العدد 784 صدر بتاريخ 5سبتمبر2022
توفّي السبت 2 يونيو/جويلية 2022 في العاصمة الفرنسية باريس المسرحي العالمي « بيتر بروك » عن عمر يناهز 97 سنة بعد تعرّضه لوعكة صحيّة. برحيله ينطفىء لقب « أفضل مخرج على قيد الحياة» - كان يوسم به بروك - لتبقى تجربته رصيدا للفاعلين المسرحيّين في كلّ أرجاء العالم. ولد بيتر بروك بلندن في آذار/مارس 1925 لعائلة من أصول روسيّة. درس في أكسفورد، ولم يتخصّص في المسرح دراسيّا. شغفه بالفن الرابع انطلق مبكّرا في العشرينيات من عمره. تواصلت التجربة بين بريطانيا وفرنسا لينحت مسيرة زاخرة أهّلته ليكون أحد أهمّ صنّاع الفرجة المسرحيّة -إن لم نقل أهمّ- في العالم، باعتبار تنوّع مآلات اشتغاله؛ تأليفا، اخراجا، تمثيلا، بحثا...هذه الممارسة أنتجت مربّعات فعل جديدة في الفعل المسرحيّ وعلى مستوى التجديد في المعطى الركحي.
كان منذ صغره متعلّقا بالصورة والسينما التي كان يريد التخصّص بها دراسيّا، أمام عديد الصعوبات منها وضع أنجلترا في تلك الفترة ورفض العائلة...دخل جامعة أكسفورد ليختصّ في الأدب الروسي. لم يتلق تعليما او تدريبا مسرحيّا؛ ولكنّه كان شغوفا وطموحا وكثير الاطّلاع على أعماله شكسبير. هذه الرغبة أهّلته ليقوم بأوّل إنتاج مسرحي له وهو في سن 21 سنة عبر Love’s Labour’s Lost، لشكسبير وفي سنّ 22 وقّع مع « روميو وجولييت» أول عرض له في معبد «شكسبير» في ستراتفورد أبون آفون. في الثالثة والعشرين من عمره، تم تعيينه مديرًا للإنتاج في دار الأوبرا الملكيّة في كوفنت جاردن. كان بإمكان بيتر بروك أن يستمرّ على هذا النحو دون قلق، في كلّ من المؤسّسة والمسرح التجاري؛ لكن رؤيته المتجدّدة للمسرح جعلته يصطدم بعادات المؤسّسة التقليديّة ليغادر بعد أشهر، وقال في كتابه خيوط الزمن: “إنّني دخلتها بهدف واحد يتلخّص في إعطاء تلك المؤسسة قديمة الطراز سلسلة من الصدمات تهزّها وتلقي بها إلى عالم اليوم”. مع منتصف خمسينات القرن الماضي أخذ وعيه المسرحي المضادد للسائد يتبلور تدريجيّا؛ كان حجر أساس هذا التحوّل عرضه « تيتوس أندرونيكوس» لصالح شركة شكسبير الملكية، الذي مثّل علامة فارقة في تاريخ المسرح؛ حيث قام بتجريب رؤى إخراجيّة معاصرة لشخصيات شكسبير. واصل بروك تجريب أفكاره من خلال العمل في نيويورك (أوبرا متروبوليتان)، وفي باريس، حيث أخرج في 1956 « قطة على سطح صفيح ساخن» بقلم تينيسي ويليامز، « منظر من الجسر » لآرثر ميلر، وفي عام 1960 « الشرفة » لجان جوني.
