خازن معاطف العابرين لحظة انزلاق العالم إلى الهاوية!

خازن معاطف العابرين لحظة انزلاق العالم إلى الهاوية!

العدد 602 صدر بتاريخ 11مارس2019

مسرحية «خازن معاطف العابرين» لضياء حجازي، الصادرة مؤخرا عن دار نشر المركز الدولي لدراسات الفرجة.
ففي وسط الحالات المشكوك فيها والمريبة والمعقدة يُمركز (ضياء حجازي) شخصيات مسرحيته بتفنن، بحيث تبدو، في غالب الأحيان، كما لو أنها تعبر مسافة مليئة بالفخاخ، يصعب عليها عمليا الخروج منها سالمة معافاة. ربما لأنها قد اختارت طرقا مسدودة مسبقا، أو ربما لأنها لم تعد سوى مقاطعَ مُجتَزأةٍ من قصص وحكايات وذكريات، مثلومة، مقطعة الأطراف، مشوهة مثل أقدارها، لهذا تحاول شخصية «هو» عبثا ترقيعَها، خياطةَ أشلائها، مثلما كان يفعل مجبورا أثناء خدمته العسكرية (في الحروب لا خيارات لحشرة مثلي)، ربطَها، وإيجاد رأسٍ، لكلٍّ منها، ووسطٍ وأطراف! وهذا مثلما يبدو صعبُ المنال، لأنها لا تخص شخصا واحدا، بل مجموعةَ أشخاص تكسرت حياتهم على سطح أمواج عابرة. ومن هنا تبدأ رحلة العبث واللامعقول التي تحاول التشبث بقشة العثور على خلاص، إذا كان هناك خلاص حقا! وهذا بحد ذاته مسار متناقض.
شخصيات المسرحية في الغالب، تخوض صراع مع ظروف مثقلة مرتبطة بالحرب وكيفية الهرب منها. كما لو أن المؤلف يتخيل الحالات الأكثر تعقيدا وتطرفا لشخصياته لكي يعرف ماذا ستفعل من أجل أن تخرج وتنقذ نفسها. لهذا نرى الحرب شاخصة أمامنا وليس السلم. نعم، إنها موجودة بسبب شيئين. الأول، إن الحرب موجودة في العالم الذي يحيط بنا من كل الجهات، والثاني، إنها موجودة في داخلنا. وهذا ما ينشغل به ضياء حجازي بشكل مجازي، من خلال اهتمامه بالعلاقة التي تربط بين هذين الشيئين اللذَينِ لا نعرف كيف سيتفإعلان مع بعضهما البعض. إن هذا بحد ذاته غاية في الصعوبة، لأن الشخصيات لا تكلف نفسها عناء الشرح والتفسير. إنها مثل ألغاز داخل نفق مظلم، وعلى شخصية «هو» حل رموزها بالتوغل في أحشائها. ربما لأنها لا تمتلك لغة مماثلة للغة شخصيات شكسبير الذي يحلل ويعلق دائما على أفعالها. ولهذا تطرق أبواب اللغة بكيفية أخرى، تستعمل الكلمات البسيطة، والعادية التي بإمكانها امتلاك قوة غير مرئية، مقدسة، تعبر عن حالاتها. إنها تستعمل كلمات تخص الحالة أكثر ما تخص الكلمة المستعملة نفسها. لأن الحالة تعظم وتوسع المعنى، أكثر من التزويق اللفظي.
الرؤية المسرحية في هذا العمل تشبه إلى حد كبير مشاهد داخلية حقيقية، عوالمها منهارة، مدمرة، تليق بساكنيها المدمرين والمنكسرين أيضا. تستخدم صورا تؤكد باستمرار على أن مساحة التمثيل ليست سوى «غرفة للذاكرة”؛ غرفة يمتزج فيها الواقع بالخيال، حتّى لَيصعب التفريق بينهما، فعلى الرغم من أننا منذ البداية أمام شاطئ بحر، فَهناك غرفة عمليات تبث لنا صورا وحكايات مثل شاشات تلفزيةٍ أو سينمائية مختلفة الأحجام؛ غرفة من الخيال، مكرسة للكشف باستمرار، كما في غرفة مظلمة لكاميرا أو عدسة عين، عن صور من الذاكرة الحية لأناس ضلّوا طريقهم، أو بالأحرى أرغموا على ذلك. بحيث إن الذاكرة تبدو هنا مثل مختبر لتحميض الصور الفوتوغرافية أو ملف لكوابيس مسترسلة، لا نتذكر أحداثها أبدا، ولكنْ من أجل ذلك لا بد لنا من ترتيبات عقلية خاصة. لهذا يلجأ المؤلف إلى الجمالية السينمائية، لأن المسرح لا يتعامل مع الواقع، وإنما مع الحقيقة فقط، في حين تسعى السينما للحصول على الواقع الذي يحتوي على لحظات من الحقيقة، مثلما يقول جان بول سارتر.
