العدد 720 صدر بتاريخ 14يونيو2021
يخوض الشاعر والكاتب المسرحى «بكرى عبدالحميد» تجربة كتابة مختلفة إذ يتناول من السيرة الهلالية فتحها لتونس, ويكتب هذا الحدث فى ثلاث صور مسرحية منفصلة تشكل كل منها نصا مسرحيا بذاته, وبمعالجة مختلفة... ذلك بعنوان عام هو «سلاطين الهلايل” وعناوين فرعية هى “الهلالية” ـ وقد قدمتها فرقة قومية «سوهاج» فى موسم 2016 وشاركت به فى المهرجان الختامى للعام نفسه من إخراج «حمدى حسين» ـ أما الصورة الثانية فبعنوان «التغريبة .. بنت الزناتى” والمعالجة الثالثة “ أبواب تونس».
وعلى مسرح البالون, بـ “قاعة صلاح جاهين” تقدم المخرجة «منار زين» رؤيتها للصورة الثانية “تغريبة بنت الزناتى» فى عرض تتجادل شخصياته فيما يشبه محاكمة يقيمها «دياب بن غانم» لجميع الشخصيات, وتحاكمه هى الأخرى... وتفجر الأحداث إستغاثات «سعدى بنت الزناتى» من محاولات «دياب» الحصول عليها قسرا ليتوج بذلك الفعل الدنيئ سلطنته المغموسة بالغدر على الهلالية ـ والسلطنة هى الحلم الذى راوده طوال حياته ـ بعد نجاحه فى قتل «الزناتى” وإخضاع «تونس» للهلالية وهى ما ارتحلوا من أجله بعد أن أجدبت أرض بلادهم, سعيا إلي أرض لا تنقطع عنها الخيرات طوال فصول العام وفقا لرؤية العراف «شلقامى» بالنص المكتوب/ العرافة شلقامية بالعرض, وبعد فتح «تونس» ينصب «دياب” نفسه سلطانا على الهلالية, لا سيما بعد قتله “أبو زيد” غيلة.. مع استغاثات «سعدى» يستدعى الماضى, القريب منه (الملابسات المحيطة بفتح تونس) والبعيد منه (واقع الهلالية ما قبل ولادة أبو زيد حتى قرار الإرتحال) يستدعى الماضى بشخصياته مجسدين أحداثه أمام المتلقى ليربط بين حدث اللحظة الراهنة (محاولة اغتصاب سعدى) ومعطيات الماضى التى أدت لتلك النتيجة... وإذا كانت “سعدى” قد لعبت دورا محوريا فى هزيمة والدها وبلادها بتسليمها مفاتيح المدينة للأعداء ممثلين فى “مرعى” ابن سلطان الهلالية الذى عشقته وباعت بحبه مملكتها ووالدها, طمعا فى الفوز بالحب و الجلوس على العرش مع العشيق الذى أغراها باالإثنين لتتغلب على صراعها النفسى المتراوح بين الأب والعشيق, ومع خيانتها للأب والوطن كان عليها أن تدفع الثمن (الإغتصاب فى اللحظة تالحاضرة) أما على المستوى الدرامى فهى تدفع الثمن مرات متعددة, إذ يتوقف الحدث اللحظى, ومن ثم الفعل مع استدعاء كل شخصية من الموتى استجابة لاستغاثاتها من الإعتداء عليها, وقد تكرر ذلك مع استدعاء «خضرة, الجازية, السلطان حسن. وأبو زيد” ثم تعود الأحداث إلي اللحظة الدرامية الآنية (محاولة فعل الإغتصاب) مرة أخرى ومع تلك التكرارت يتكرر التعذيب الواقع على “سعدى” ليتعادل الثمن مع الجرم المرتكب, وتظل بذلك «سعدى» هى الشخصية المحورية لعرض مسرحى معنون بها رغم محدودية تأثيرها ووجودها فى سياق السيرة الهلالية, إلا أنها فى السياق الدرامى تتواجد بقوة (فى العنوان, واللحظة الدرامية الأولى, وحتى لحظة النهاية) حيث تترك لمصيرها مع “دياب” ذلك المصير الذى لا يصعب تصوره مع شخصية «دياب» الذى المرتئى لأحقيته فى الحصول على جسد بنت «الزناتى» فهو المنتصرعليه, ويعزز تلك الأحقية “الأغبر” وهو الصوت الداخلى والوجه الخفى لـ «دياب» ذلك الكائن المشوه, الكاره للهلالية, المتمنى لهم الشر والضعف وزوال العز والعزوة, ويعكس مايضمره لهم فى تأكيده على حمل كل نسائهم بالبنات دون الذكور فى ولادتهم الجماعية الأولى, وشعوره بالألم حين ولدن ذكورا فى المرة الثانية التى ولد فيها «أبو زيد” ولم يستطع إخفاء حزنه وألمه: “الليلة دى كحلة وفجرها ما طالعش, هواها طابق على صدرى, عاوز أتنفس, عاوز هوا, آه, الصراخ ح يفرتك ودانى (النساء تصرخ, الأغبر يضع يده على أذنيه)
الأغبر: أسكتوا.... أسكتوا... كفاية, مش قادر, ح أموت, كفاية......... سبع الهلايل جه.. هاتروح وين يا أغبر؟
إن ا”لأغبر” بذلك التكوين النفسى ما هو إلا وجه العملة الآخر لدياب وصدى له, وما التشوه الجسدى إلا إنعكاس للتشوه النفسى الذى غذاه طوال الوقت إحساسه بعدم الإنتماء للهلالية:
غانم : من يوم ماهلينا ع الهلايل واحنا منهم.
