«حريم النار» لوركا وشاذلي يطوفان في صعيد مصر

«حريم النار» لوركا وشاذلي يطوفان في صعيد مصر

العدد 685 صدر بتاريخ 12أكتوبر2020

اعتمد المؤلف (شاذلي فرح) ذو الأصول الصعيدية، من أسوان جنوب مصر، على رائعة الكاتب الإسباني العالمي “فيديريكو جارثيا لوركا” (1898 - 1936) “بيت برناردا ألبا”، ابن الجنوب الإسباني والمعروف حتى الآن باسمه العربي (الأندلس)، الذي تمتزج فيه ثقافات الإسبان القديمة بثقافة العرب الإسلامية، التي سادت أكثر من ثمانية قرون من الزمان شبه جزيرة أيبريا – إسبانيا والبرتغال – وبوجه خاص الجنوب الإسباني .
وتعد مسرحية “بيت برناردا ألبا” واحدة من ثلاث مسرحيات تسمى الثلاثية الريفية الأندلسية، والاثنتان الأخرتان هما “عرس الدم” 1933، و”يرما” 1934، وكتب “لوركا” هذا العمل عام 1936 قبل اغتياله بأسابيع قليلة.
أتت هذه المأساة، التي تعد قمة المشوار الدرامي للوركا، والتي كان لا بد لها أن تكون أول المجموعة التي تمثل مرحلة النضج عند الكاتب، والأولى في إطار فني درامي أكثر عمقا وعالمية، لتصبح آخر أعمال “لوركا” بفعل ذلك القدر – اغتياله – الذي فرض عليه بكل وحشية في 19 أغسطس 1936، بعد اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية في 17 يوليو من العام نفسه.
عانى “لوركا” الكثير – مثله مثل غالبية المفكرين والفنانين – من فترة حكم الديكتاتور فرانكو المستبد الطاغية الذي فرض على المجتمع الإسباني قيودا صارمة وامتلأت السجون والمعتقلات وكممت الأفواه وصودرت الحريات، ولم تكن هذه الفترة هينة على شاعر مثل لوركا الذي ارتبط بتراب غرناطة -عروس الأندلس- بعبقها العربي وحمرائها الخالدة، وأصبح نباتا من صنع هذه الأرض يتحرق شوقا إلى التحرير من قيودها العقلية وإطارها الصارم في لهفته للحب والخصوبة والانطلاق، كما تتمثل في أعماله الدرامية الكبرى مثل “يرما” و”عرس الدم” و”بيت برناردا ألبا”.
يجري الحدث الذي ينطوي عليه “بيت برناردا آلبا” في مكان مغلق محكم، جدرانه غليظة ونوافذه عالية مغلقة، وتتدلى من أعلاها ستائر سميكة، الجو حار، وفصل الصيف في غرناطة شديد الحرارة يذكرنا بمناخ أسوان في جنوب صعيد مصر، ولم يكن اختيار لوركا لفصل الصيف اختيارا عشوائيا ولكن متعمدا، حيث تتلظى أجساد شخصيات “بيت برناردا ألبا” وكلهن شخصيات نسائية، بحرارة الجو المحيط بهن وحرارة عواطفهن المكبوتة المتعطشة للحرية.
غرناطة الأندلسية وأسوان الصعيدية
وجد المؤلف شاذلي فرح في نص “بيت برناردا ألبا” للشاعر الأندلسي “لوركا” نبتة خصبة لإعادة زراعتها في تربة صعيدية مصرية تتمتع بملامح متشابهة بل تكاد تكون متطابقة، فمنح الشخصيات أسماء منحوتة من البيئة وجعلهن ينطقن اللهجة التي تتميز بخصوصية لا يعرفها سوى أهلها، كما حرص على الحفاظ على الخط الدرامي الرئيسي الذي أرساه لوركا وأكد عليه، وهو الصراع بين قوتين أساسيتين، القوة الأولى يحكمها مبدأ السلطة الباطشة الطاغية الذي يتجسد في شخصية برناردا/ فتحية شلقم، والقوة الثانية ويحكمها مبدأ الحرية الذي يمثله بناتها.. عند لوركا شخصية برناردا تجسد مبدأ السلطة المطلقة ردا، في الظاهر، على وجهة نظر طبقية للعالم الذي تتبلور فيه أخلاقيات اجتماعية قائمة على قواعد سالبة وقيود وضغوط، مقيدا بالذي يقوله الآخرون، وبالحاجة التالية للدفاع عن النفس بالانعزال عن تلك الرقابة الاجتماعية والمفضية إلى الجنون. تقوم برناردا ألبا بفرض نظام في العالم المغلق لبيتها يتماهى مع نظام المجتمع، النظام الأوحد في إمكانيته إذ يعتبر هو الحقيقة ذاتها، وضده لا يمكن قبول أي نوع من الاحتجاج أو التمرد.
