العدد 604 صدر بتاريخ 25مارس2019
ومع مرور الوقت – واجتهاد الباحثين - اتخذت الديمقراطية أشكالاً عديدة، مع الحفاظ على مبادئها الأساسية، مثل: الحرية، والمساواة، والعدالة، وحقوق الإنسان .. إلخ هذه المبادئ التي لا يختلف عليها اثنان. والدكتور إمام عبد الفتاح إمام – في بحثه “مسيرة الديمقراطية رؤية فلسفية” – اعتبر الديمقراطية تجربة إنسانية، وبالتالي فهي مشروع دائم مستمر باستمرار وجود الحياة الإنسانية، ولهذا فهو يخضع باستمرار للنقد والفحص والمراجعة والتصحيح، وأن الديمقراطية تصحح نفسها بنفسها، وأن أفضل علاج لأخطاء الديمقراطية هو المزيد من الديمقراطية.
هذا المعنى النظري قام بتطبيقه فنياً الكاتب المسرحي نيجل دنيس (Nigel Dennis) في مسرحيته (أغسطس من أجل الشعب) عام 1961م. فهذه المسرحية تتحدث عن الديمقراطية الزائفة التي تعتمد استثارة مشاعر الناس ومخاطبة عواطفهم ووجدانهم دون عقولهم. فالمؤلف هاجم المتشدقين بالديمقراطية طمعاً في الشهرة وكسب الجماهير، وأكدّ معنى الديمقراطية الصادقة التي تقوم على العقل والمنطق، وتؤمن بوجود الإنسان على هذه الأرض، وبوظيفته في الحياة، وبحقه في أن يعيش عيشة كريمة، وأن يعبر عن رأيه بصراحة. وقد وضع المؤلف يده على عيوب الديمقراطية من أجل إصلاحها، فهاجم الحرية التي تؤدي إلى الفوضى، ووجه سهامه إلى الصحافة النفعية العميلة، وكشف زيف الأقنعة التي يرتديها البعض باسم الديمقراطية.
وأعلن مؤلف المسرحية عن هدفه منذ بداية الأحداث، عندما جعل بطله (أغسطس ثوبتس) – رئيس جمعية البيوت المفتوحة – يقف في حفل الجمعية السنوي خطيباً، وكأن وحياً يُوحى إليه بما سيقوله، فاعتبر الديمقراطية شيئاً بغيضاً عندما تكون زائفة، وهاجم ممثليها؛ لاستغلالهم فقر الجماهير، ونادى بخلع قناع الزيف من على وجوه المتشدقين بالديمقراطية. وحول هذه الأُمور قال: “ أسمع هذا الصوت .. هذا الصوت يقول (الديمقراطية شيء بغيض) وأدركت في الحال أنها فعلاً شيء بغيض لعين. إني أخجل من أن أكون هنا – بل أخجل من أن أكون حياً أصلاً – جمعية من المُلاك يصطحبون عامة الناس إلى منازلنا مقابل شلنين ونصف شلن – إنه لأمر مقزز – إنه كفعل العاهرات – لست أعني أنها غلطتنا – بالطبع هي غلطتنا – إنه البغاء من أجل المال. إنها غلطة عامة الناس أيضاً – غلطة كل إنسان. غلطة من حيث كلنا بدأنا وإلى حيث قررنا أن تنتهي – إنه لأمر حقير قذر – إنها دار للعرض، دار دعارة. يبدو أننا نعتقد جميعاً بأن الديمقراطية هي الهدف الأسمى – وليس هناك (ديمقراطية) أفضل منها – لعنة الله على كل شيء – لا بد أن هناك ما هو أفضل منها – علينا أن نحاول جادين – هذا الطريق ليس فيه أدنى خير لأحد”.