دياب : عمرنا ما كنا منهم
غانم : عايشين فى كنفهم.
دياب : عايشين عيشة العبيد.
ويرسخ هذا شعوره بالإهمال وعدم التقدير الذى يستحق
الجازية : كفاية يا دياب.. كفاية المر اللى زقيته للهلايل, وكفاية الشوك اللى زرعته ومشيتنا عليه.
دياب : انتوا اللى زرعتوا الشوك قبل ما ازرعه, انتوا اللى عمركم ما شفتونى, خليتونى غريب وسطيكم, ما كنتوش شايفين غير بركات.
إن رغبة «دياب» فى الحصول على جسد «سعدى» ليس فقط لرغبة فيها والإستمتاع بها بقدر الإستمتاع بإنتهاك الحق الهلالى فيها ـ كحبيبة لمرعى ـ بعد ما اندثرت قوة رجال الهلايل تحت وطأة العجز ووطأة الموت, ولا تسلم منه حرائر الهلالية, فالأحياء منهن صرن «حريمهم جوارى فى قصر دياب, وعيالهم من صلبى......» أما الأموات كـ «الجازية, خضرة الشريفة» فتسعيان للذود عن “سعدى” ومحاولة إنقاذها من بين مخاليه, لإنقاذ الشرف الهلالى الذى يأبى إنتهاك حرمة من لجأت إليهم, فلا تسلم المرأتان منه إذ يذكر خضرة بطعن زوجها فى شرفها حين ولدت «أبوزيد» أسمر اللون, كما يذكر «الجازية» بتركها لزوجها وأولادها والرحيل مع الهلايل إلي تونس طمعاً فى الجلوس على عرشها بجوار شقيقها السلطان «حسن» كما يتهمها أيضا فى القذف بـ «أبوزيد» إلي التهلكة حين اقترحت أن يذهب بمفرده لإكتشاف أرض «تونس» وخيراتها, والتقصى عن قوة ملكها وجيشه, والعودة إلي الهلالية بالخبر اليقين قبل أن يشد الجميع رحالهم إلي تلك الأرض المجهولة والمصير المجهول.
الجازية: تروح انت يا أبو زيد, ترصد المكان وترقبه, تعرف سلطان البلاد شديد ولا طرى, قوة رجالها وعدد جيوشها, مداخل البلد ومواعيد فتح أبوابها, خيرها اللى بيقولوا عليه يستاهل ولا ما يستاهلش وترجع لنا ونتشاوروا.
إن الكاتب «بكرى عبدالحميد» تنتمى كل كتاباته المسرحية المؤلفة (له بعض المسرحيات المعدة عن روايات مثل دعاء الكروان, شيئ من الخوف, منافى الرب) إلي التراث, وهو فى تعامله مع التراث, وهو يعيد قرائته للتراث ويعيد تأويله بما يمكنه من التماس مع الواقع الآنى ليطرح من خلاله هموم ومشاكل إنسانه المعاصر بشكل غير مباشر, ليعطيه ذلك مساحة من الحرية فى مناقشتها وطرح رؤيته ـ كمثقف مهموم بقضايا وطنه ومجتمعه ـ بشكل قد لا تتيحها له ـ ككاتب ـ الملابسات الحاكمة للظرفية الآنية, وفى مسرحية “تغريبة بنت الزناتى” هو لا يلجأ إلي تلك السيرة الشعبية لمجرد استعادتها أمام جمهوره, بل هو يلتقط من أحداث فتح «تونس» ذروتها وقد استتب الأمر لـ «دياب بن غانم» على السلطنة, وسعيه للحصول على جسد «سعدى بنت الزناتى» ضمن التركة التى خلفها الرجل بعد مقتله, وبعد زوال سلطان وفرسان الهلالية وخيرة شبابهم وحتى أشراف نسائهم, ويصبح على قمة السلطة “دياب” الحاقد المشوه نفسيا, المتأزم من معاملة القبيلة له, وعدم تقديرهم له التقدير الذى يستحق
دياب: إنتوا اللى زرعتوا الشوك قبل ما أزرعوا, إنتوا اللى عمركم ما شفتونى, خليتونى غريب وسطيكم, ما كنتوش شايفين غير بركات.