 صاغ (شاذلي فرح) شخصية الأم في عرض “حريم النار” برؤية مختلفة عما رآها لوركا “فتحية شلقم” (الأم) تبدو قوية من الظاهر إلا أنها في حقيقة الأمر هشة من الداخل فهي تظهر غير ما تبطن، هي ضحية تقاليد وعادات اجتماعية بالية متخلفة توارثتها الأجيال عبر تاريخ طويل ولا فكاك منها، وبمجرد أن بلغت سن البلوغ أجبرها والدها على الزواج من رجل يكبرها بحوالي أربعين عاما، لمجرد أنه ثري، وفي ليلة زفافها سيقت إليه كبهيمة تم ذبحها بسكين بارد، وصارت أما لطفلة وترملت وهي لم تزل بعد في عمر الزهور، وتم اغتيال أنوثتها للمرة الثانية وصودر حقها كإنسانة لها كرامة عندما قرر أبوها أن يزوجها للمرة الثانية من رجل يفوق أضعاف عمرها، فالقانون السائد والمهيمن في المجتمعات الخاضعة للسلطة الذكورية أن تنتقل ملكية المرأة من الأب إلى الزوج وعندما يموت الزوج تنتقل الملكية إلى الأب مرة أخرى إلى أن يتقدم لها رجل آخر يمتلكها من جديد، يموت الأب وبعده بقليل يموت الزوج بعد أن يترك أربع بنات يشكلن إرثا وعبئا ثقيلا على كاهل الأم خاصة أنهن لا يملكن مالا ولا يتمتعن بقدر ما من الجمال، فضلا على أن أعمارهن قاربت من خط العنوسة.
السجان والسجين والضحية
 يبدأ المشهد بإظلام - شبه تام - يكتنف فضاء المسرح، باستثناء بؤر ضوئية خافتة بالكاد تحدد طبيعة المكان، نحن أمام صحن في قلب منزل بإحدى قرى الصعيد، أكثر ما يميزه ويجذب الانتباه تلك سيقان النخيل الضخمة السامقة على الجانبين تنتهي كل واحدة منها من أعلى بعمامة كبيرة بيضاء كأنها تاج عامود، وبدوا في مجملهم كحراس أمن للمحافظة على العادات والتقاليد القديمة البالية، فما زال الفكر الذكوري يهيمن على البيت الجدران الجانبية والجدار الخلفي في عمق المشهد تم تنفيذهم من خامة تشبه سعف النخيل، توجد نافذتان واحدة منهما في خلفية المنظر والثانية على يسار المتلقي، يتدلى عليهما من أعلى ستائر منسوجة يدويا. يتوسط المشهد أريكة خشبية من طراز بدائي، وتتناثر في جنبات فضاء المنظر بعض الملحقات المكملة لإضفاء مذاق خاص من البيئة.
 بمجرد ظهور الخادمة في فضاء المسرح وسيل من المعلومات ينساب من فمها عن سيدتها “فتحية شلقم” وفظاظة طبعها وبخلها الشديد، وإحساسها الطبقي تجاه الخدم باعتبارهم من طينة أخرى، تتحرك بسرعة ذهابا وإيابا في فضاء المسرح محاولة إعادة ترتيب وتنظيف أثاث المنزل قبل عودة سيدتها وبناتها الخمس من المقابر بعد دفن زوجها، أصوات نسائية متداخلة مع نحيب وخطوات أرجل ودقات قوية على الأرض، في تلك اللحظة تدخل من يمين المشهد الأم فتحية شلقم ومن خلفها بناتها ومع كل خطوة تخطوها الأم تدق بقوة بعكازها على الأرض وهي تعلن الحداد سبع سنوات – وهنا لا نستطيع  أن نغفل عن ذهننا دلالة رقم سبعة في الميثولوجية المصرية، أما في النص الأصلي كان الرقم ثمانية - متصلة تغلق فيها النوافذ والأبواب، وارتداء السواد، كان وقع تلك الأحكام الصارمة – غير المتوقعة - كقذيفة من لهب في وجوههن. الإبنة الكبرى غير الشقيقة تعتبر أكثرهن حظا لما تمتلكه من ثروة تركها لها أبوها وكانت سببا لتقدم أحمد علي لخطبتها، وهو اسم الرجل الوحيد الذي تردد في أرجاء المنزل وفرض وجوده بالرغم من عدم ظهوره ماديا، وجعل كل واحدة منهن تحلق في عالم الأحلام غير المشروعة ويعشن في عالم متخيل، بأن ترتمي في أحضان هذا الرجل ولو للحظة، كلهن متعطشات للحظة حب، كلهن يحملن حقدا دفينا في صدورهن تجاه شقيقتهن، فهي الوحيدة التي ستعتق من هذا السجن بزواجها وخروجها من المنزل، أما بالنسبة لهن فلم تعد لديهن أدنى فرصة للفرار من هذا السجن الإجباري سوى اللجوء إلى الخيال المشوه المرضي.
