مسرحية فريدا كاهلو عبقرية الحضور في ذاكرة الإنسانية

مسرحية فريدا كاهلو عبقرية الحضور في ذاكرة الإنسانية

العدد 746 صدر بتاريخ 13ديسمبر2021

يشهد المسرح المصري حضورا إبداعيا رفيع المستوى لعرض فريدا كاهلو، الذي تقدمه فرقة الرقص المسرحي الحديث، التابعة لدار الأوبرا المصرية، على مسرح الجمهورية، حيث تواجهنا هذه التجربة بلحظة فارقة تشتبك مع عبقرية الحضور في ذاكرة الإنسانية، تلك الحالة التي تتبلور عبر تفاصيل حياة امرأة جميلة عاشت تحديات العذاب والأحزان، لكنها لم ترضخ، قررت أن ترسم آلام جسدها وأعماقها، فأصبحت مع السنوات أيقونة شعبية عالمية، ورمز قومي في المكسيك بلادها، هي صاحبة تجربة استثنائية منحتها مكانا بارزا في ذاكرة الفن التشكيلي، أصبحت صورتها هوسا وجموحا وجنونا - -، عيون ساحرة، رموش متسائلة، نظرات واثقة، ووجه جميل يبعث ضوءا طاغيا، لا يستطيع أي إنسان تجاهله . 
في السادسة من عمر فريدا كاهلو 1907 – 1954، أصيبت بشلل الأطفال، الذي شوه ساقها اليمنى، لم تعد تمشي وتجري مثل الأطفال، اختارت الفساتين الطويلة، لتخفي بعضا من عذابها، وفي شبابها الباكر تعرضت لحادث سيارة، أصابها بكسور حادة، أثرت على عمودها الفقري، ظلت أسيرة السرير - -، ملقاة على ظهرها، لا تستطيع الحركة، ولا ترى أمامها إلا وجهها منعكسا على المرآة النقية، التي وضعتها أمها أمامها - -، وفي تلك الفترة شاغبها الرسم، فطلبت الألوان والفرشاة لتبدأ رحلة الصعود إلى القمة . 
مخرجة هذه المسرحية وصاحبة تصميمها الحركي هي الفنانة المتميزة سالي أحمد، التي تقول في كتيب العرض - -» لم تجمعنا لغة ولا دين ولا ثقافة، ولكن جمعتنا الإنسانية، وهذا يكفي لأشعر بآلامك ومعاناتك، التي تحولت إلى فن فريد ملهم، تجاوز الأزمنة وعبر الحدود، وألهم الكثير من الفنانين في العالم، وجعلك أيقونة للفن التشكيلي وللمكسيك - -، فريدا - - لك في نفسي مكانة فريدة « . 
تبدو هذه التجربة مختلفة مغايرة، ترتكز بشكل أساسي على تيارات الروح والجسد والوهج، الرقص المسرحي الحديث يبعث إبداعا يفوق التصورات، أجساد الراقصات والراقصين تروي وتبوح عن قسوة أقدار فريدا، التي لازمها الألم الجسدي والنفسي طوال حياتها، تلك الآلام التي فجرت في أعماقها طاقة سحرية عارمة، منحتها إصرارا على التحقق والاكتمال، فاستطاعت أن تتجاوز مشاعر العجز والانكسار، وقدمت نفسها للعالم كله،  كنجمة عشقا الجمهور إلى حد الهوس، ويذكر أن لوحات فريدا كاهلو، التي رسمتها لوجهها والتي تزيد عن الخمسين لوحة، كانت هي الابنة الشرعية لأشرس عذابات وجودها، وهي مستلقية على الفراش دون حركة وأمامها المرآة، التي دفعتها إلى موجات التأمل العبقري لوجهها الأخاذ، الذي رسمته بأسلوب جدلي ثائر يحمل بصمات نورانية تعكس العشق المقدس للحياة التي تستحق أن نحتفل بها، وهكذا انتشرت صورها في الأسواق وأقبل عليها الجمهور، ووضعها في المكانة الرفيعة التي تستحقها . 
التأمت كسور الجسد الجميل وخرجت فريدا إلى الحياة، فكان لقاؤها المثير بأحد أشهر فناني أمريكا الجنوبية –دييجو ريفيرا، جمعتهما الظلال والألوان والأحلام، فكان الحب الجارف ثم الزواج، الذي بعث ردود فعل صاخبة منحت فريدا مزيدا من الشهرة والحضور، عرفت معنى السعادة التي انتهت سريعا بالخيانة، خانها زوجها مع أختها، فانفصلا ثم عادا، وعاشت حلم الأمومة الذهبي، الذي تحقق ثم انتهى سريعا بالإجهاض، وفي هذا السياق لم تتوقف فريدا عن الرسم، وكان إنتاجها الغزير شاهدا على تميزها ونضجها، ظلت نموذجا للقوة والمواجهة والصراع والتمرد، فقد تجاوزت السائد في زمنها، بحثا عما يجب أن يكون، ويذكر أن اتجاهها إلى السياسة كان نقطة فارقة في حياتها، حيث ربطتها الصداقة القوية بأحد أهم أقطاب التيار الشيوعي العالمي – ليون تروتسكي –، وكان ذلك بعد انشقاقه عن الحزب الشيوعي الروسي بعد موت لينين، وهكذا أصبح بيت كاهلو هو بيته الذي أقام فيه أكثر من عامين قبل اغتياله . 