استقرّ به المقام بداية الستّينات في أنجلترا بعد أن أصبح مسؤولا عن الإشراف على شركة رويال شكسبير. فترة واصل خلالها بروك نحت منهجه المسرحي، وأقام تمثّلات جديدة لرؤيته، خاصّة بعد أن تغذّى على كتابات رواد الحداثة المسرحيّة: الروسي مايرهولد، والإنجليزي جوردون كريج، وقبل كلّ شيء الفرنسي أنطونين أرتو ومسرحه القاسي إلى جانب الاستحداثات الجديدة في تلك السنوات، لا سيما أبحاث المسرح الحي والبولندي جيرزي غروتوفسكي، التي انفصلت بشكل نهائي عن المسرح الرسمي. في هذا السياق كان عرضه
« ماراصاد » بقلم « بيتر وييس » سنة 1964 محطّ إعجاب النقّاد والمتفرّجين في نيويورك ولندن، سنة 1966 أثار عرضه الحدث « الولايات المتحدة » ضجّة في أوروبا بعد استهجانه الحرب الأمريكية على فيتنام، جرّب خلاله نظرته لمسرح المواجهة واعتماد منهج المسرح التلفيقي الذي يجمع بين مختلف المدارس المسرحيّة والنظريّات وتقنيات إعداد الممثّل. قال عن تلك التجربة: “ كنت مشبعًا بهذه الصور التي أحببتها كثيرًا، وشعرت أكثر فأكثر أنه في قلب المسرح، هناك شيء واحد فقط، وهو الإنسان، وبالتالي الممثل”. في مقابلة اُجريت في تشرين الثاني/نوفمبر 2010. “ بدأت في الاهتمام بالتطوّر الداخلي، في التقنيات القائمة على حركات الجسم، والتنفّس، من أجل إبراز الإمكانات الكاملة للشخص». عام 1968 أصدر كتابه التنظيري « المساحة الفارغة » الذي أصبح مرجعا هامّا في تاريخ المسرح. والذي يبدأ بهذه السطور الشهيرة: “ يمكنني أن آخذ أي مساحة فارغة وأطلق عليها اسم المسرح. يعبر شخص ما هذه المساحة الفارغة بينما يراقبها شخص آخر، وهذا يكفي لبدء العمل المسرحي “. وأضاف بيتر بروك في نوفمبر 2010: “ أردت حقًا أن أكسر الدرابزين، هذا الجدار الرابع غير المرئي الذي في المسرح، يقطع المسرح والقاعة. في نهاية الستّينات وبعد 40 نجاحاً مسرحياً عمل بإدارته فيها أعظم الممثلين، من لورانس أوليفييه إلى أورسون ويلز، قال بروك أنّه “ استنفد إمكانات المسرح التقليدي “ كان عرضه « حلم ليلة منتصف الصيف »، عام 1970 آخر عرض له على المسرح الرسمي الأنجليزي، وكان عرضا استثنائي في تاريخ المسرح. في ترجمة الدكتور «فاضل الجاف » لفصول من كتاب «مسرح لندن» للكاتب السويدي بلوم المنشورة بمجلة الفرجة يقول: “ اُعتبر العرض نقطة تحوّل هامّة في تأريخ فرقة شكسبير الملكيّة. في هذا العرض التجريبي، حطّم بروك كلّ التقاليد المتعارف عليها في تقديم أعمال شكسبير، فلأوّل مرّة أصبحت شخصيات شكسبير تخاطب الجمهور مباشرة، من خلال الأداء الجسدي للممثّلين الذين أفلحوا في خلق جسور العلاقة مع المتفرجين.
كانت السينوغرافيا في حلم ليلة منتصف الصيف عبارة عن صندوق مكعّب أبيض اللون وبابين في الخلفيّة، بدلا عن الغابة والأجواء الرومانسية المألوفة في طرق المعالجة التقليدية لإخراج المسرحيّة.
اختار بروك أن يكون العشاق أناسا عاديين ومضحكين ممن نألفهم في حياتنا اليوميّة. فالجمهور فوجئ بشخصيتي «تتيانا وأوبيرون» وهما يلعبان دورهما على المراجيج البهلوانية حاملين على العصى أواني دوّارة، مثلهم كمثل لاعبي السيرك. مثل هذه الوسيلة وغيرها من الوسائل المستوحاة من تقاليد كوميديا ديلارتي سحر الجمهور، الذي لم يتعود على تلقي المفاجآت التجريبيّة الخارجة على النمط السائد في التعامل مع المسرحية، وأين؟ على المسرح الملكي في ستراتفورد مسقط رأس شكسبير”.
دخل بعدها تجربة جديدة صلب المسرح الأنثروبولوجي عبر رؤية تنطلق من التنوًع الثقافي في العالم، والتي يعرّفها «جميل حمداوي » في مقال صادر بتاريخ 10 آذار/مارس بموقع «ديوان العرب»:
«من المعلوم أن المسرح الأنثروبولوجي يهتمّ بالمقدّس والبدائي والسحري والطقوسي والميتافيزيقي بعد أن اُصيب المسرح الغربي بأزمة حادة تتمثّل في هيمنة العقل والمادة والتقنية الرقميّة؛ ممّا أدّى بالنظام الرأسمالي الغربي إلى تدمير الإنسان عبر حروب كونيّة وأزمات اقتصاديّة واجتماعيّة خانقة، واستيلاب الإنسان وتحويله إلى أداة إنتاجيّة معلّبة بدون الاهتمام بذاته وروحه».