القانون .. الدستور .. الممارسة
إن تحقيق الديمقراطية على أرض الواقع يجب أن يتزامن مع وجود القانون الذي يحكم العملية الديمقراطية. وهذا القانون قبل أن يُصاغ من قبل المشرعين، لا بد أن يُصاغ وجدانياً من قبل أفراد الشعب، بناء على تجاربهم في الحياة. فالديمقراطية – كما هو معروف - تجربة إنسانية عالمية في المقام الأول، تهدف إلى تحقيق مبادئها من حرية ومساواة وعدل .. إلخ. والإنسان الذي يطمح في العيش في ظل الديمقراطية، يجب أن يأتي سلوكه معبراً عن رغبته في تطبيق الديمقراطية على نفسه أولاً قبل تطبيقها على الآخرين. وبمعنى آخر: يجب على الإنسان أن يسن بنفسه القوانين التي يسير عليها ديمقراطياً، ليكون نموذجاً مصغراً من ديمقراطية عامة تصلح للشعوب التي تضع قوانينها بنفسها، تطبيقاً لفكرة أن الشعب يحكم نفسه بنفسه لنفسه.
وفي مسرحية (لا) للكاتب الأسباني ماكس أوب (1903 – 1972)، نلاحظ أنه سعى جاهداً – من خلال شخصياته – أن يسن قوانين عامة – في شكل إرهاصات للديمقراطية – من أجل نبذ الحروب واحترام إنسانية الإنسان. فشخصيات المسرحية جاءت في صورة مواطنين عالميين يفكرون في مصير الإنسان، ويدعون للسلام، ويكشفون عما تعنيه الحرب من تدمير لإنسانية البشر. فـ(هبرمان) – أحد أشخاص المسرحية - ينتصر لإنسانية الإنسان ضد الحروب التي لا تهتم بالإنسان، ولا بكرامته، وودّ لو سنّ قانوناً يمنع به الحرب حفاظاً على هذا الإنسان. يقول في ذلك: “... تدوسون بعجرفة أي محاولة للتعايش، واثقين من تفوقكم المنيع، هنا بالقنبلة الذرية، وهناك بالدبابات والمدافع، متجاهلين الإنسان الذي ليس له اعتبار. فالشيوعيون يضحون به دون رحمة ...... والأمريكيون الذين يحولونه إلى حفنة من الدولارات ..... حسب لون بشرته ..... مثل البضاعة، بل ربما أكثر امتهاناً. ولأنني مؤمن بالإنسان ...... فأنا متفائل سيحدث ما يجب أن يحدث، لكن العالم لن يجد الخلاص لأنه شيوعي أو رأسمالي، وإنما لأنه إنساني”.
وهذا المعنى تؤكده شخصية (غابار) - التي تؤمن بتحقيق الديمقراطية مستقبلاً، عندما تنتهي الحروب بين البشر، وذلك من خلال طرحها للعديد من التساؤلات، التي تنادي بسن قانون يحافظ على الإنسان من ويلات الحروب - قائلة: “... ستنتهي الحروب ...... فإذا كنا واثقين من هذا، لِمَ التضحية بأجيال كاملة؟ ...... لماذا التضحية بأناس وأناس كثيرين في سبيل تعجل الأمور؟ ...... لن أوافق مطلقاً على التضحية بالجيل الحالي من أجل خلق وضع أفضل للأجيال الآتية، ولن أشارك في هذا الجنون العجيب الذي يجعل البشر الآن ضحايا إنسانية نظرية، ويجعل هذا العصر ضحية للمستقبل الذي سيكون بدوره ضحية لعصر آخر يتلوه”.
