بدايات المسرح المستقل.. في لبنان

بدايات المسرح المستقل..  في لبنان

العدد 812 صدر بتاريخ 20مارس2023

عرفت لبنان المسرح الحر منذ  ستينيات القرن الماضي من خلال تأسيس مجموعة من الفرق المسرحية التي خرجت بعروضها من إطار الخشبة التقليدية إلى فضاءات مسرحية أرحب، عبر رؤى مغايرة من التجريب في الشكل والأداء.
وكلها محاولات للوصول إلى صيغة مسرحية تقترب من تقتنيات وروح المسرح الشعبي، وربما كانت تجربة «حلقة المسرح اللبناني» التي اجتذبت إليها عددا كبيرا من المثقفين اللبنانيين – وقت تأسيسها – أمثال ريمون جبارة وإلياس إلياس ومادونا غازي، وسعد الدين مخللاتي وأندريه جدعون، وموريس معلوف، وسمير قماطي، وبهيج حجيج، وجوزيف أبو شاهين، وفرانسو خوري.
ربما كانت هذه المجموعة بداية حقيقية للمسرح اللبناني الجديد، حيث فكرت هذه المجموعة أن تقيم مهرجانا صيفيا للمسرح في بلدة «راشالنا»، حيث قدم النحات «ميشال بصبوص» مكانا ملائما في الهواء الطلق، كانت تقدم عليه العروض لعدة سنوات، وهي عروض كانت تنتمي إلى المدرسة الكلاسيكية أحيانا- وقدمت في الفترة مابين 1962 حتى 1965، وفي فصل الصيف كانت تنتقل هذه العروض إلى المسارح المغلقة في بيروت.
وكان العمل في الفرقة في مراحلها التالية يقوم على فكرة «الورشة المسرحية» وإن اتسمت الأعمال – في بداياتها – بالاقتباس من الأعمال العالمية وكان يقوم بهذا الاقتباس والإعداد كدراماتورج أنطوان ملتقى، باللغة الفصحى، ثم حدث تطوير في عملية اللغة فقام إدوار البستاني بأول ترجمة باللهجة العامية اللبنانية من خلال مسرحية «ضاعت الطاسة» المستوحاة من مسرحية «الجرة المكسورة» للكاتب الألماني «كلاسيت» فكانت أول مسرحية تقدم باللهجة اليومية القريبة من الجمهور.
ومن خلال إطار «المختبر المسرحي» عملت الفرقة على تطوير طرق الأداء التمثيلي من خلال الانفتاح على المدارس المختلفة في ذلك كمدرسة «ستانسيلافسكي»و «بريخت» و»جروتوفسكي» لدرجة أن أعضاء الفرقة بدأوا يطورون في الأداء الحركي فتعلم معظمهم  زمارس – أيضا – رياضة «اليوجا» من أجل اكتساب فعل المرونة على خشبة المسرح.
وهذه هي إحدى خصائص المسرح المفتوح على حد تعبير «فابرتيزيو كروتشاني» الذي يقول:
«إن المسرح المفتوح يظهر توترات في التقنيات الحرفية والمؤسسية. محاولا إياها في أغلب الأحيان، إلى جانب الكثير من المعاني، إلى فضاءات مختلفة».
وقدمت في هذا المسرح عدة أعمال من التراث العالمي منها: «زيارة السيدة العجوز»، إخراج أنطوان ملتقى، وبطولة لطيفة ملتقى، و»ضاعت الطاسة» و»حرب الطابق الثالث» و»البزاقة» وكلها من إخراج لطيفة ملتقى.
ثم جاءت بعد ذلك تجربة الفنان روجيه عساف  والتي جاءت عن طريق  دراسة معمقة لآليات المسرح الحديث في العالم وفهم جاد لمدارسه المختلفة والتنقيب فيها وراء التفاصيل لصنع حالة متفردة تجمع في ثناياها لين عراقة التراث وفتح آفاق جديدة لمسرح يتوازى مع متطلبات العصر والمجتمع من خلال ابتكار مفردات جديدة للعرض المسرحي بداية من دراسته للفنون المسرحية في «ستراسبورج»، هو شغوف جدا بالاستقلال الفني، يظهر ذلك جيدا من تكوينه لفرقة «محترف بيروت» بالاشتراك مع نضال الأشقر فور تخرجه، والتي كانا يهدفان من خلالها تكوين «مركز درامي»، يكون همه المباشر تقديم عروض مسرحية خلال المواسم المسرحية، على أن يكون طموحه الأكبر والأبعد أن يقدم خدمة مسرحية حقيقية لجمهور الناس، وقد استطاعا خلال فترة قصيرة 1968 -1972 في تقديم مسرح سياسي تميز بعمق الأداء من خلال عدة عروض، نذكر منها «المفتش» المأخوذة عن أحد الأعمال الأدبية لجوجل، و»عدد خاص» وهي عبارة عن مجموعة من الاسكتشات 1968، و «ماجدالون» 1969، و»كارت بلانش» 1970، و»إضراب اللصوص» 1971، و»مرجانة وياقوت والتفاحة» 1972، و»أزرار أكتوبر» 1972.
وبعد انتهاء تجربة «المحترف» راح «عساف» يبحث في التراث العربي والموروث الشعبي ليؤلف من تناثرات الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي دراما حادة كاشفة وراصدة وناعمة في آن، فقدم «أيام الخيام» و»مذكرات أيوب» و»لوسي» و»في انتظار جودو» و»الجرس» والتي يتضح من عناوينه أنمه لم يكن منفصلا عن تاريخه العربي والإنساني.
وقد راهن «عساف» على منطق المواجهة وضرورة أن يظل للمسرح دوره التنويري رغم انهيار ذاكرة الكثيرين الذين تمسكوا بشعارات زائفة، رغم تخلي الكثيرين – أيضا – رهاناتهم السياسية، ولا يوجد وصفا أدق من تساؤل الشاعر عباس بيضون في جريدة «السفير» 5/11/1997 حيث يقول: «ما الذي يبقى هذا الرجل واقفا في حين كان عليه أن يرحل من زمن، ألم يشهد سقوط رهانه مرة بعد مرة، رهانه السياسي ورهانه المسرحي، ورهانه الشخصي – ربما انهارت الذاكرة – بالتأكيد، انهار الجمع وانهارت الوحدة وانهار الشارع، لكنه بقى،  سقطت رهانات لكن مسرحه بقى،  وبمقدار ما تهاوت رهاناته تغذى مسرحه، وبمقدار ما عض بالمرارة سقى مسرحه منها،وبمقدار ما بدت أطروحته نفسها نائية وبعيدة ازداد فنه قوة، لقد وضع في مسرحه السقوط والمرارة والخسارة، فهذا المسرح لم يكن مصداق أطروحة، بل كان بحق تراجيديا انهيارها، وأحيانا صخب وغضب وهزء هذا الانهيار».
وكثيرا ما يحاول «عساف» المراوغة في تسمية عروضه فنراه يطلق عليها في كثير من الأحيان «اللعبة المسرحية»، ولعله يكون محقا في تسميته هذه نظرا لما تحثه العروض من متعة شكلية للمتلقي وإيقاظ جوهري لوعيه الكامن بأسلوب كاريكاتوري يعتمد على الحركة الكاسرة للحظة الاندماج بين الجمهور والممثل.


عيد عبد الحليم