تميزت لوحات فريدا كاهلو، بذلك الوعي الذي يرسم ملامح وجودها، الخطوط والألوان والظلال تروي عن أعماقها، مخاوفها، سعادتها وأحزانها، تبوح بعشقها لوطنها وثقافتها المكسيكية، لذلك نلمح عناق الواقع مع التاريخ، لتأخذنا موجات الدهشة وصدمة المعرفة، إلى الجماليات الجديدة التي تجاوزت زمانها، ولا تزال تشاغب المستقبل حتى الآن . 
يرتكز العرض المسرحي الراقص على تفاصيل حياة فريدا منذ البداية حتى النهاية، لوحاتها العبقرية هي الأساس الدرامي للعرض، الرقصات على المسرح تتزامن بدقة مع اللوحات المتوالية، التي نراها في العمق وعلى اليمين واليسار، الأحداث تتبلور عبر حركة الجسد ودلالة اللوحات، تتوالى عبر إيقاع درامي لاهث ومتوتر، التشكيل السينوغرافي يبدو رحبا مضيئا يموج بالمشاعر المتناقضة، الموتيفات الصغيرة الدالة تروي عن اللحظات الفارقة في حياة فريدا، السلم الهرمي الأنيق يشغل عمق المسرح، بينما يشهد المستوى الأعلى حضورا عبقريا للوحات النجمة المكسيكية المشاغبة، بانوهات اليمين واليسار يتخذان نفس التشكيل الهرمي، ليبعث التصميم الجمالي بشكل عام موجات من السحر والإدراك، أما البانوراما الضخمة التي تتحول إلى شاشة عرض، فهي تمنح الحالة الفنية انطلاقات مدهشة تربط بين اللوحات المرسومة والأحداث القاسية، والسيدة التي تواجه أقدار السقوط والصعود والعبث . 
كان الضوء الدرامي نجما شديد الجاذبية في أفق المسرحية، الشرائح المسكونة بالعذابات تشتبك مع لغة الأجساد الراقصة على المسرح، ومع عذابات المتلقي الذي يعيش تفاصيل مأساوية حينا، وواقعية أحيانا، ذاكرة الطفولة المضطربة والشباب الحزين والأحلام المكسورة، تظل باقية في عمق الحالة المسرحية الثرية، ويذكر أن تصميمات المخرجة سالي أحمد، تكشف عن رؤاها الخلاقة وبصماتها الحارة المغايرة، التي فجرت في لغة الجسد ورقصاته الحارة تيارات عارمة من المشاعر، لنصبح أمام انتقال نوعي يجمع بين الزمان والمكان والتاريخ والجغرافيا، والأعماق والأحلام والواقع والخيال، أما سيناريو المسرحية فقد ارتكز على إيقاع تتابع اللوحات المدهشة جماليا ووظيفيا، وكانت الجمل القصيرة الموحية هي المسار إلى حيوية التواصل مع الجمهور، وتحديد مسارات التصاعد الدرامي لأحداث الواقع والمسرح، وفي سياق متصل كانت جماليات الاشتباك المثير بين ألوان اللوحات المشرقة، وألوان ملابس راقصات الباليه وأدائهن الجسدي الخلاب، قد بعث طاقات من الإبداع المغاير، ويذكر أن شخصية فريدة كاهلو لم تلعبها باليرينا واحدة، لكنها تجسدت بمشاركة  مجموعة من الراقصات، كل منهن تروي بالحركة عن جزء من الأحداث، التي تكاملت عبر هارمونية الاتساق البليغ اللافت . 
أخيرا هذه التجربة هي إضافة جمالية فكرية وثقافية للمسرح المصري بشكل عام، وهي تمثل حضورا يانعا لقوة مصر الذكية المسكونة بالوهج، وقد شارك فيها الجميلات ريم أحمد، روان صلاح، رشا الوكيل، رحمة عصام، يمنى مسعد وشيرلي أحمد، مع مجموعة كبيرة من فنانات فرقة الرقص المسرحي الحديث، أما الشباب فهم - -، عمر البطريق، أحمد حمدي، ميدو سمير، مينا ثابت، وغيرهم من النجوم اللامعة . 
كان التصميم والإخراج لسالي أحمد، والديكور لمحمد الغرباوي، وكان تصميم الملابس لهالة محمود، والإكسسوارات لحسام أحمد . 


وفاء كمالو