لقد نسج ضياء حجازي روابط ممارسته الفنية بأداء الذاكرة، سواء كانت الذاكرة الخاصة المتمثلة به، أو ذاكرة الآخرين التي كانت شخصية «هو» تعيش معها في دوامة النص. وهنا ينصهر الموضوعي مع الذاتي، في حجرات الذاكرة المتشظية التي ندخلها مرات ونقصيها مرات ونعيد صياغتها وترتيب جدولتها في مرات أخرى. ولهذا نحن إزاء عمل مليء بالحالات والصور، والمجازات، التي تكاد أن تكون خيوطها غير مستقيمة، تصاغ أفكاره من تفاصيل التشرد والاتجاهات، والتردد، وتغير الإيقاع باستمرار، من أجل ابتكار شكل أصلي وفريد من نوعه، خاصٍّ به.
المسرحية، تصور أشكالا من التعبير الفني للهجرة المعاصرة: نزوح، نفي، تشرد، تيه، وحياة ترحال. من أجل وصف الخسائر، والجروح التي تنطوي عليها هذه الهجرات، وكذلك الآفاق الجديدة التي كان يحلم بها المهاجرون، ومفهوم فقد الهوية. إنها تستخدم جميع وسائل التعبير المتاحة، وتغطي مناطق جغرافية متنوعة لا تشير إليها بالضرورة، لكنها تلجأ، بدلا عن ذلك، إلى الكثير من الأشكال المسرحية والسينمائية من خلال المونتاج المتوازي، حيث يمكن رؤية حدثين أو ثلاثة في آن واحد، الصور الفوتوغرافية، الشهادات، وقصص الحياة، من أجل رسم خطوط عمل بقدر ما هو مسرحي فهو عمل أدبي، يمكن قراءته مثلما يمكن مشاهدته مجسدا. إن هذا العمل، ينتمي في شكله ومضمونه إلى اللحظة الراهنة، ويتأرجح بين أنواع مختلفة من الكتابة: شعر، سرد، أشكال أدبية هجينة، غير واقعية، قصص سفر، وأطروحات ساخرة، وحياة معاشه، تجمعها كلها لغة المسرح، في شكل من التحدي، الذي يمكن أن يتماشى مع أفكار أدوارد جليسانت، الذي يعتبر التشرد شكلا من أشكال المقاومة للرؤية الثابتة «التي لخصت العالم في أدلة شفافة، مدعية له معنى وغرضا مفترضا».
