قراءة تأويلية لمسرحية 18 أكتوبر الوجع غائر على أديم الوطن الثائر

قراءة تأويلية لمسرحية 18 أكتوبر  الوجع غائر على أديم الوطن الثائر

العدد 813 صدر بتاريخ 27مارس2023

إنّ مسرحية 18 أكتوبر هي أولى انتاجات مركز الفنون الركحية بتوزر ، (سينوغرافيا وإخراج عبد الواحد مبروك، نصّ بوكثير دومة). وهي  مسرحية تم حبك أحداثها على مجاز تاريخي، هو الحدث  السياسي  الذي عاشته تونس، تاريخ توافق المعارضة يوم 18 أكتوبر 2005، ضد الاستبداد. وانتهى اضراب المعارضين الثمانية بتشكيل هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات.  فالتقى العروسي (المربي) الاسلامي، خريج كلية الشريعة،  بصديق الجامعة المحامي الشيوعي «عمار النفطي». التقيا على أرض مألوفة، وطأتها أطياف مختلفة واتجاهات فكرية متعددة. ترمز حليمة إلى تونس، هذه الأرض التي تعاقبت على تربتها، صراعات ايديولوجية مُتناحرة، من اليسار إلى اليمين، كانت حليمة تُغيّر وجهها في كل مرة، لكن عمقها ظلّ هو هو، عمقا مُتحررا، ثائرا على كلّ مُستبد. فرفضت الحب المغلّف بالاستبداد، ورفضت التحرّر الناتج عن التفسّخ والاغتراب، تنكّرت الأرض للأب المنسل، لأنه شوّه تاريخ الحرية.
لقد استعمل الكاتب بوكثير دومة هذا الحدث «شماعة» يعلّق عليها مجازا مسرحيا كما يقول، فيصبح الحدث حاملا للمسرحية على جهة الاحتواء وكذلك على جهة تفجير معاني أخرى يمكن أن تكون متخيلة ويمكن أن تكون مستندة على ما حدث بالفعل. 
يوحي العنوان بجدل سياسي صاخب، بين اليمين واليسار، تتوسّطه امرأة مراوحة بين البياض والسواد، وبين التجلي والتخفي، لكنها امرأة تكشف لعبة الساسة وخيانة الأرض والعرض، وتفجر ما بين اليمين واليسار تيارات من الصداقة الملغزة، أو وشاحات من العداوة غير المعلنة. 
يتخذ بوكثير دومة من الجو الصحرواي ايحاء بالفراغ والتصدع الوجودي والسياسي بعد الثورة، على طريق الشط، بالجنوب الغربي للبلاد التونسية، يستعير لهجة المكان، وحكايات الفضاء، وتلوينات الرمال. وسط عاصفة رملية، يتوضأ العروسي وصديقه عمار بالرمال. كأن السينوغرافيا التي شكلها عبد الواحد مبروك، تتحاور مع النص وفق صوفية شعرية، تساقط حبات الرمال الملونة والناعمة، توحي بأن المكان الثائر هو المكان المقدس الحقيقي، وأن صلاة العروسي اليميني، هي ثورة ناعمة تسدل ستارها مع كل سجدة، تحاول قمع الغضب المتواري وسط ضباب خيّم على الأنفس وجعل الحياة مع زوجته حليمة شبيها بتقطعات الموت، حب يحتضر على طريق الشط، يغزوه عمار اليساري، يعيد اليه شهوة الغضب الأول وعنفوان الثورة المتأججة.
لا تبدو «حليمة بلباسها الشرعي، القاتم، ثائرة بحق، فهي تتجادل مع زوجها ضدّ اليسار الذي كان ماضيها، وضد عمار الذي كان حبها القديم من أيام الجامعة. تجرب «حليمة» مجازا جديدا وقناعا جديدا بعد أن استسلمت لتيارات الحياة الغادرة، وخان الأب دماء الأبوة واغتال وصالا بريئا بينه وبين ابنته، أخت حليمة. ان حليمة لا تختفي أمام الناس، لكنها تختفي أمام نفسها، تقنع التراب الذي تمشي عليه أنها ستولد من جديد كما تريد. 
يقترح عمار النفطي على صديقه العروسي، «توافقا مزعوما» هو توافق اليسار واليمين، فيختلق مجاز «المثلية السياسية»، يحاولان الهروب الى الدانمارك، طلبا للجوء المختلفين، والمثليين. تتواصل حلقات التدريب على «المثلية» وسط مشاهد نقدية مراوحة بين السخرية السوداء والنقد الخفي لخطابين متطرفين، يسار متطرف ويمين متطرف، وبينهما تحاول حليمة أن تجهض على هذا التوافق، ولكنها تفشل في البقاء الى جانب زوجها العروسي اليميني، الذي انحاز الى اليسار، أغرته جرأة الثورة، ودوي الخطابات، لكن العروسي ظل خائفا من اللفظ المدوي على جهة اليسار، رغم إعجابه بقوة الموقف الذي يتبنّاه  عمّار النفطي في الانتصار لقضايا اليسار الثوري. يخاف العروسي من «الرفاق، والرفقة، ويُفضل الجماعة، ويحول مفاهيم اليسار الى مفاهيم يمينية مقنعة، تحتفظ لنفسها بنفس اسلامي. أما عمار النفطي، فينجح في فضح الغرائز المقموعة في جسد «العروسي»، كما ينجح في كشف الماضي الذي جاءت منه حليمة زوجة العروسي. كانت حليمة صديقة قديمة لعمار النفطي ، وكانت صديقته في النضال السياسي كذلك أيام الجامعة، ولكنها ارتدت قناعا جديدا محاولة البدء في مسار جديد. 
