كيف نقرأ تشيكوف.. في زمننا هذا؟

كيف نقرأ تشيكوف.. في زمننا هذا؟

العدد 892 صدر بتاريخ 30سبتمبر2024

في الذكرى الـمائة والعشرين التي حلت هذا العام (2024) لوفاة أنطون تشيكوف (1860-1904) نجد أنفسنا أمام سؤال محوري: كيف يمكن لمسرحياته أن تتلاءم مع عصرنا الحالي؟ بطبيعة الحال ينطبق هذا السؤال على كبار الأدباء والمسرحيين السابقين عليه إلى القرن التاسع عشر وبداية العشرين، ولكن لتشيكوف ميزة خاصة بلا شك. لا خلاف على قيمة الرجل بالطبع روائيا وقاصا ومسرحيا أيضا لكن قد لا يوافق الكثيرون على أن مسرحياته لا تزال قادرة على أن تقدم في زمننا هذا كما كانت تقدم في عصره. 
تعتبر مسرحيات تشيكوف مثل «الشقيقات الثلاث» و»بستان الكرز» و»الخال فانيا» و»النورس» من أعظم الأعمال في تاريخ المسرح الروسي والعالمي، لكنها في الوقت نفسه تُوصف أحيانا بأنها رتيبة وبلا حركة درامية تقليدية. يقترب تشيكوف من شخصياته بأسلوب عميق ومتأمل، ولكنه يبتعد عن الحلول السريعة والنهايات المرسومة بوضوح. بدلا من ذلك، يقدم بورتريهات حية لشخصيات تعاني من الانحلال والتخبط في حياتهم، مع التركيز على التفاصيل الدقيقة والصراعات الداخلية وهذا ما يجعلها ممتعة للقراءة بوصفها نصا منشورا ككتاب كما يحدث مع قصصه ورواياته، ولكن المسرح لم يكتب ليقرأ في كتب ولكن ليعرض على الخشبة.
في مسرحية «النورس» سنكتشف غياب الحركة الدرامية التقليدية، تعتبر مسرحية «النورس» نقدا للمسرح التقليدي (وهو مسرح عظيم على أية حال) بسبب تركيزها على الشخصيات وتفاعلاتها والابتعاد عن استخدام الحبكة على الطريقة القديمة والأحداث الدرامية المتتابعة التي تستجلب الفرجة وتحافظ على جذب انتباه الجمهور مما يجعلها تبدو بطيئة وغير مثيرة للكثير من المشاهدين. إضافة إلى تصوير الشخصيات بشكل غير متطور، إنها شخصيات تبدو غير متقدمة في تطورها الدرامي أو لعلها تعاني من نقص في النمو والتغيير مما يجعلها تبدو ثابتة ومتوقعة.
ولا يختلف الأمر في «بستان الكرز» وهي آخر كتابات تشيكوف، لافتقارها إلى حبكة درامية تقليدية ومتصاعدة. بدلا من التركيز على تطور درامي واضح وأحداث متسارعة، تركز المسرحية على وصف الحياة اليومية لشخصياتها والتغيرات الاجتماعية. هذا الافتقار إلى الحبكة المركزية يمكن أن يجعل المسرحية تماما مثل سابقاتها تبدو مترهلة، فضفضة تسير في خط أفقي لا تموّج فيها، بكلمة أخرى: لن يجد فيها المشاهد في قاعة المسرح أي شيء يجعله يصبر على مشاهدتها إذا جاء من خلفية تعودت على المسرح الذي يقوم على الحدث وعلى التطورات في الفعل.
لا يمكن أن نساير الفكرة التي تقول أن مسرح تشيكوف كُتب ليقرأ، ففي حياته قدم مسرحياته للمخرجين، ونالت نجاحات كما نالت بعض الانتكاسات كما يحدث مع كل الكتاب في العالم، يتحدث ستانسلافسكي في «حياتي في الفن» عن حضور تشيكوف لبروفات مسرحياته والمناقشات التي جرت بينهما، لم يكن لستانسلافسكي أن يقدم على إخراج مسرحيات لا تستجيب للمعايير الفرجوية التي ينهض عليها عمل، تلك السمات التي جعلت من مسرحياته أعمالا هامة قد تجعلها صعبة التقديم في عصرنا الحالي حتى وإن تم الإجماع على قيمة تشيكوف، ليس من قبيل التناقض أن يقال أنه كاتب مسرحي عظيم لكن أعماله لن تنجح مع جمهور الزمن الحالي إذ يميل الجمهور المعاصر إلى الأعمال ذات الوتيرة الأسرع والتشويق المستمر، مما يجعل من التزام تشيكوف بالواقعية والنصوص غير المباشرة تحديا للمخرجين اليوم. فالتزام تشيكوف بالهدوء والتفاصيل قد يُنظر إليه أحياناً على أنه جمود درامي في عالم تتسارع فيه الأحداث وقد يصبح النجاح قائما لسبب وحيد: قيمة وشهرة الكاتب العالمية لا الأعمال في ذاتها. 
ومع ذلك يمكننا أن نمسك العصا من وسطها فنقول أن هذه «العيوب» التي يلاحظها بعض النقاد قد تكون هي ذاتها ما يجعل من مسرحياته مادة غنية للتأويل والنقاش وبينما قد تُظهر نصوص تشيكوف ضعفها في عرض مباشر بسيط يأخذ النص ويقدمه على الخشبة كما هو بحرفيته فإن إعادة تفسير كل نص إخراجيا بطريقة تتناسب مع ذوق العصر قد تكون مفتاحا لإحيائها. يمكن للمخرجين والممثلين استخدام تقنيات جديدة وإدخال عناصر معاصرة لتقديم النصوص بأسلوب يظل وفيا لرؤية تشيكوف ولكنه يتحدث أيضا إلى جمهور اليوم.
وكما تستفيد الأعمال المسرحية في كل مكان (المسرح اليوناني والشكسبيري مثلا) من إعادة تفسيرها لتلبية توقعات الجمهور الحديث يمكن لأعمال تشيكوف أيضا أن تستفيد من هذا دون أن يعني هذا التوجه الابتعاد عن جوهر العمل الأصلي، ويكون ذلك على مستوى النص ببعض الاختصارات في المشاهد وحتى إلغاء بعض الشخصيات أو على مستوى العرض باستخدام الكثير من التقنيات التي تملأ الثقوب التي يتركها أي نص.
هكذا فإن تشيكوف يمكن أن يقدم على مسارين متضافرين، أحدهما المسرحيات كما كتبها صاحبها وبذات الأسلوب الإخراجي الذي قدمت به على عهده وهذا يكون حفاظا على واحد من تراثات الإنسانية الهام، وآخرهما التعامل مع النصوص التشيكوفية على أنها صلصال أو مادية طينية يمكن تشكيلها بتدخل من دراماتورج ومخرج قادرين على الحفاظ على روحها من جهة والاستجابة لمتطلبات المشهدية المعاصرة من جهة أخرى.


ياسين سليمانى