العدد 924 صدر بتاريخ 12مايو2025
تفاعلت جماهير مدينة الزقازيق عاصمة محافظة الشرقية طوال الأيام الماضية مع العرض المسرحى (محاكمة تاجر البندقية) من تأليف الشاعر الإنجليزى الأشهر «وليم شكسبير» ودراماتورج أحد شباب المسرح الشرقاوى الموهوب الواعد «محمد صابر» ومن إخراج المخضرم «وفيق محمود» العائد إلى المسرح مخرجا بعد غياب نصف عقد وهو عود حميد دائماً ما يحمل معه إضافة للمسرح الجماهيرى بالشرقية لأنه أحد أخلص عشاق المسرح بهذه المحافظة العتيقة واليوم ينفتح وفيق على أبرز قضايا العالم متفاعلاً مع واحدة من أهم المشكلات المصيرية العربية التى تأثر بها عالمنا المعاصر وهى المسألة المتعلقة بما يضمره الصهاينة من شر لا لمصر والعرب فقط وإنما للإنسانية جمعاء ومنذ قديم الأزل، ويمثل قوة الشر فى هذا العرض المسرحى “شايلوك” تاجر البندقية الذى رغم ما يتمتع به من ثراء يحمل دائما ذلك الحقد الدفين ضد منافسيه ممن يحتقرون سلوكه الربوى فى البيع والشراء ومن بين هؤلاء فى هذه التجربة المسرحية تاجر نبيل يقدم الإنسانية على الربح يدعى “أنطونيو” وهذا التاجر أتاه فى هذه المسرحية صهر وصديق له طالبا أموال يحقق بها حلمه ويقترن بمن هواها قلبه فيحزن أشد الحزن، لأنه لا يملك ذلك المال بالوقت الحالى ولكنه لم يترك صهره وصديقه يفقد حبه فهو على العكس من تاجر البندقية يحب مساعدة الناس فما بالك بالأصدقاء والأقارب ومثل تلك الأمور هى ما تجعل “شايلوك” تاجر البندقية أشد بغضا له وعلى ذلك يعتبر أنطونيو من ألد أعداء شايلوك ولذا ما أن تواتيه الفرصة للنيل منه والإطاحة به حتى يتمسك بها داعيا الرب أن يريحه من تلك النماذج السوية التى تؤرق نومه وتقلق مضجعه ولذلك لما جاءه هذا التاجر «أنطونيو» ضامنا صديقه بالقرض يفكر أن يقتنص الفرصة ويحاول القضاء عليه، وهذا النص الخالد والذى يعكس فهم مبكر من الكاتب المسرحى الشهير “شكسبير” للعقلية الصهيونية ما يؤكد أن العقلية الشكسبيرية الملهمة تستحق التبجيل والخلود لأن صياغة هذه الشخصية المسرحية لم تكن إلا نتيجة تأمل عميق وفلسفى لما يريده اليهود من العالم، والتعبير عنها بوعى يتجاوز حدود الزمان والمكان، والطريف والجدير بالذكر أنه نجح أيضاً إضافة إلى الإثارة والدراما الجيدة التى حبكها بوعى أن يجعل فى النهاية التى تركها ما يبعث الأمل فى نفوس الناس رغم أنه لم يحرص على ذلك فى أغلب نصوصه التى تنتهى دائما بموت الأبطال إلا أنه انتصر هنا فى تاجر البندقية للخير الذى ينبغى له دائما أن ينتبه إلى هذه العقلية اللا إنسانية التى لا يمكن أن تدع العالم يحيى بسلام ولو أن هؤلاء الصهاينة توقفوا يوماً ولو على سبيل الخداع عن القيام بنفس الأعمال لتوقف الناس عن تمجيد تلك المسرحية الشكسبيرية التى فى هذا العرض المقتبس من دون الإخلال بالفكرة الرئيسية للعرض ولا بالشخصيات الأساسية ولا الحكاية ولا لغة الحوار الشكسبيرى الشاعرى الذى لا يوازيه حوار واختصرت وظيفة الإعداد (الدراماتورج) على الإختصار وعلى بداية العرض بجزء من مشهد النهاية وهو تكنيك وإسلوب لم يكن فى صالح الدراما بقدر خدمته لإطار العرض الذى اتجهت إليه الرؤية الإخراجية والذى يتسق مع واقع وظروف التجربة المسرحية والإنتاج وطبيعة التلقى، لأن هذه البداية لم تقدم إضافة تذكر ولم تسهم فى التشويق الذى يترتب على مثل هذه النهايات وإنما كان دورها مقتصر على إعطاء مبرر لاجترار الحكاية التى لم تكن بحاجة إلى هذا الاجترار الذى جاء على نفقة المشهد التمهيدى وتعريف الشخصيات التى افترض صناع العرض أن كل الناس يعرفونها وهذا حق فى الواقع إذ باتت أعمال شكسبير وشخصياته الشهيرة من بين مكونات الثقافة الشعبية لكثير من شعوب العالم.