ترمز حليمة الى الأرض «النكارة»، الى الوطن الذي تداول على سيادته الكثيرون، كان الزرع اخفاقا مبثوثا، فكان الحصاد سمّا مرشوشا. جسدها منهك من ضياع الاحساس بالحياة، توارت وراء أوجاعها، اسكتت صوت الحب والرغبة، وأسكتت صوت السياسة حولها لتحكم أرضها بنفسها، ولكنها كانت بمثابة الأرجوحة، تتأرجح بين ماضي يساري لذيذ ومُخطر، وحاضر يميني جاهل ومطمئن. ربما لم تكن حليمة ترضى أن تكون «بين-بين»، ففي عمقها تكلمت الثورة عمدما انتفضت وألقت قناعها، وتخلّصت من السواد الحالك الذي غلف حسها وجسدها، وعادت ترقص ثائرة برفقة عمّار النفطي، الذي حرّك مسام الحياة فيها من جديد. ولكن الأرض التي استنشقت عبق الخيانة لا يمكنها أن تستمر في تصديق الحياة الراقصة، فما الرقص الا لحظات مسروقة، أرادت من خلالها حليمة اختبار وضعيات الحياة لديها. خافت حليمة من نفسها ومن تدفق الحياة والحب فيها من جديد، لذلك تخلت عن عمار، وعادت أدراجها تحذّر العروسي من العودة اليه أيضا. لم يكن العروسي يفقه شيئا، لكنه انغمس في لذائذ التوافق المزعوم، وأعجبته لعبة «المثلية السياسية»، ولكن وراء لعبة السياسة التوافقية، تنكشف لعبة الجسد المقموع الذي انهكته مناسك اليمين، وظل في جوف الصحراء، يطلب فرجا لا يأتي. كسدت التجارة الحقيقية، وازدهت المتاجرة بالأدعية، في خضم فراغ سياسي، وتوتر صارخ على كرسي السلطة المرتعش. 
يرتعش الجسد اليميني، ويرقص الجسد اليساري، يلتقيان في نقطة ما، هي نقطة الرغبة في السفر نحو بلد يؤمن بالاختلاف في كل شيء. ولكن لا تنطلي الخطة على سفارة الدانمارك، لأن العروسي خان صديقه عمار النفطي، ولم يستطع أن يقنع السفارة بأن زواجهما المثلي هو حقيقة لا غبار عليها. تشتد نوبات الصرع بالعروسي، فيصرخ ويلتوي، ويسقط، متألما من فشله الذريع. أما عمار النفطي فيُصيبه داء الكحلي، ويزداد هرجا ومرجا، يتُوه وسط واحات النخيل، يحاول الاقتداء بحاسة الشم، يتحسّس معالم رفيقه الذي خانه قبل ساعات الرحلة بقليل. لكن حليمة، يزداد قلبها قسوة وشدّة، فلا تهتم بحال العروسي زوجها، بل تتلذذ برؤيته متصدعا مصروعا. ولا تعير أهمية لما يحصل لعماّر النفطي، بل تشحن نفسها غلاّ وغضبا عليهما، لأنهما خاناها معا، وكانا يفكران في التخلي عنها. 
كتب بوكثير دومه نصه «18 أكتوبر» بلغة شعرية، مرصوصة من عبق النخيل بالجنوب التونسي، مستلهما من اللهجة الجريدية، غموضها ولحنها ومراوحتها بين اللين والشدوة، لهجة تحسها كما تراها، وتتفاعل معها منطوقة ومنظومة. كما شحن نصه بمجازات الصحراء، وصور  النار والهشيم والجنة والعذاب واللذة والمصير والعقاب..ذلك هو معجم لاهوتي، يستفرد به بوكثير دومة وكأنه يلقن الحياة على الركح درسا لاهوتيا، متشبعا من ألفاظ النصوص الدينية، والمتداولات اليومية، حتى يتمكن من ممارسة نقده لما شاع بعد الثورة التونسية من التباس في المفاهيم ومن عودة الى التوظيف  السياسي  للدين، ولمصطلحات الجنة والثواب والعقاب. تغزوك المعاني الواردة في مسرحية 18 أكتوبر، غزوا فلسفيا، وشعرياّ، مشكلا على جهة لوحات سينغرافية، أبدع المخرج والسينغراف عبد الواحد مبروك، في نظم طبقاتها اللونية، وتكديس اشعاعاتها الضوئية، مراوحة بين اللحن والرقص، وبين الصمت والقول، وبين الحضور والغياب. 
ساهمت شعرية النص في البناء التجريدي للمسرحية، كما ساهمت في تعزيز صوت العبثية المتساوق مع قتامة المصير. تتواتر الشهقات، والرقصات، والحركات، وسط خراب مادي يقابله امتلاء روحي، فتشحنه الموسيقى والأضواء وأجساد ترسم باللون والصوت والحركة شعرية غريبة. فلا لباس للجسد غير الشعر، ولا لباس للشعر غير الرمز، ولا معنى للرمز خارج نحتية الجسد الذي يحاول اقناع نفسه بالمعاني التي يرتديها في كل مرة.  تستفز المسرحية واقعا سياسيا مختلا، وتحرك ذهنية مسطّحة، لتخلخل الضمير الذي نام وتوارى وراء بهرج السلطة. 
تدوّي العاصفة، معلنة فشل التوافق المزعوم،  وتظل حليمة وطنا صامدا، رغم الضربات التي هزت أركانه. تعود حليمة للبياض الناصع، تتخلى عن السواد المقنع، وتقف بكل ضراوة، ضد اليمين والييسار، وترفض أن تكون أديما تشتعل عليه الأحزاب، رغبة في السلطة الهاوية. 


فوزية ضيف الله (جامعة تونس المنار)