المسرح الشعبي في الوطن العربي جماليات العرض المفتوح (2-2)

المسرح الشعبي في الوطن العربي  جماليات العرض المفتوح (2-2)

العدد 750 صدر بتاريخ 10يناير2022

اتولد من خيال الظل وعناصره المختلفة فن مسرحي آخر نما وتطور مع مرور الزمن وهو « السامر الشعبي « وهو شكل مسرحي عرفته جماهير القرى والنجوع والمدن خاصة في الحواري والشوارع والأحياء الشعبية، وكان هذا الفن معروفاً قديماً بـ « عروض المحبظين « وهم المضحكين الهزليين الذين كانت مهنتهم هي التمثيل المرتجل أمام العامة في الطرقات والميادين . 
وقد أرخ عبد الرحمن الجبرتي لبعض مظاهر السامر في بدايات القرن التاسع عشر قائلا عن فساد بعض مشايخ البلد ومن إليهم أنهم « يجتمعون لسماع الملاهي والأغاني والقيان والآلات المطربة وإعطاء الجوائز والنقوط، بمناداة الخلبوص وقوله وإعلامه في السامر، وهو يقول في سامر الجمع بمسمع من النساء والرجال من عوام الناس وخواصهم، برفع الصوت الذي يسمعه القاصي والداني، وهو يخاطب رئيسه المغاني « ياستي حضرة شيخ الإسلام والمسلمين مفيد الطالبيين الشيخ العلامة فلان منه كذا أو كذا من النصيفات الذهب « (1)، ويلاحظ أن ظاهرة السامر الشعبي المسرحية تظهر بوضوح في شكلين لا ثالث لهما أولهما متحرك والثاني ثابت . 
أولا:     الشكل المتحرك، ويتمثل في المواكب الشعبية ( المتحركة ) والتي كانت تقام في الاحتفالات العامة السياسية والاجتماعية والدينية، أو الاحتفالات الخاصة 
ثانيا: الشكل الثابت ويتمثل في عروض الحلقة أو نصف الحلقة التي كانت تقام في الساحات أو داخل أروقة المعابد أو أروقة بيوت الأغنياء (2) .
وهو فن تلقائي ـ في الأساس ـ يقوم على شكل درامي بسيط مرتجل من خلال ثلاثية الأداء الفني « المؤدي، والحادثة المسرحية، والجمهور» بالإضافة إلى عوامل مساعدة كالديكور والسنوغرافيا البدائية والملابس المرتبطة بالبيئة التي يقدم فيها العرض . 
« وقد اختلف الباحثون حول نشأة السامر الشعبي في مصر فالبعض يعتقد أنه نشأ في ظل الدولة المملوكية متأثراٌ بخيال الظل، والبعض الآخر يعتقد أنه نشأ في ظل الاحتلال الفرنسي، عندما دعت الحملة الفرنسية إحدى فرقها المسرحية لتقديم عروضها أمام جنود الحملة في القاهرة، وكان السامر في اعتقاد هذا البعض الآخر صدى وترديداً لمسرح الحملة الفرنسية . 
كما أختلف الباحثون أيضاً في كيفية تحديد الفنون المؤثرة والمتداخلة مع السامر الشعبي، (3) .
ومع ذلك فنحن أميل إلى القول بأن السامر الشعبي ظاهرة مصرية خالصة متوارثة خاصة في الريف مرتبطة بمواسم معينة كموسم الحصاد، والاحتفاليات المختلفة بالزواج والختان، وهي قديمة قدم المجتمع الريفي، وإن اختفت الآن بسبب انتشار آلات الإعلام الحديثة كالتليفزيون والفضائيات والإنترنت والتي غزت القرى بشراهة، مما أفقدها خصوصياتها، وأحد تجلياتها الهامة « السامر الشعبي « والذي كان يمثل عنصر التسلية بعد يوم طويل من العمل الشاق في الحقل حيث كان أهل القرية يجتمعون للاستماع إلى « الحكواتي « ـ وهو شكل من أشكال السامر الشعبي ـ حيث كان يقدم قصصه أمام أهل القرية الساهرين، وكان يستعين في تمثيل أنماطه المختلفة، باستعمال منديل وعصا، فتصحب دقات العصا النمر الذي يقلد منها الوحوش والطير، كما كان يستعين بزميل له أو زميلين يساعدانه في تصوير الشخصيات، أو يردان عليه ببعض جمل الحوار الموضوع، أو بتقليد حركات معينة، حتى لقد بلغوا خمس شخصيات في نهاية العصور الوسطى العربية . 