وماذا بعد أن يفكر الإنسان في سن قانون يلتزم به ويطبقه على نفسه أملاً في تحقيق الديمقراطية؟ من المؤكد أنه سيسعى إلى تعميم هذا القانون الذي سيحقق له الديمقراطية بصورة تطبيقية، وهذا التعميم عُرف فيما بعد باسم (الدستور)، وأصبحت السلطة الحاكمة في الديمقراطية هي القانون. و”القانون الذي يميز الحكومة الديمقراطية من أي نوع آخر من الحكومات هو القانون العادل. ولكي يكون القانون عادلاً، يجب أن يجسد إرادة الشعب العامة وتتكون هذه الإرادة فعلياً من مصالحهم المشتركة: الضمان، العدالة الاجتماعية، الحرية، السعي وراء السعادة وفقاً لرغبة الفرد. ولكن، إذا كان القانون يعبر عن إرادة الشعب، وإذا كان القانون هو الذي يحكم في الدولة أمكننا في هذه الحالة، القول بأن الشعب هو مصدر الحكم. هذا المبدأ يفسر معنى الديمقراطية”، كما قال ميشيل حنا في بحثه “الديمقراطية والدستور” المنشور في مجلة عالم الفكر عام 1993.
والجدير بالذكر إن هذا المعنى حققه فريدرش شلر في ختام مسرحيته (فلهلم تل)، عندما جعل (برتا) ممثلة الأرستقراطية الثرية، ترجو الفلاحين أن يقبلوها في صفوفهم مواطنة حرة مثلهم. وفي الموقف نفسه جعل (رودنتس) السيد النبيل، يُعلن تحرير العبيد الذين كانوا يعملون في خدمته، ليحقق بذلك أهم ركن في الديمقراطية، وهو المساواة بين البشر، التي تعد أساس أي دستور في أية دولة ديمقراطية.
برتا: أيها المواطنون! أيها المتحالفون! اقبلوني في صفوفكم، أنا المرأة السعيدة الأُولى التي وجدت الحماية في بلد الحرية. وإني استودع حقوقي في أيديكم الشجاعة. أتريدون أن تحموني جاعلين إياي مواطنة لكم؟
المواطنون: (الفلاحون) سنفعل هذا مقدمين أموالنا ودماءنا.
برتا: حسناً! إذن أنا أعطي يدي لهذا الشاب، أنا السويسرية الحرة، لهذا الرجل الحر.
رودنتس: وأنا أعلن أن عبيدي صاروا أحراراً.
و” لكي يلعب الدستور دوراً فعالاً في تحقيق إرادة الشعب: يجب أن يقوم بوظيفة المعيار القانوني الأعلى في الدولة. يجب أن يتصف بالدوام. يجب أن يحتوي على آلية إدارية تحفظ حرية الفرد في المجتمع. يجب على جميع المؤسسات الاجتماعية والسياسية أن تجسد روح الدستور”، هكذا نادى ميشيل حنا في بحثه! وهذا النداء حاول تجسيده إدواردو دي فيليبو في مسرحيته (عمدة حي سانيتا)، عندما نادى بوجود دساتير وقوانين توحد بين الناس، وتنص على كفالة الحقوق وضمان وصولها إلى أصحابها، وسعى من خلال المسرحية إلى البحث عن طرق من أجل إنصاف المظلوم وأساليب قويمة لرد الحقوق المسلوبة إلى مستحقيها، مع التنبيه إلى أوجه القصور في المجتمع وفي إجراءات تحقيق العدالة.
