العدد 605 صدر بتاريخ 1أبريل2019
فى بدايات 1930 تواجد الكاتب الأسبانى “ جارثيا لوركا “ فى منزل عائلة صديقه “ال كارلوس “، وطرح عليهم نصه “الجمهور “، وبعد ليلة عصيبة من توتر نفسي وعصبي لأفراد العائلة وهم يقرأون النص الذي عالج بصدمة حقيقية قضايا لم تقدم وقتها على المسرح، وبعد انتهاء الليلة، وبينما كان يسير مع الناقدة الفرنسية “مارسيل أوكليار” أخبر لوركا صديقته فيما هو أشبه بالنبوءة أن “ هذه المسرحية ستشكل ذاكرة التاريخ المسرحي “.
ما يجعلنى أستحضر هذه القصة الخاصة بلوركا، هو رد فعل الأسرة، الذي شابه إلى حد كبير شعور من حولى أثناء عرض “ وليمة عيد “، للكاتب الشاب “يوسف مسلم “، والمخرج “ محمد عادل “، ضمن فعاليات مهرجان زكي طليمات للمسرح العربى، تلك الصدمة التى سببها ما طرحه العرض من قضايا جريئة، وبشكل جعل المتفرج فى مأزق أن يتماس وما قدم داخل العرض.
لا يمكننا هنا أن نفصل بين عناصر العرض بعضها البعض، فما قدم أمامنا كان وحدة واحدة، جعلت الأمر يصل الى شبه تكامل داخل العرض المسرحي .
فالمؤلف وضعنا أمام الأمر منذ العنوان فى تلاعب لفظى واضح، فالنص مسمى “ وليمة عيد “، الوليمة هى المائدة من الطعام الشهى والمتنوع، وعيد هو اسم علم للاحتفالات، وفى الوقت نفسه هو اسم بطل العرض، والتقط مخرج العرض فكرة التلاعب والقلب طوال الوقت، فمن البداية هناك طهاة يعطون للجمهور منذ البداية طعام يأكلونه، وكأنه يعطينا دلالة واشارة إلى ذلك المطعم الفنى، الذي هم بداخله، وما إن يجلس الجمهور حتى نفاجأ بالطهاة يطاردون شخصا يخرج من بين الجمهور، ويصعدون به إلى المسرح، وبعد أن يتم اصطياده يوضع كخروف على مائدة طعام، ليظهر لنا شخص “يسمى الجرسون “ يعرفنا بنفسه واسمه الذي به تلاعب مرة أخرى، فالجرسون وظيفته تقديم أنواع الطعام للزبائن، وهو هنا لا يلعب جرسون فقط، بل أيضا هو مقدم العرض، الذي يقدم الوجبة لزبائن العرض، وهى عملية التمثيل.
وهنا يبدأ اللعب الحقيقى، واستخدام تقنيات برزت بشدة فى منتصف القرن العشرين، وما أوصلتنا إلى مسمى “ الميتاتياترو”، وعمليات كشف اللعبة المسرحية، “وكيفية حديث المسرح عن نفسه، إن الجرسون يخبرنا أننا سنرى حكاية “ عيد” وستمثل أمامنا، إن عيد شخصية مجنونة، وغير متكيفة مع مجتمعها، ذلك المجتمع العبثى الذي يتعامل مع الوضع المقلوب كأمر طبيعى وبديهى.
عيد مواطن فى دولة ما، لم تحدد، وزمن لم يحدد، إنه يواجه أزمة جنون ووحشية مجتمعه، المجتمع الذي يرى أن قضاء الحاجة فى المرحاض أمرًا مجنونًا، والأفضل قضاؤها فى الشارع، وأن القدم أهم من الرأس والعكس جنون، مجتمع يرى أن الجلوس على المقعد يكون بالقدم وليس بالمؤخرة، ويرى أن الاغتصاب طبيعي أما المضاجعة فلا، إنها عملية القلب الذي يبرزها العرض، ويبرز كيف أن شخصية بطل العرض غير منتمية، إنه يتحدث فى الأمور الطبيعية والمنطقية.
كانت المتعة الحقيقية تضافر عناصر العرض فى كشف اللعبة المقلوبة، وجعلها تتماس مع الجمهور/ المتلقى، فالديكور حول المسرح من “place “، ومكان محدد إلى “ space”، وهو استخدام الفضاء المسرحي لنرى “ بيت عيد /مكتب الطبيب، مكتب المسئول والطبيب / مرحاض فى منزل “ تنوع هذا الأمر كان يمكن أن يجعل الأمر مشتتا، لكن الذكاء فى اللعب فى فضاء المسرح جعل الأمر ممتعا وسهلا ومنطقيا، مع دمج الإضاءة وتصديرها مرة أخرى، وجعل الجرسون أو الراوي يستخدم كشاف مثبت على مايكروفون امامه، وكانت نوران الشيمى مصممة الملابس على وعى بما يقدم بحالة الكرنفالية الموجودة داخل العرض، فجعلت ألوان كل شخصيات العرض مبهجة وصارخة ماعدا “ عيد “، يطل العرض الذي يعانى من كل تلك الضوضاء، وتأكيدا على تلك المنهجية التى يدور العرض حولها جعلنا “محمد عادل “ امام تكنيكين فى التمثيل، الأول طبيعي ومتماس مع مشاعر الجمهور، وهو عيد بطل العرض، الذي كان ظهره منحنيا بشكل بسيط جدا، والذي لعبه “ محمد يوسف “ بشكل جيد، ودون أى مبالغة فى الإحساس، بل بدا منهارًا منذ البداية نتيجة وضعه داخل اللعبة المسرحية، دون إرادته، فى المقابل رأينا شخصيات العرض الأخرى من الجرسون حتى الممثلون بالداخل “نسمة وريتا وجمباز “، عائلة عيد تتعامل مع الأمر بمبالغة ليست منفرة، بل مقبولة، وكأننا نراها رسوما كاريكاتورية.
واستخدم مخرج العرض التغريب، وجعل الأمور المألوفة لنا غير مألوفة، كشكل المرحاض الذي تعودنا عليه من أجل قضاء الحاجة، لكنه هنا مقدس ونظيف ولا يتم قضاء الحاجة به، وحتى فى اليافطة الموضوعة “ منظمة الرفق بالإنسان”، ثم اعتمد على بنية دائرية حتى على الشكل النصى والعرضى، فالبداية التى بدأها من وضع عيد كوليمة تمت فى النهاية مرة أخرى، بعد معرفة مصيره كعاقل يراه المجتمع مجنونًا.
إن القضية الأساسية للعرض هى حيوانية ووحشية مجتمع يفكر فى نصفه الأسفل، وإنسان غير منتمي إلى ذلك المجتمع يتم اضطهاده ومعاملته كمجنون.
استخدام التقنيات الكاملة فى العرض فى كشف لعبة المسرح دون تطويل وتكرار، جعل المتلقي فى دهشة سواء من قضية العرض التى تتشابه وما تم فى العديد من النصوص مثل “ الجمهور _ ضحايا الواجب _ فويسك _ يوم من زماننا “ او حتى من أليات التقنية التى تم استخدامها، لكن انضباط الأمر جعله ممتعًا وليس مشتتًا، وجعلنا نفكر هل نحن كجمهور نرى شيئًا غريبًا لكننا نشعر به، وأننا جزء منه ونتسائل؛ هل شاركنا كجمهور فى التهام بطل العرض الذي يقدم لنا؟ هل وصل مجتمعنا لهذه الحالة؟.. من يدرى؟