وكان الحكواتي ـ على حد تعبير د. عبد الحميد يونس (4) ـ يقلد بصوته وحركاته مواقف الوعيد والزجر والغضب والنصر والغزل، وقد يصحب معه آلة موسيقية تقوم بدور الإيقاع أو الإيحاء بمعنى معين لتأكيد الحدث. 
كذلك هناك شكل آخر للسامر متمثلاً في « عازف الربابة « أو ما كان يسمى بـ « شاعر الربابة « وهو منشد متجول ينتقل من مكان إلى آخر، وكان إلى وقت ليس ببعيد يطوف بالقرى المختلفة ليسرد سير الأبطال والمشاهير من ملوك وأمراء الزمن القديم، معتمداً على ذاكرته ولغته السهلة التي تصل إلى الجمهور بيسر وبساطة . 
« ويبدأ شاعر الربابة عرضه بتقديم فاصل قصير من العزف على الربابة يظهر فيه براعته في العزف، ويكون من شأنه جذب انتباه الحاضرين فيكفون عن الحديث وينصتون إليه . 
ويبدأ غنائه بالصلاة على النبي « فلا يحلي الكلام إلا بذكر المصطفى عليه الصلاة والسلام « . 
ثم بعد ذلك يدخل إلى أحداث السيرة، وكلما توغل أكثر كلما اشتدت حركة الانفعال، فهو لا يلجأ إلى تسميع السيرة، إنه يؤديها فهو يترجم المعنى أدائياً من خلال الطبقات الصوتية المختلفة ومن خلال تلوين المعاني بالانفعالات والتنغيم (5) . 
أو على حد تعبير د. على الراعي (6)، فالراوي _ في هذا الاطار _ مدرب من خلال الممارسة الطويلة على التحكم في صوته فهو طيع مهذب قادر على التعبير عن أي انفعال، وهو يعلم كيف، ومتى يلجأ إلى هذه الطريقة أو تلك من خلال المران الطويل، فعندما يقدم الراوي شخصية البسوس يبلغ جمهور السامعين عن مدى خستها، ونذالتها، ومن خلال الأداء الإيحائي، بينما نجد هذا مختلفاً عندما يقدم شخصية الزير سالم النبيل، الشهم والمخلص، بل إننا نلحظ تسرب نفسية الراوي من خلال الأداء ومن خلال أحكامه على الشخصيات بمدح بعضها أو ذم البعض الآخر « . 
وبمنطق المحترف يطوع «شاعر الربابة« الموسيقى لتناسب السرد الدرامي، خفوتاً وتصاعداً، ففي لحظات السرد القصصي تبدو الموسيقى هادئة، ومع تصاعد الأحداث وبلوغها ذروة الدراما يتسارع اللحن بتسارع القوس على الأوتار، وبهذا يحدث التوافق الموسيقى بين الدراما والغناء مما يساعد على اجتذاب الجمهور ولفت انتباهه، وجعله حاضراً داخل سياق الحكاية المروية . 
وإلى سنوات تتجاوز العشرين عاماً كان شاعر الربابة يمر على البيوت في القرى، فكنا نخرج إليه لنستمع إلى بعض رواياته وحكاياته الجذابة، وفي يد كل منا إما رغيف خبر بلدي أو حفنة من أرز أو قمح أو زجاجة من اللبن الطازج، وكنا نعطيه هذه الأشياء في مقابل أن يسمعنا ما يحفظ من قصص ونوادر وسير . 

الهوامش: 
(1) د. هناء عبد الفتاح: دور التظاهرات شبه المسرحية في تشكيل  بدايات المسرح العربي . 
(2) إبن إياس: بدائع الزهور ـ الجزء الثاني ص 247 . 
(3) عبد الرحمن الجبرتي: تاريخ الجبرتي، دار الأنوار المحمدية ـ     القاهرة 1986، الجزء الرابع ص 97 ـ 98 . 
(4) عبد الحميد يونس، الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي ـ مطبعة  جامعة القاهرة، 1956، ص 152 ـ 153 . 
(5) السيد محمد علي: السامر الشعبي ـ مكتبة الأسرة ـ ص 150 ـ  151
(6) د. على الراعي، الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري، كتاب  الهلال، 1968 ص 32 .     


عيد عبد الحليم