 تناول المخرج المتميز (محمد مكي) نص (شاذلي فرح) ونسج خيوطه الدرامية في إطار واقعي مغلف بغلالة رمزية منحته بعدا جماليا، فلجأ إلى تجسيد القهر الذي عانت منه الأم طوال سنين عمرها مما أدى إلى تشويه وجدانها وفكرها، وصارت تمارس هذا القهر على بناتها بزعم حمايتهن، في مشهد أدته بجدارة الفنانة القديرة عايدة فهمي وهي تسترجع مأساتها في ليلتي زواجها السابقتين، وقد اتفق المخرج مكي مع رؤية المؤلف شاذلي في صياغته لشخصية الأم فهي تبدو قوية وصلبة من الظاهر إلا أنها في حقيقة الأمر هشة مخوخة من الداخل، فكانت الإضاءة – من تصميم إبراهيم الفرن- غير موفقة في بعض المشاهد ولم تواكب الحدث الدرامي وتطور الشخصية، ففي مشهد الافتتاح ظهرت كل المجسمات مضاءة من الداخل، سيقان النخيل وزير المياه، فبدا المشهد وكأنه حفل عيد ميلاد، في حين لو تأخرت تلك اللحظة الضوئية وتلازمت مع مشهد الأم واسترجاعها للحظة انكسارها كانت ستصبح أكثر تعبيرا لتلك المفارقة الدرامية للشخصية التي تتأرجح بين الضعف والقوة في آنٍ واحد.
 عبرت اللوحات الحركية الأدائية التي قام بتصميمها ببراعة الكريوجراف (محمد ميزو)، في التعبير عن الإحساس بالحرمان العاطفي والتطلع إلى الحرية لدى كافة الشخصيات في مشاهد مختلفة، فعلى سبيل المثال، في اللوحة التعبيرية التي جمعت بين الأم “فتحية شلقم” في حالة تماهٍ شديدة مع بناتها الثلاث وتعطشهن للحب والحرية، “رسمية” الابنة الكبرى المخطوبة لأحمد علي (أميرة كامل)، و”روح محبات” الابنة الكبرى من الزوج الثاني وهي تحمل حقدا شديدا تجاه رسمية لإحساسها بأنها هي الأحق بأحمد علي، علاوة على أنها تكتم حبها وعشقها له لدرجة الجنون، أما الثالثة فهي “قوت القلوب”  (نسرين يوسف) أكثرهن جمالا وأنوثة وهي رمز للحرية والتمرد المطلق، يرفعن أيديهن إلى أعلى وتتشبث كل واحدة منهن بطرف جلباب أحمد علي فأصبحت على هيئة مظلة فوق رؤوسهن وبدأن في الدوران كحركة الرحايا لدرجة الذوبان، لوحة بالغة الدلالة فهن مطحونات مسلوبات الإرادة خاضعات لتقاليد وعادات اجتماعية صارمة مقيدة لحقهن الطبيعي في الحياة والحرية.
 ومع هذا الإغلاق المحكم على هذه الهيئة لم يعد يسمح إلا بوجود مخرجين، في حالة عدم قبول القانون المفروض من قبل الأم المتسلطة، إما الجنون وتمثله شخصية الجدة (ماريا خوسيفا) في نص “برناردا ألبا” للوركا التي ليست سوى الشكل المتطرف والأعلى للهروب، وهي الشخصية التي لم يعد لها وجود في نص “حريم النار” لشاذلي فرح، وإما الإنتحار للإبنة الصغرى (أديلا) عند لوركا، الذي يعد هو الآخر شكلا متطرفا للتمرد، والذي استبدله شاذلي بقتل “قوت القلوب” بشكل مأساوي برصاصة طائشة من الأم، وصارت النهاية مفتوحة لتأويل الجمهور، هل عن قصد أم من دون قصد، لأن “قوت القلوب” من وجهة نظر الأم “فتحية شلقم” مخطئة، وإن لم تعترف بذلك، كلهن يعرفن الحقيقة ولكن لمن يعلنونها. من ذا الذي سيحاول التمرد من جديد في منزل أصبح على وشك الإنهيار في بحر جديد من الأحزان.