أنشأ بروك مركزه الدولي للبحوث المسرحية المكوّن من ممثّلين من جميع أنحاء العالم، ظل بعضهم مثل البريطاني بروس مايرز والياباني يوشي أودا مخلصين حتى النهاية. لأكثر من ثلاث سنوات في أوائل السبعينيات، حاول بيتر بروك وفرقته أن يدوروا حول التفكير فيما يشكّل الفضاء المسرحي المشترك والتواصل مع المتفرّج، وتجنّب الانفصال بين المسرح والواقع المعاش. لعبوا في كلّ مكان، فرنسا، الشرق الأوسط، أفريقيا، أمريكا، وخاصة حيث لا يذهب المسرح: مساكن المهاجرين في الضواحي، أنقاض برسيبوليس في إيران، في أعماق الصحراء وفي ساحات القرى في مالي ونيجيريا،على الحدود المكسيكية وفي محميّة هندية، في شوارع برونكس وبروكلين، في مستشفى سانت آن في باريس، في المرائب ودور السينما المهجورة. قال الناقد المسرحي جون هيلببرن، الذي وثق هذه الرحلة في أكثر الكتب مبيعًا: “كل يوم في قرية نائية كانوا يضعون بساطًا ويخرجون عرضًا بأحذية أو صندوق”. لم يكن هناك نص أو لغة مشتركة “.
في حوار مع «مارغريت كورويدنولد» الكاتبة في مجلة المسرح الأمريكي 2004 ردّ بروك على سؤال حول أسلوب الإخراج حول مسرحية تيرنو بوكار وهي أحد نتائج البحث خلال تلك المرحلة:
أعتقد ليس هناك شىء أكثر رداءة بالنسبة للمخرج، أو الممثل،أو المصمم، أو الموسيقي من أن يبدأ عمله بما يسمى مفهوم. ينبغي عليك أن تجد ما هو أكثر واقعية مع المضمون. في هذه الحالة الأمر بسيط يرجع ذلك لبحثنا المسرحي. في الواقع قبل عام من أول بروفة عقدنا ورشة في مدينة أفينيون، التي جاء منها غالبية طاقم التمثيل، قرأنا جميعا المخطوطة الأولى وتحدثنا عنها وعزفنا معا الموسيقى وكان ذلك هو مجرد استكشاف أولي، مكّن (ماري- هيلين ستيني) من تغيير وتطوير ما كتبته أولا.
ثم ذهبنا والطاقم الأساسي مع توشي، الذي كان مسئولا عن الموسيقى، ومع فيليبي فيلايني فني الإضاءة إلى أفريقيا، وسافرنا عبر مالي وصولا إلى المكان الذي ولد ومات فيه تيرنو بوكار. التقطت خلال الرحلة أنا و( ماري- هيلين) بعض الصور وأفلام الفيديو وتجاذبنا الحديث عن مائة طريقة مختلفة للقيام بعملية التجهيز. وعندما بدأنا البروفات جربنا أرضيات صخرية وأخرى ترابية. ثم ذهبنا مع الفرقة للقيام بتقديم ورشة مسرحية في مدينة فاس المغربية. وخلال تواجدنا هناك قمنا بشراء حاجيات مختلفة مثل السجاجيد.
لقد رأيت في كل منطقة زرتها في مالي شيئا مميزا وهو سلم يستعمل في كل البيوت مصمم على شكل شجرة . وفي يوم من الأيام كنت أتجول في باريس شاهدت واحدا من تلك السلالم الأفريقية موضوعا على قاعدة وقد حول إلى شىء فني في متجر للتحف. دخلت المتجر واشتريته فورا. كانت تلك نقطة البداية بأننا امتلكنا هذا الشيء. بدأنا بوضع التراب حوله، ثم وجدنا مفارش القش أكثر ملائمة، أقترحنا معا مسجدا وفي ذات الوقت صحراء. وله احساس الرمل أيضا.
