطار الثالث الدراما نفسها, والإطار الرابع هي الإرشادات التي يعطيها المخرج للممثلة . ولا حاجة بها إلى القلق علي أي منها فيما عدا الإطار الأخير، لأن كل اطار داخلي يتضمن بداخله القواعد التي تنشئها الإطارات .
     وهناك بديهية الأطر التي تطبق عموما في المسرح: الأضعف هو الإطار الخارجي، والأقوى هو الداخلي، وبالعكس، الأضعف هو الإطار الداخلي والأهم هو الإطار الخارجي . وبالتالي فان الممثل المرتجل يتحرر من كل من المخرج والدراما، ولكنه يجب أن يستخدم التقاليد بالكامل (مخزون المواقف والشخصيات وتوقعات الجمهور) والمكان المادي . سوف يجد الممثل نفسه أيضا في مواجهة مباشرة مع حدوده الخاصة : سوف يوجد قليل من التوسيط بينه وبين جمهوره . وسوف يؤطر المكان أكثر الأعمال طليعية، وفي بعض الأحيان المكان بين النجوم (24) . ولا يوجد عرض مسرحي يمكنه أن يتجاهل التقاليد تماما . ورغم ذلك فان الأطر ليست جامدة، حتى داخل العرض الواحد. فعرض كابرو«نداء Calling» (1965) حدث في عدة مواقع بعضها خارج المسرح . ولأنه كان يوجد بضعة حدود تقليدية أو مكانية، فقد أعطى كابرو للمؤدين مهام محددة: الإطار الداخلي كان متماسكا جدا، والإطار الخارجي كان مفككا جدا .
     هذا النوع من التحليل لا يدلنا كثيرا علي الدور المحدد للممثل أو المخرج أو الكاتب المسرحي أو المعماري الذي يبني المشاهد . ولكنه لا يحدد علاقته بكل منهم الآخر وأقترح أن تكون كل وظيفة لها معنى في إطار المشهد ككل . ولا يمكننا أن نناقش إطارا واحدا دون الإشارة إلى الأطر الأخرى، لأنه داخل نماذج العلاقات التي تحدث فيها ظاهرة معينة .
     ومؤشر أن المسرح يملك أشياء مشتركة مع الرياضة والألعاب أكثر من الطقس ولعب الأطفال يجب أن تكون مفاتيح لاستكشاف العمل في تحليل اللعبة الرياضي والتفاعلي كمناهج لدراسة المسرح . ويمكن أن تتراوح هذه الدراسات بداية من النظرة الفاحصة للألعاب الأوليمبية القديمة (فضلا عن الطقوس القديمة) ومهاجمة الدببة ومصارعة الديوك كنماذج للمسرح اليوناني والإليزابيثي ولا إلى تطبيق نظرية الألعاب الحديثة . ويلاحظ فيليب ماكوي الذي تناول مثل هذا التطبيق :
إذا نظرنا إلى اللعب باعتباره نسيجا متشابكا من المصالح المتضاربة، فربما يتم حل بعض التشابكات البنيويــة في النماذج البيانية باستخدام مبادئ نظرية الألعاب . ويعرف مارتن شوبيك في المقال التمهيدي لمجموعة مقالاته التي تحـمل عـنوان “نظريــة اللعـب والمقاربـات المرتبطـــة المرتبطة بالسلوك الاجتماعي» (1964)، نظرية اللعـب اللعب بمصطلحات عامة: «نظريــة اللعب هـي منهــج لدراسة اتخاذ القرار في مواقف الصــراع ... فجوهــر اللعبة في هذا السياق هـو أنها تورط صناع الـقرار مــع مختلف الأهـداف والأغـراض التي يتضافـر مصيرهــا .
 ويكشف التحليل المبدئي للمشهــد الأول مــن مسرحيــة الملك لير وفقا لتقنيات نظرية اللعـب عن أربـع ألعــاب منفصلة محبوكة في نسيج كلي معقـد والذي يمكــننا أن «لعبة لير». فالتركيبة المتغـيرة للممثلين،  والتكـرار الإيقاعي للحركات واتجاه اختيارات الممثلين، تعطــي الشكل البياني لشجرة اللعبة صورة هيكلية للمشهد أكبر مما يمكن أن يكون عليه تصميم الحركة الجسميـة أو الدافع النفسي . ويمكن أن يكون هذا النوع من التحليل مستخدما في تحديد الأنماط الواسعة للحركة والتجمـع المعين علي خشبة المسـرح؛ وميزتـه علي التفســير الحدسي للمشهد الذي يقوم علي سيكولوجية الشخصية هي أنه يفترض بنية درامية متكاملة تدعم بناء الشخصيات بينما تتجاوز الفعل الفردي .
     يبدو أن نظرية اللعب الرياضية والتحليل الإجرائي له مستقبل كبير في المسرح. وهذا لأن المسرحيات أحداث مكتملة تتعلق بالعلاقات بين الشخصية تتمحور حول موقف صراع . وبالتالي هناك تلاؤم جميل بين ما ترسله الدراما إلى ما تحاول هذه النظريات أن تحلله . علاوة علي ذلك يتطلب الأمر انهاء العمل في كل المنطقة التي تربط المسرح باللعب والألعاب والرياضة والطقوس . وما حاولت أن أفعله هنا هو تحديد بعض العلاقات واقتراح الاحتمالات للمستقبل .
     وربما تكون هذه المقاربات الجديدة مثمرة لأنها تحث علي استكشاف العلاقات الأفقية بين الأشكال المرتبطة فضلا عن البحث رأسيا عن أصول غير قابلة للاثبات. وتضع أيضا المسرح حيث ينتمي : بين أنواع الأداء وليس الأدب . فالنص، حيث يوجد، يفهم باعتباره مفتاح للفعل، وليس بديله . وحيث لا يوجد نص تتم معالجة الفعل مباشرة . وهناك احتمال وجود مجموعة من المقاربات سوف يتم تطويرها ويمكنها معالجة كل ظواهر الأداء، الكلاسيكية والحديثة، النصية وغير النصية والدرامية والمسرحية والهزلية والطقسية . فهل يمكن أن تنتهي الخلافات التاريخية بين المنظرين والنقاد والممارسين ؟
................................................................................
ريتشارد شيشنر يعمل أستاذا بجامعة تيش للفنون بجامعة نيويورك علاوة علي أنه رئيس تحرير مجلة دراما ريفيو Drama Review   .
هذه المقالة هي الفصل الأول من كتابه«نظرية الأداء Performance Theory«الصادر عن روتليدج عام 1988  .


ترجمة أحمد عبد الفتاح