 وكما سبق ولغى المؤلف (شاذلي فرح) شخصية الجدة برغم أهمية وجودها الدرامي، قام أيضا بإلغاء شخصية الخادمة الثانية التي كانت تقوم بالأعمال المنزلية الشاقة في النص الإسباني ولم يمنحها لوركا اسما لأنها رمز لشريحة اجتماعية عريضة مهمشة مغلوبة على أمرها ويمارس عليها القهر باستمرار، واكتفى بشخصية واحدة فقط وهي “وردانة “، ونظيرتها في النص الإسباني “لابونثيا” وهي قريبة من عمر برناردا وتحمل كل أسرار المنزل ومن فيه أيضا، التي كانت تمارس كل القهر الذي يقع عليها من سيدتها برناردا فتنفسه وتسقطه على رأس الخادمة. 
  نجح المخرج (محمد مكي) في اختيار عناصر العمل المختلفة بعناية ومهارة فائقة وبوجه خاص عنصر التمثيل، فأجاد توزيع الأدوار على الممثلات فتألقت الفنانة القديرة (عايدة فهمي) في تجسيد شخصية الأم “فتحية شلقم”، أدتها أداء واعيا بأبعادها النفسية المركبة، أمامها الفنانة القديرة (منال زكي) في دور الخادمة “وردانة”، التي جسدت ببراعة بمفردها إحساس تلك الشريحة الدنيا المضطهدة والمهضوم حقها، أما البنات فكل واحدة منهن أدت دورها بفهم واقتدار، فالابنة الكبرى “رسمية” المخطوبة لأحمد علي، أدتها (أميرة كامل) بوعي بأبعاد الشخصية فجاء أداؤها هادئا واثقا لأنها الوحيدة التي ستعتق من هذا السجن، أما الفنانة (عبير لطفي) التي قامت بتشخيص “روح محبات” الابنة الكبرى من الزوج الثاني فانصهرت مع الشخصية لدرجة كبيرة فجاء أداؤها ملتهبا ساخنا انعكس على نبرات صوتها فبدا كألسنة من اللهب، أما الابنة الوسطى “رئيسة” (نشوى إسماعيل)، بدت كفراشة منطلقة في الفضاء تنشد الحرية والحب بأسمى معانيه تحمل بين ضلوعها عاطفة أمومة تسكبها بين الحين والآخر على شقيقتها الصغرى، أما الابنة ما قبل الصغرى “قوت القلوب” (نسرين يوسف)، الزهرة البرية العاشقة لأحمد علي وأكثرهن شبابا وجمالا وأنوثة، المتمردة على القيود والسجن المفروض عليهن، وهى الوحيدة من بين أخواتها التي تجرأت وحولت حلمها وشوقها للحب إلى فعل، أدت دورها بوعي وفهم عميق للشخصية فتألقت، أما الابنة الصغرى “طير البر” (أمينة النجار) البالغة من العمر خمس عشرة سنة فهي ما زالت طفلة تتمتع ببراءة الأطفال، وفي حدود أبعاد الشخصية الدرامية أدت دورها بفهم وسلاسة ومرونة.
 أجاد (د. محمد سعد) صياغته التشكيلية لديكور المنظر، فأضفى على الفضاء المسرحي أجواء البيئة الصعيدية بتفاصيلها الدقيقة مما خدم الدراما جماليا. اجتهدت مصممة الأزياء (شيماء محمود) بلمساتها الرقيقة بمنح الشخصيات الملامح التي تميز كل شخصية مع حرصها على الاحتفاظ بخطوط الزي الصعيدي سواء في مشاهد الحداد وغلبة اللون الأسود عليها أو بعض المشاهد التي تخللها اللون باستحياء بما يحمله من دلالات واضحة، إلا أنها أخفقت في اختيارها للون الأبيض لزي “قوت القلوب” في المشهد الأخير، لأنه لم يعد يحمل معنى النقاء والطهر والعفة، بعد أن اعترفت على الملأ بشكل استفزازي أنها تعشق خطيب أختها ووهبته نفسها. أما العنصر الثالث في تكوين الصورة السينوجرافية وهي الإضاءة التي قام بتصميمها بحرفية عالية (إبراهيم الفرن) مراعيا للحظات التأزم الدرامي التي تمر بها الشخصيات إلى أن تصل في نهاية الأمر إلى انهيار تام بإسقاط مؤثر ضوئي كألسنة من النيران تلتهم كل ما هو موجود في الفضاء المسرحي. كما جاءت موسيقى وألحان (محمد حسني) مواكبة للعناصر الجمالية الأخرى، ونابعة من البيئة الصعيدية ومؤكدة على الخط الدرامي.
 في ظل قيادة واعية وإدارة حكيمة لمدير فرقة مسرح الطليعة المخرج شادي سرور، فمنذ توليه هذا المنصب وهو حريص على انتقاء العروض المسرحية بعناية فائقة لتقديمها في فضاء مسرح الطليعة. 


عايدة علام