المساواة وحرية الرأي
تُعد المساواة من أهم المبادئ التي نادت بها الديمقراطية، بوصفها مطلباً أساسياً للبشرية، التي نادت به منذ أقدم العصور. وقد قصّ هيرودت في كتابه (التاريخ) قصة “ لسبعة أشخاص من الفرس يتناظرون حول خصائص الحكومات المختلفة: حكومة الفرد (أو النظام الملكي) والحكومة الأرستقراطية والديمقراطية ..إلخ. ومزايا كل نظام وعيوبه، وينتهي الحوار بتفضيل الحكم الديمقراطي الذي يحقق رغبة الإنسان في مساهمة الأغلبية في شئون الحكم، كما يحقق المساواة للجميع أمام القانون” - كما ذكر إمام عبد الفتاح في بحثه سالف الذكر - والمساواة من وجهة نظر الديمقراطية، هي المساواة السياسية والقانونية بين البشر، ليستطيع الإنسان أن يُدلي برأيه في الأُمور السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية .. إلخ هذه الأمور الحياتية. وقد نادى المسرح بهذه المساواة بصورة كبيرة، إلى درجة أن الإنسان يصعب عليه حصر المسرحيات التي نادت بالمساواة من كثرتها، ومن كثرة تناول الكُتّاب لها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما قيمة عملية المساواة السياسية لإنسان لا يجد قوت يومه؟ ولا يجد كساءً يرتديه؟ ولا يجد مسكناً يأويه؟ فالإنسان يحتاج إلى المأكل والملبس والمسكن قبل أن يُطالب بالمشاركة السياسية، حتى يشعر بمبدأ المساواة، فيستطيع أن يُدلي بصوته وبرأيه في العملية السياسية. وهذا السؤال أجاب عليه مسرح الجريدة الحيّة، في عرضه (ثلث أمة) – الذي ظل يُعرض طوال موسم كامل في نيويورك – واسم هذا العرض مأخوذ من عبارة وردت في إحدى كلمات الرئيس الأمريكي روزفلت، ومفادها: أن ثلث الشعب الأمريكي لا يطعم، ولا يلبس، ولا يسكن كما ينبغي أن يكون الطعام والملبس والمسكن. والعرض المسرحي – كأغلب عروض الجريدة الحيّة – كان يهدف إلى تحسين حال الرجل العادي اجتماعياً واقتصادياً - تحقيقاً لمبدأ المساواة – وتهيئته لممارسة حقه السياسي بصورة ديمقراطية.
وإذا كانت المساواة أهم مبدأ في الديمقراطية، فإن الحرية – وخصوصاً حرية الرأي – تُعد هدف الديمقراطية الأسمى. يقول أحد الفلاسفة، كما جاء في بحث إمام عبد الفتاح سالف الذكر: “ إذا انعقد إجماع البشر على رأي، وخالفه في هذا الرأي فرد واحد، ما كان حق البشرية في إخراس هذا الفرد، بأعظم من حقه في إخراس البشرية إذا تهيأت له القوة التي تمكنه من ذلك، حتى ولو كان الرأي لا قيمة له إلا عند صاحبه”.
والمسرح منذ بدايته ما هو إلا أسلوب من أساليب حرية الرأي والتعبير. وكفى بنا أن نضرب مثلاً بمسرحية (السحب) لأريستوفانيس بوصفها نموذجاً قديماً لحرية الرأي؛ ذلك الرأي الذي جلب الموت لصاحبه وهو (سقراط). فكاتب المسرحية أريستوفانيس عايش بعض ممارسات الديمقراطية الأثينية، خصوصاً حرية التعبير عن الرأي، لذلك كانت مسرحياته الكوميدية تعبيراً عن وجهة نظره، ووجهة نظر الجمهور في زمنه. ويُحكى أن حاكماً “ أراد ذات مرة أن يعرف كل شيء عن النظام الأثيني شعباً وحكومة؛ فطلب من أفلاطون أن يمده بالمعلومات الضرورية فما كان من الأخير إلا أن أرسل إليه بمسرحيات أريستوفانيس”، كما قال د.أحمد عتمان في مقدمة المسرحية.
وبناء على ذلك، يقوى احتمال تأثير مسرحية (السحب) على الجمهور، فيما يتعلق باتهام سقراط وتقديمه للمحاكمة عام 399 ق.م. فقد صوره أريستوفانيس بالرجل غريب الأطوار، والفيلسوف السفسطائي المتعبد للسحب والمتأمل في الظواهر الكونية، ومُعلم الشباب أساليب الجدل وتبديل الحق بالباطل .. إلخ الاتهامات المعروفة التي وُجهت إلى سقراط أثناء محاكمته. وتعتبر مسرحية (السحب) مثالاً مسرحياً فريداً لإبداء الرأي وحرية التعبير بالنسبة لأريستوفانيس ككاتب مسرحي في عصور ما قبل الميلاد.