وحتى فى فتحهم لتونس وطوال فترة الصراع, واستعصاء الزناتى على سيف «أبو زيد» لم يكن «دياب» يشارك فى المعركة, بل «بيرعى البهايم والحريم» ولم يتم استدعائه للمشاركة فى القتال إلا بعد أن كشفت «سعدى» لمعشوقها «مرعى» عما أفصح به العراف الذى يقرأ للزناتى الطالع: «مكتوب عليك تحارب غراب, وتموت بيد طير أحمر زغبى», ولولا ذلك ما سعى «مرعى» من سجنه ـ بعد فكه لشفرات ما قاله العراف ـ أن يخبر الهلالية بضرورة استدعاء «دياب» ومشاركته فى الحرب التى لن تنهيها سوى حربته... لكل ذلك يضمر الزغبى بصدره كرها لا يوصف للهلالية, وينتظر سنوح فرصته للإنتقام, حتى جاءت إليه, وانتقم لنفسه من الجميع دون أن يرعى حرمة أو شرف, أو يتخلى عن غدر، أوخسة أو ندالة, أو حتى ينكرها : « وإيه يعنى.. الغدر نص الجدعنة»
إن النموذج «الديابى» أصبح هو السائد فى المجتمع ربما طوال عقود ثلاثة ماضية, أويزيد, وأصبح هو السائد فى مفاسد وفساد بعض كبار المسؤولين, والكثير من رجال الأعمال, وأصبحنا نقابله فى المواصلات العامة والنادى, وبين طلبة الجامعات والمدارس, والأكثر انتشلرا فى الشارع, أصبح النموذج “الديابى” بكل ما يمثله من تدنى أخلاقى وخشونة فى السلوك, الساعى لخطف ما لا يملك, الفارض بالقوة لأنساقه القيمية الرزيلة, وذوقه الخشن.. هو صاحب الصوت الأعلى فى المجتمع, وتصدير نسقه على أنه النموذج الذى يحسن اتباعه, والمحقق للنجاح المضمون بغض النظر عن الوسيلة, والذى أصبح ـ لللأسف الشديد ـ يروج له عبر الدراما التليفزيونية بكثافة... هذا مع تراجع القيم الإيجابية, واندحار أصحابها تحت وطأة الظروف الإقتصادية الخانقة وهدير تلك النماذج الديباوية وانتشارها بسرعة مذهلة.
جاءت مسرحية “بكرى عبدالحميد” كنفير منذر للمجتمع من خطر انتشار تلك النماذج على المجتمع والخوف من سيادتها, والمؤلف لم يرد أن يتناول ذلك بشكل مباشر, بل ـ كعادته المحببة لديه ـ أراد أن يطرح رؤيته عبر التراث الذى يتجادل معه دائما, ووجد فى السيرة الشعبية «الهلالية» بغيته عبر شخصية «دياب» التى يتجسد فيها بشكل أنموذجى كل ما أراد المؤلف أن يحذرنا منه, حتى لا يسود ذلك النموذج فى مجتمعنا كما ساد «دياب» وقيمه وتسيد على الهلالية وانتهك كل قيمها نبيلة, بل وينتهى النص والعرض مؤكدا على انتصار ذلك النموذج بصراخ «سعدى» التى لم يكف عن محاولات إغتصابها.