هذه الانعكاسات المختلفة عن المنفى، التشرد، الحرب، عصر الديكتاتوريات، وعما يُسمّى بالربيع العربي، تتقاطع في نقطة أساسية، من خلال الدور الذي تلعبه الشخصيات والتفاعلات بين مواقفها المختلفة. فهناك منظوران محتملان تصبح، بموجبهما، هذه الشخصيات والخيال بمثابة الفضاء النهائي لمرساة الموضوع في النص، أو اختيار للتركيز على الانفتاح على الآفاق الأخرى. في الحالة الأولى، تصبح الشخصيات أداة لإعادة اكتشافها في العالم، وإحياء «الأنا» عندما يتم فصل التجربة المعاشة بلا رحمة عن الوجود السابق. وهذا ما ينطبق على حالة المؤلف نفسه، عندما يتحدث عن غربته الخاصة، في المشهد السادس، عندما يجعل قصة حياته جزءا لا يتجزأ من كوابيس الذين أصبحوا موائدَ لأسماك البحر، فشخصية «هو»، التي تصبح، في بعض الأحيان وليس كلها، شخصية المؤلف ضياء حجازي نفسه، تتحدث في هذا المشهد، عن الكيفية التي اضطرت بها لترك بلادها، مخلفة وراءها أبا وأُمّا ظَلّا يبحثان عنه في جميع الثكنات العسكرية التي كانت تجهز الشباب آنذاك لرصاص البنادق العمياء ومدافعها. هذا المشهد الذي كان يمكن أن يكون لوحده مسرحية كاملة، اختزلها المؤلف في مشهد في غاية الروعة والتأثير، دون بكاء أو عويل، ودن نزوع نحو الميلودراما، إذ جعله جزء لا يتجزأ من كوابيس الحاضر التي تحاصر هذا العالم برعبها. أما بالنسبة للحالة الثانية، فإن استحضار المؤلف للكثير من المواقف الدرامية الواقعية منها والخيالية والشخصيات المختلفة في تقاطعات طرق هجرتها، واللاإنسانية التي يمكن أن تغطي المنفى، وأوجه الشبه بين القصص الشخصية والتاريخ، والتشرد كبحث عن الهوية، تضع العمل خارج نطاق إقليمية الأدب واللغة. لأن المسرح بالنسبة للمؤلف ليس أدبا، وإنما أداء، واحتفال ومساءلة للحاضر، طرح من خلاله الكثير من الحالات المسرحية التي هيمن عليها لون الموت. فالموت كان حاضرا ليس كفناء أبدي أو نهاية رحلة وإنما كذاكرة جمالية تعيد أحياء البشر من جديد، إلى أحضان أوطانها الجديدة، أوطانها التي استقبلتهم بالرصاص أيضا. فالهجرة مغامرة للأسف تعتبر بالنسبة للكثير من البشر، غير شرعية رغم احتوائها على المخاطر، مثل الموت أو الوقوع ضحية في شراك تجارة البشر.
في هذه المسرحية، التي تحتوي على الكثير من الشخصيات - «هو»، المهرب، الأم والأب، جنود، طالبو لجوء، عشاق، أطياف، وأصوات - كل شخصية منها لديها سببها الخاص للقيام بمثل هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر، والتي مولتها بطريقتها الخاصة.
مسرحية خازن معاطف العابرين، في نهاية المطاف، لا تعيد النظر في عملية اختيار وسيلة العبور والهجرة إلى أوروبا، بقدر ما تحاول استعراض المصير المجهول لهذه الشخصيات التائهة في أتون الجحيم. شخصيات واقعية كان لها ذات يوم تاريخ ووطن، أصبحت فجأة مجرد حكايات أو قصاصة ورق مندسة في جيوب ما تبقى من ثياب لها؛ شخصيات أصبحت مجالا للسرد بعد أن كانت وجودا حيا؛ شخصيات هربت من الجحيم الذي كان يتربص بها في أوطانها، وإذا بها تلتقي به في عرض البحر، وعلى متن توابيت مطاطية وخشبية يسميها المهربون قوارب، أو على اليابسة، وهنا تكمن مأساتهم. كيف يمكن للمسرح أن يقول كلمته في مثل هذا الجحيم المعاصر؟ كيف له أن يصور عناء هؤلاء الذين لم نرهم لحظة الموت، أو لحظة انزلاق العالم إلى الهاوية؟ كيف كان يحدث كل هذا؟ وكيف يمكن تغيير وتبديل شخصية الإنسان بواسطة عالم المسرح؟ أسئلة عدة يطرحها هذا النص، من خلال لغة لا تخلو من السواد، الحزن، العتب المر، الذي لا تفوح منه سوى رائحة الموت! لقد تغير لون البحر في هذا النص من ازرق إلى أسود أو أحمر، ذهبت زرقته، توارت مع من كانت تحملهم أمواجه، لم يعد البحر مرآة للسماء، وإنما للموت ومجاهيله العظيمة. لهذا أصبح موضع إزعاج وقلق لشخصية «هو»؛ موضع مناجاة وحرقة مستمرة، لم يعد البحر بالنسبة لهذا الأخير جزءا من الطبيعة، وإنما شخصية تشبه إلى حد كبير المهربَ في خسَّتِه، وهو الذي يأكل من لحم الباحثين عن أمل، مثل حيوان بحري، يريد الانتقام منهم لنفسه.


محمد سيف