وفي العصر الحديث آمن رومان رولان بأن القالب المسرحي هو أنسب القوالب لمخاطبة الشعب، كما كان يؤمن بأن كل حركة فكرية أو سياسية تنتظر تأكيدها ونجاحها النهائي من المسرح، لذلك عمل على تنفيذ مشروعه المسمى بـ (مسرح الشعب) أو (مسرح الثورة)، لاعتقاده أن له رأياً أو رسالة عليه أن يبلغها للشعب الفرنسي، بل للعالم أجمع، في حرية تامة في ظل الديمقراطية. ففي عام 1902م كتب رومان رولان مسرحية (سيأتي الوقت)؛ ومارس فيها حرية الرأي عندما دافع عن قضية الترنسفال بجنوب أفريقيا، واحتج فيها على الجرائم البشعة التي يرتكبها الاستعمار الإنجليزي في هذا البلد. وفي مسرحيته (أعياد الفصح المزهرة) 1916م، عبر عن رأيه بخصوص أفكار جان جاك روسو، الذي عده الأب الحقيقي للثورة الفرنسية. أما مسرحية (روبسبيير) فهي نموذج لحرية الرأي والتعبير عنه فيما يتعلق بالحقائق التاريخية.
فسانت جوست – أحد أبطال المسرحية: عضو لجنة الأمن العام – يُفضل سعادة الشعب على حريته، قائلاً: “ الجريمة جريمتنا، لنتهم أنفسنا في أول الأمر! لقد نسينا جميعاً هدفنا الأساسي، ألا وهو إسعاد هذا الشعب. عبثاً تتباهون بتأسيس الجمهورية، إذا لم تسعدوا الشعب. فالشعب الذي لا يسعد، لا وطن له. لا يفخر بجمهوريته، ولا يتباهى بحريته ولا يحب شيئاً. قيل لكم (الحرية أو الموت). أما أنا فأقول: (سعادة الشعب أو الموت).
أما روبسبيير – بطل المسرحية: عضو لجنة الأمن العام أيضاً – فينتقد الجمهورية الفرنسية، ويوجه سهامه إلى الثورة، قائلاً: “ .. كم من مرة حاولنا أن نبني الجمهورية على الفقراء ومن أجلهم! نحن نعلم، أن الثورة، لم تكن بالنسبة للأغنياء، سوى فرصة للربح الحرام والاحتكار وجني الفائدة والخداع والسلب! نحن نعرف جيداً أصدقاءنا الحقيقيين، الذين وهبوا أنفسهم للثورة بدون حساب، إنهم الفقراء، والفلاحون والعمال، وهم لقمة سائغة في أفواه الأثرياء! إننا نبذل قصارى جهدنا لحمايتهم. ولكن ألا يرون أنه عندما تحاط الجمهورية بعالم من الأعداء، فواجبنا أن نطلب منهم، من أصدقائنا الفقراء، التضحيات والتفاهم مع الأغنياء، حتى نشترك جميعاً في الذود عن الوطن، ضد هجمات الملوك وجيوشهم؟ علينا أن نشكل، عن طريق الرضى أو العنف، جبهة موحدة من الأغنياء والفقراء، لأننا في موقف حياة أو موت بالنسبة لأولئك وهؤلاء، لفرنسا كلها، لكل شيء، للنذير اليسير، الذي استطعنا تشييده، من الجمهورية! .. وسيأتي يوم، ينقذ فيه الوطن، وتواصل الثورة سيرها. لقد ربحت الثورة عدة معارك، وستربح أخرى أكثر أهمية، معارك الشعب. ولكن يجب أن نعيش قبل كل شيء، ولكي نعيش يجب أن نغلب. فقليلاً من الصبر”.