وتتناول المخرجة “منار زين” النص بكل دلالاته, وكتابته غير التقليدية, لتبث فيه رؤيتها وتخلق معادله البصرى مع مصصم الديكور «عمرو الأشرف» الذى جعل مكان المتفرجين فى الثلث الأوسط من قاعة «صلاح جاهين» محدودة المساحة, والمقاعد فوق قرص دائرى دوار, بينما الثلثان الأمامى والخلفى للقاعة تركا كمساحتين لتجسيد أحداث العرض, أحدهما يطالع المشاهد بشجرة عجفاء فى أرض الهلايل بعد الجدب, يجاورها باب يفضى إلي الداخل, ومن ناحية اليسار سجن يوضع فيه «مرعى» الذى سجنه الزناتية قبل نصر الهلالية عليهم, وقد ارتأت المخرجة أن تكتفى بسجن «مرعى» فقط دون شقيقاه «يحيى, يونس» ليتواءم وجوده الفردى مع المشاهد التى جمعته بـ «سعدى» وهى لقاءات جسدية حميمية عبر عنها «مناضل عنتر» بتصميماته الحركية التى أضافت كثيرا للعرض, ونعتقد أن المخرجة أرادت التأكيد على نوع تلك العلاقة لتؤكد على إدانة «سعدى» التى تمرغت بين ذراعى معشوقها فكانت خيانتها لوالدها ووطنها.
أما الطرف الآخر من قاعة العرض قد جعلته المخرجة لتجسيد المشاهد الماضوية بأرض الهلايل قبل مجيئهم «تونس» مع دوران القرص الدوار بمقاعد المشاهدين لمتابعة ما يحدث, على أن يعود مرة أخرى مع الإنتقال إلي تجسيد الحاضر الدرامى, وتغلبت تلك الآلية على محدودية مساحة قاعة العرض, التى تسببت فى إخفاق «عمر الأشرف عن التعبير عن الأرض التونسية بأى ملمح مختلف عن أرض الحجاز الصحراوية التى جعلها متجاورتين.
ولأن زمن الهلاليل غير معروف على وجه الدقة, مما جعل «شروق سامى» تستوحى الخطوط العامة للأزياء العربية بذكاء حماها من فخ السقوط فى تحديد طراز معين... كما كشف العرض قدرات ومواهب تمثيلية كبيرة لدى الشباب تفجرت فى الطاقة الهادرة التى يمتلكها «محمد حفظى/ دياب» الذى لم يقف على أعتاب الشخصية بل دخل فى كل تفاصيل بنائها بكل أبعادها فجاء أدائه العاكس لحجم موهبته وقدراته الكبيرة, كذلك كانت «فاطمة عادل / سعدى» التى وعت المراحل الثلاثة لشخصية سعدى (ما قبل فتح الهلالية لتونس كما فى مشهد لقاء العرافة مع الزناتى, ثم مرحلة الإنغماس فى العشق والإستمتاع به فى ذات الوقت الذى توخزها فكرة التضحية بأبيها, ثم المرحلة الثالثة ومجيئ لحظة دفع الثمن والعذابات التى لا تنتهى بتكرار محاولات الإغتصاب التى جعلت منها شبيهة بـ «سيزيف» وخيانته للآلهة, وعذابه اللا نهائى, وقد وقفت «فاطمة عادل» على الفروق الفاصلة بين تلك اللحظات وما تتطلبه فى تنوع الآداء, دون أن ينفلت منها أحدها, وكانت مفاجأة العرض كذلك «هبة سليمان / شلقامية» العرافة, التى خرجت عن نمطية الآداء لأدوار العرافين, بل ألبست الشخصية ثوبا من الإنسانية لاسيما فى قراءتها لطالع “زناتى” تلمح ولا تصرح بكل ما تعرف بالنظرات والإيماءات إلي ابنته التى ستلعب دورا فى هزيمته ومقتله, وتبارى مع هؤلاء «عبد البارى سعد» فى دور «الأغبر» شيطان دياب والصوت الآخر له ليؤكد على مخزون هائل من الطاقة التمثيلية, ولم تستطع تلك المباراة أن تشع عدواها إلى “هدى عبدالعزيز / خضرة أو محمد علاء / أبو زيد” اللذان جاء أدائهما فاترا ونشازا عن المجوع المتألق, واجتهاد كل من «هانى عبدالهادى, احمد يحى» فى حدود ما أتاحه لهما دوريهما.
والعرض يؤكد على وجود مؤلف واع فى تعامله مع التراث والإمساك بما يتماس فيه مع الواقع الآنى, كما يؤكد على وجود مخرجة مجتهدة ومتطورة, من عمل إلى آخر, ولا تركن فى أعمالها إلي التقليدية بل تبحث دائما عن جديد فى الأعمال التى تتصدى لها, وتعرف كيف تغوص فى النص وتخرج منه لآلئه وتضعها فى إطار جمالى يتزاوجمع عق ما تتناوله من أفكار.