العطر.. الجانب العائلي لـ«شظايا»

العطر.. الجانب العائلي لـ«شظايا»

العدد 589 صدر بتاريخ 10ديسمبر2018

وأنا في طريقي لمشاهدة عرض “العطر،، قصة قاتل” لفرقة شظايا من إعداد وإخراج نور عفيفي؛ وشاركه في الإعداد محمد يعقوب، تبادر لذهني تساؤل يحب الوقوف عنده ومحاولة الإجابة عليه من قبل المتخصصين، ليس في المسرح ولكن في مجالات علم النفس الاجتماعي والعلوم المرتبطة به، وهو لماذا يلجأ المسرحيون المصريون وخصوصا الشباب في استلهام الروايات الأجنبية خاصة لمحاولة تقديمها مسرحيا؟ مع الإقرار بأن التعامل ليس فرديا، بمعنى أن الغالب أنه عندما يقرر أحدهم هذا؛ ويقدمه بالفعل، سرعان ما تبدأ دائرة التقديمات المختلفة لهذه الرواية بالذات مع الاختلاف في الإعداد بالطبع، ولكن للأسف الشديد فإن ظلال المعالجة الأولى تكون هي الغالبة، فلا يأتي أحد بجديد من وجهة نظر أو حتى التعامل مع الشخصيات، ومع اعترافي بأن بعض التقديمات المعادة دلاليا لم تقرأ أو تشاهد العرض الأصلي أو ما انبثق عنه، ولكنه قد يكون هناك شبه توحد في النظرة أو الاستنباط للمعنى يشترك في الغالبية، حدث هذا كثيرا في قواعد العشق والعطر و1984 والرجال من المريخ.. إلخ، مع إشارة فقط أن هذه الروايات جاءت لمصر ومعها صيتها بأنها من أكثر الروايات مبيعا في العالم.
التقديمات السابقة لرواية “العطر” للمؤلف الألماني باتريك زوسكيند؛ وهذا التقديم أيضا انصب على إبراز الحكاية من خلال الجانب شبه الأسطوري لبطل العرض، هذا الطفل الذي تجاوز مصاعب نشأته البائسة المضطربة، ومن رعاية الكنيسة لدخول الملجأ والعمل أجيرا، وامتلاكه أنفا حساسا قادرا على فصل الروائح ومعرفتها، يرتكب جريمة القتل الأولى بخنق فتاة أعجبته رائحتها، ويعمل لدى صانع عطر فيصنع له عطورا جديدة، ولكنه يجزع حينما لا يعرف استخراج الروائح الأولية لبعض العناصر مثل النحاس والماء، فيذهب لمدينة أخرى تشتهر بقدرتها على استخراج العطر بطريقة أكبر، وهناك في سعيه للحصول على الرائحة التي يحبها من الأجساد البشرية خاصة العذراوات الحسان يقوم بقتل الكثير من الفتيات حتى ابنة العمدة، وعندما يلقون القبض عليه يرش عطرا يذهب بألباب الجميع ولا يحاسبونه، بل يقدرونه ويمنحه الأب المفجوع رداءه إشفاقا عليه، ثم يتركهم ويذهب لمسقط رأسه وساعتها يرش العطر الخلاصة من تجاربه على جسده؛ سعيا ليكون له رائحة فهو ولد بدون رائحة، ولكن تلك الرائحة تجعل الجميع ينقض عليه ويمزقونه إربا.
إن هذه المعالجة والمعالجات السابقة حاولت أن تضفي بعض التعاطف مع بطلنا: مع أن هذه المعالجة ركزت على أن كل من يتعامل مع هذا البطل يموت فور تركه إياه، حدث هذا مع راهبة الكنيسة وصاحبة الملجأ وصانع العطر، ولكنها دلالة اتخذت في الجانب المضاد، حيث كان التركيز على بشاعة العالم من حوله دون التطرق لطبيعته غير السوية.
ومع أن الرواية كان لها تفسيرها المتفق عليه عالميا؛ بأنها كناية عن حياة هتلر وأصوله وصولا لمرحلة القوة ومن ثم النهاية، إلا أن هذا التفسير عن طبيعة طاغية أو سفاح أيا كان لم يكن لها وجود؛ لا في هذه المعالجة ولا سابقاتها.