أما بابوف – أحد أشخاص المسرحية: عضو المؤتمر – فينتقد الثورة أيضاً، قائلاً: “أيها المواطن، أصحيح ما يقال، إنكم مستعدون لقلب الطغاة؟ إني من أعوانكم. ولكننا لا نريد كلاماً! نريد أفعالاً! منذ خمس سنوات وهم يلعبون بنا! خمس سنوات من الثورة! من السخرية .. جميع آمالنا، وتضحياتنا، كانت لزيادة ملكية الجشعين والمحتكرين! لا شيء للشعب! لم يجد بين نواب الجمعية المزيفين، نائباً واحداً عرف كيف يتآخى معه، ويشعر بضيقه واحتياجاته! .. خمس سنوات! خمس سنوات لم أتوقف خلالها عن المطالبة، بحقوق التعساء المقدسة، وبفرض المساواة! .. وماذا وجدت بدلاً منها؟ الاضطهاد، والملاحقة والسجن، على يد شياطين السلطة، الذين تتلاعب بهم أيدي الأغنياء .. وبدلاً من أن يدعمني أولئك الذين، من واجبهم الدفاع عني، فقد خانوني وسلموني ...... إن القضية الملحة الآن، حتى تستأنف الثورة انطلاقها، هي إسقاط الحكومة الخائنة التي أفسدت الديمقراطية ..”.
وإذا كنا قد أكثرنا الاقتباس من مسرحية (روبسبيير)، فهذا مرده الاستشهاد بكم كبير من الآراء التي ذُكرت في المسرحية، للتدليل بها على حرية الرأي التي تمتع بها رومان رولان في انتقاده للثورة الفرنسية ورموزها، والإدلاء برأيه في فترة تاريخية مهمة، ربما خالف فيه الكثيرين ممن كتبوا عن هذه الثورة. ولأن المؤلف يهدف دائماً – من خلال أغلب مسرحياته – إلى إيصال رسالته عبر مسرح الشعب أو الثورة، جاءت شخصياته جامدة. “فالشخصيات في مسرحياته جميعاً، تفتقر إلى الحياة، ومن ثم فإنها لا تملك التأثير على المتفرج أو القارئ، ويبدو واضحاً أنها تنطق بالأقوال التي يلقنها لها المؤلف، وأنها تؤدي الدور الذي يعهد به إليها، ثم تنسحب على الفور”، كما جاء في مقدمة المسرحية. وهذا الانتقاد يؤكد أن مسرحيات رومان رولان هي مسرحيات فكرية في المقام الأول، تعكس – وبجلاء – حرية الرأي والتعبير عنه من خلال القالب المسرحي.
مثال آخر من أمثلة كُتّاب المسرح الذين وجدوا في المسرح ميداناً رحباً لحرية إبداء الرأي والتعبير عنه بصورة فنية، وهو أنطونيو بويرو باييخو، الذي حُكم عليه بالإعدام، وخُفف الحكم بالسجن عدة سنوات. وعندما خرج من سجنه وجد في المسرح خير معين له في بث آرائه في القضايا الإنسانية والاجتماعية والقومية. فقد عبر عن رأيه في النظام الملكي الإسباني في مسرحيته (حلم العقل)، وفي مسرحية (اليوم عيد) ناشد العدالة للمجتمع الإسباني، وفي مسرحية (القصة المزدوجة للدكتور بالمي) التزم بقضية حق الإنسان في ممارسة حريته الفردية والاجتماعية دون ضغط أو إرهاب، وفي مسرحيتي (اليوم عيد، والكوة) أدلى برأيه في الحريات الشخصية والعدالة الاجتماعية، وفي أغلب مسرحياته كان ينادي بالحريات الخاصة والعامة.