«الشقف» عندما تغرق الأحلام في جحيم الواقع

«الشقف» عندما تغرق الأحلام في جحيم الواقع

العدد 578 صدر بتاريخ 24سبتمبر2018

يبدأ العرض الذي عرض على مسرح ميامي ضمن فعاليات المهرجان التجريبي الدولي، اليوبيل الفضي، في أول مشاهده بمجموعة من البشر المختلطة الأشكال والأجناس تقف على سطح غير ثابت يشبة الترمبولين ولكنه مهترئ محاط بالأقمشة مما يعطي شعورا ببؤس حالة هؤلاء الموافقين على الترمبولين.
ما أن يبدأون بالكلام حتى يتضح أنهم مجموعة من العرب والأفارقة متنوعي الجنسيات (التونسي والسوري وجنسيات أخرى عربية وأفريقية) وبالتدريج يتكشف للمتفرج بعد ذلك من خلال تحاور الشخصيات أنهم مجموعة من المهاجرين هجرة غير شرعية إلى إيطاليا.
نرى على المركب (الذي يتم تمثيله داخل العرض على شكل لعبة الترمبولين) مشكلات هؤلاء المهاجرين الذين عانوا سواء من الرفض أو من الحروب حتى تحولوا من بشر إلى تجارب فاشلة وأحداث مأساوية من لحم ودم.
يعتمد العرض على المونولوجات والجمل الحوارية الطويلة حيث يستند الممثلون إلى المونولوج لإيصال أبعاد الشخصية وتاريخ حياتها للجمهور فمن خلال المونولوج نعرف عن الفتاة اللبنانية الهاربة من جحيم الحرب التي تحاول بجميع الطرق المشروعة وغير المشروعة لنيل حق اللجوء، فتصل حتى لتغيير هويتها الجنسية وتدعي أنها مثلية لتتلقى حق اللجوء وحتى هذه الحيلة تفشل ليصل بها الأمر إلى أنها تخلت عن جنسيتها اللبنانية وادعت أنها سورية لتتمكن من الوصول لحق اللجوء، وقد اعتمدت المؤدية في أدائها لتلك الشخصية على الأداء الجسدي بجانب المونولوج لتعبر عن حالة الغرق والتيه التي عانت منها طوال حياتها لتجد نفسها على هذا المركب المتجه إلى إيطاليا تائهة أيضا.
قد يرى البعض أن السمة المشتركة بين هؤلاء الركاب هي الهوية العربية أو الأفريقية، ولكن من جهه أخرى من الممكن أن نرى أن ما يشتركون فيه جميعا هو التيه ومحاولة الهرب من هذا التيه ليجدوا أنفسهم في تيه أكبر منه لا يستطيعون الفرار منه هذه المرة.
فنجد الأم السورية التي فرت إلى إيطاليا باحثة عن ولدها لتجد نفسها أمام خبر وفاته لتنتقل من مرحلة في التيه والضياع إلى مرحلة أخرى، ويمكننا أن نرى كيف استخدم صناع العرض الفضاء المسرحي للتعبير عن حالات التيه والضياع والشتات التي تمر بها الشخصيات، فقد قسم الفضاء المسرحي إلى مستويين: المستوى الأول هو الترمبولين وهو الذي يعبر عن السفينة، والمستوى التاني هو خشبة المسرح أسفل الترمبولين وهو الذي يعبر عن البحر، فكلما كانت الشخصية ضائعة أكثر كلما اقتربت من المستوى الثاني، فهي تغرق وتتوه أسفل السفينة، ونرى ذروة هذا الضياع والغرق في شخصية الفتاة اللبنانية التي تخلت عن هويتها بكل أشكالها لكي تتمكن من الهرب، تميز الأداء التمثيلي داخل العرض بكونه أداء تقمصيا حيث تتداخل ملامح الممثل مع ملامح الشخصية ليوصل لنا ماضي وحاضر الشخصية ويجعل مستقبلها الذي لم يكتب بعد جليا أمام الجمهور.
وتظهر ملامح التجريب في العرض من خلال الديكور البسيط الذي لا يظهر كونه سفينة إلا من خلال أحداث العرض والملابس البسيطة التي تأخد طابع العصر الحديث فنجدها جميعها متشابهة حتى بين الذكور والإناث يجمع بينها أيضا أنها تظهر رخيصة الثمن لتدل على حالتهم المادية الصعبة، وقد ظهر أيضا محاولة كسر الإيقاع الواحد التي ظهرت جلية داخل العرض بسبب اللهجات المختلفة واللغات أيضا، وكان من الممكن أن يسبب اختلاف اللهجات واللغات بعض سوء الفهم، إلا أن الترجمة الإنجليزية التي كانت تظهر من خلال شاشة معلقة أعلى المسرح قد حلت تلك المشكلة وجعلت مضمون العرض سهلا واضحا أمام الجمهور.
ونستطيع القول إن العرض قد استطاع الخوض بشكل جديد معاصر في مشكلات المنطقة المعاصرة التي من أهمها مشكلة اللاجئين والتشتت والخطر الذي يتعرضون له سواء من قبل الهجرة واللجوء أو خلال الرحلة أو حتى بعدها، فنجد القصة كلاسيكية قد تم تناولها في الكثير من الوسائل الإبداعية ولكن تظل ملامح التجريب واضحة في كل من الديكور والأداء التمثيلي ليخرج لنا عرض متميز يخلط بين القصة الكلاسيكية والتجريب والمعاصرة المتداخل مع جميع عناصر العرض.


هالة راضي