أما عن كيفية تقديم فرقة شظايا لمعالجتها، فيبدو أن الجانب العائلي أو الحميمي في علاقات الأصدقاء والفرقة، كانت هي الغالبة في توزيع الأدوار إلا فيما ندر، وربما هذا يفسر وجود الأطفال في العرض دون حاجة درامية ملحة، وكان لوجودهم الأثر في التضحية بما هو واجب من أحداث لحساب من نحب أن يكون موجودا على الخشبة، مع أن أداء الأطفال كان جيدا ومبشرا.
ومع محاولة ألا يكون هناك تغيير للديكور على خشبة المسرح بما يتلزمه من لحظات يسود فيها الإظلام، حاول المخرج مع نورين ماهر المذكورة كواضعة للسينوجرافيا، بأن يشتمل المنظر المسرحي على إشارات لكل الأماكن؛ ما بين الكنييسة والملجأ، ومصنع الجلود، ومحل بائع العطر، والطريق، والمدينة الثانية.. إلخ، وهذا اتجاه جيد، ولكن كيفية تنفيذه هي الأساس، فلا يعقل ونحن أمام فرقة وليدة تشكو من قلة الإمكانات بأن تفعل هذا الخلط، فما بين الاستخدام غير الواقعي لوجود كل الأماكن في بقعة واحدة لم يكن هناك أي من دواعي قطع الديكور الثقيلة التي جاءت بشكل واقعي حينا وطبيعي في معظم الأحيان، وتداخلت مع بعضها البعض بحيث لا يستطيع المشاهد أن يفرق بين الأمكنة، لولا وجود بعض المساعدة من الراوي، وفي هذا الأسلوب إن أحببنا أن نستخدم الأشياء الواقعية أو الطبيعية ولدينا راوٍ، ساعتها نستغل الوقت الذي يتكلم فيه الراوي قبل أن يحيلنا للحدث لتهيئة المشهد القادم؛ حيث إننا وجوبا نرى ما نراه من وجهة نظر هذا الراوي ولا يعقل أن يكون في مخيلته كل الأماكن مجتمعة وهو يتحدث عن شيء واحد، خصوصا أن هذا الراوي تم تقدمته في نهاية الأمر على أنه مؤلف، أي أنه مخترع للحدث لا مخبر عنه.
وإذا كانت هناك الكثير من المواهب الواعدة في مسألة التمثيل إلا أنها كلها كانت صرعى نتيجة التشويه الشديد في نطق الفصحى، بحيث إنك لم تخرج من هذا العرض الممتد لأكثر من ثمانين دقيقة إلا ببعض جمل نطقت بطريقة صحيحة، والأغرب أن المخرج يعرف هذا ولم يبدِ بادرة لتصحيحه.
أخيرا، أقول إن فرقة شظايا وغيرها من الفرق الشبابية الحرة المستقلة الكثيرة التي تكونت في مصر من خلال العقد الأخير، قد تكون هي الأمل في استعادة المسرح المصري/ العربي لرونقه وبهائه، ولكن بشرط أن يتم الأمر بالطريق السليم والبعد عن الحميمية والالتفات للأجدر والأجدى على المستوى العام، حينما تخرج هذه الفرق من عباءة أن تكون المشاهدة والعروض موجهة في الأساس للأهل والمعارف الأقربون الذين حتما سيبتسمون ويصفقون ويصرخون باسمك أثناء العرض فرحين بابنهم أو صديقهم الواقف على المسرح.
صدقني لو حدث هذا فمعناه أنك لم تنجح كممثل ولكنك نجحت كابن أو صديق؛ وهذا ليس مكانه على خشبة المسرح، إنه ببساطة المعنى الكامل لهذا الذي يتم أنك لم تنجح كممثل في إقناعهم بشخصيتك المستعارة كممثل، وأنك أنت أنت؛ لا الشخصية كما يجب أن تكون، علاوة على أن الحدث العام لم يجذبهم إليه لتكون الأشياء على مسمياتها المرادة.
حينما تخرج هذه الفرقة وتقدم نفسها بشكل شبه احترافي للجمهور العام ويمتد العرض لليال متواصله ويخرج مستمتعا الجمهور العادي الذي لا هو قريب أو صديق، ساعتها من الممكن أن نقول إنك على طريق النجاح، وإن عطرا جديدا وجيدا يأخذ مكانه في حياتنا دون محاباة أو تعصب.


مجدى الحمزاوى

mr.magdyelhamzawy@gmail.com‏