وقد اتجه وفيق محمود إلى تجزئة بعض الشخصيات للحد من البطولات الفردية واستيعاب أكبر عدد ممكن من المشاركين فى هذه التجربة المسرحية الجيدة بالإضافة إلى التركيز على إعطاء فرص جيدة لتشغيل جيل جديد من الموهوبين الشباب الذين أعطوا روح جديدة وحماس شديد لتلك التجربة المسرحية، ذات الأهمية الكبيرة فى دعم الثقافة المسرحية عند جيل مبشر وواعد إلا أنه لا يجد وقتاً للقراءة والاطلاع لا على شكسبير ولا غيره من رموز الفنون المسرحية، وقد استخدموا تلك الوسيلة فى مستهل العرض لتوظيف المنظر المسرحى الواحد متعدد الأبعاد والمستويات الذى يجمع بين مختلف الأماكن التى إحتضنت أحداث العرض وكانت أول الشخصيات التى خضعت للتقسيم هى شخصية (بورشيا) التى قسمت فى العرض الشرقاوى إلى روح جسدتها بعذوبة شديدة ونعومة وإدراك وفهم «سلمى منسي» فيما قامت بدور الجسد بوهبة تمثيلية مبشرة «مريم الصوالحي» وقد خضعت شخصية شايلوك إلى هذا التقسيم حيث جسد الروح بهدوء شديد وأريحية يحسد عليها «معتز الحلفاوي» الذى كان يتحرك على المسرح كما لو كان فى بيته كأنه لا أحد يشاركه الفضاء يمضى وحده فى عمل فردى بلا ممثلين ولا مشاهدين يتجول مرتديا لباسا عصريا فى مسرحية تاريخية من دون أن يشعر بأى اختلاف بينما قرينه على الجانب الآخر من شخصية شايلوك يحاول أن يقنن انفعاله ويضبطه قدر الإمكان فعلها عبدالرحمن مرجان الذى جسد الجانب الإجرامى من شخصية شايلوك كى لا ينفرط عقد الشخصية الرئيسية فى هذه الرائعة الشكسبيرية، وقد أدت دور النصف الحلو لتاجر البندقية المتمثل فى ابنته الجميلة (ليسكا) التى أدت دورها فى خفه ظل شديدة رولا خالد لتعبر عن وجه آخر من وجوه الشخصية اليهودية يتعلق بالجمال وخفة الظل ولعل فى استمرار حياتها على نحو طيب وتمتعها بكل ما بقى من ثروة والدها أملا فى مستقبل أكثر عدلا وسلاماً فى ظل يهود جدد معتدلون بالمستقبل ولكن للأسف الأمر يمتد بالعرض إلى سابع جد فلا زالوا كما هم يمتصون دماء الناس ويقتلون الأبرياء لأجل الوصول الى أهداف واهية فلا أحد خالد فى هذا العالم لكى يكنز كل هذه الأملاك ويتمتع بكل تلك الثروات ولم يجرى هذا الإنقسام إلا على هذه الشخصيات المشار إليها بينما بقيت باقى شخصيات المسرحية كما هى وقد حافظ العرض على وجود جميع الشخصيات التى بالنص الأصلى وهم (باسنيو) الذى قام به “أحمد وجيه” فيما قام صاحب الكاريزما “أحمد إيهاب” بدور أنطونيو ومن خلال الموسيقى اللطيفة الموازية وغناء الموهوب قيثارة الشرقية “عمر معجزة” حاول المخرج التخفيف من جرعة التراجيديا بفرض وجود مقاطع غنائية متعددة لتوصيل بعض معانيه إلا أن ذلك الوسيط كان فى أغلب الأحيان تكرار لما تم إقراره بالفعل، ولم يكن له دور إيجابى فى تقدم الدراما لذلك أصبح عبئًا عليها إذ تم التخلص منها إضاف الى جودة وسرعة ايقاع المسرحية ولا سيما أنه لا يوجد تعبير يواكب الغناء إلا أنه من جملة محاسن هذا العرض أنه استقبل صفوة شباب جامعة الزقازيق الذين تحدثنا عنهم وعن تجاربهم المميزة على صفحات جريدة مسرحنا فى مقالات سابقة، وها هم نجوم يتألقون فوق منصة مسرح ثقافة الزقازيق بعضهم فى أدوار هامة ومميزة أمثال رحيم العشري فى دور (الدوق) و”عبدالرحمن وفائي” فى دور (أمير أرجوان) مما يعد تواصلا طبيعيا بين الثقافة والجامعة، وهو دور مهم قام به وفيق محمود لخدمة المسرح الشرقاوى وإحداث التواصل المحمود والواجب والفعال بين كل المؤسسات لكى يصب جميعه فى صالح المسرح الإقليمى بشكل خاص والمسرح المصرى بشكل عام.