خلال هذه السنوات الثلاث، تقدم بيتر بروك في تفكيره حول ماهية الفضاء المسرحي المشترك: كيف يتم إنشاء الارتباط مع المتفرج؟ كيف نتجنب الانقسام بين المكان المغلق للمسرح وبين الخارج والحياة والحياة الحقيقية؟
عام 1974، أتاحت له إعادة اكتشاف «مسرح لي بوف دي نور»، الذي كان في حالة خراب بحي «La Chapelle» الشهير في باريس (10) الفرصة لتجميع جميع أبحاثه. قام بتهيئته والتعهّد به حيث وجد فيه النطاق المكاني الذي يبحث عنه. انطلقت من هناك تجربته مع هذا المسرح لمدّة طويلة احتوت عديد الأعمال الرائدة في المسرح العالمي. كانت الانطلاقة مع عرض «تيمون أثينا» (1974) وهو من الأعمال الغير مشهورة لشكسبير، « لي إكس» (1975) اقتباسا عن قصة لعالم الأنثروبولوجيا كولين تورنبول.
وعرض «UBB» (1977) عن ألفريد جاري، «مقياس للقياس» (1978) أحد الأعمال الكوميدية لشكسبير، وعرض « العظام » (1979) لبروج ديوب، وعرض «مؤتمر الطيور» (1979) مستوحى من القرن الثاني عشر للفارسي فريد الدين عطار، عرض «ماهابهاراتا» (1985) عن الأسطورة الهندية و«بستان الكرز» (1989) عن أنطون تشيخوف. وعرض «ووزا ألبرت» (1989)، «العاصفة» (1990) عن شكسبير، «الرجل الذي» (1993) عن بحث لطبيب الأعصاب أوليفر ساكس وعرض «من هناك؟» (1995)وعرض «اوه، أيام مشمسة» (1995)، «أنا الظاهرة» (1998)، «البدلة» للكاتب الجنوب إفريقي كان تيمبا (1999) وعرض
«تراجيديا هاملت» أداء الممثل الكوميدي الإنجليزي الجامايكي المولد أندريان ليستر (2000)، وعرض «بعيدا» للكاتب كاريل شرشل (2002) و«وفاة كريشنا» (2002)، «تيرنو بوكار» (2004) والمحقّق الكبيرعن دوستويفسكي(2005) «مات سيزوي بانزي» (2006)
وعرض «شظايا» عن صاموئيل بيكيت (2007) وعرض «11و12» للكاتب المالي أمادو هاباتي با (2009).
بعد مسيرة 35 سنة على رأس مسرح بوف دي نور تخلّى بيتر بروك عن الإدارة بعد تقديم عرضه.
«الفلوت السحري» المقتبس عن موتسارت في شتاء 2010 وواصل بعدها تقديم أعمال ضمن المسرح منها: وادي الدهشة 2013 وساحة المعركة 2015 والسجين 2018.
إلى جانب الأعمال المسرحية كان لبيتر بروك إنتاج متعدّد للأوبريت: البوهيمي (1948) وبوريس غودونوف (1948) وسالومي(1949)، زواج فيغارو 1949 في كوفنت غاردن في لندن (المملكة المتحدة)، فاوست (1953)، يوجين أونيجوين (1957) في نيويورك متروبوليتان (الولايات المتحدة)، مأساة كارمن (1981) وانطباعات دي بيلياس (1992) في مسرح بوف دي نور ودون جيوفاني (1998) لمهرجان دايكس في بروفانس. هذا إلى جانب عدد من الكتب ومنها:
المساحة الفارغة (1968)، والنقطة المتحولة (1987)، الضجر هو الشيطان (1991)، ومع شكسبير (1998)، ونسيان الوقت (2003) ومع جروتوفسكي (2009)، وقيمة التسامح (2014). إلى جانب إخراج عدد من الأفلام.
الإحاطة بمنجز بيتر بروك تتطلّب صفحات طويلة لا يسمح بها المجال. قامة إبداعية سمتها النشاط والبحث الدائم، مراحل متعدّدة شكّلت سيرة حيّة دائمة للمسرح العالمي. بيترك بروك رحل جسدا لتبقى مسيرته واشتغالاته مجالات حيويّة لأجيال مسرحيّة قادمة.