مترو.. محاولة للخروج من الشرنقة

مترو..  محاولة للخروج من الشرنقة

العدد 586 صدر بتاريخ 19نوفمبر2018

قد يسرق العمر منا لحظات فيتوقف بنا الزمن دون أن ندري، نلج في متاهة تضطرب فيها أفكارنا وتتبعثر أحلامنا. نحاول أن نسابق أنفسنا كي نطفو على سطح الأمنيات بلا جدوى. فعلينا أن نخطو بجرأة وتحدِ دون خوف أو ملل نحو آفاق الحلم، لا ننتظر دعما من فراغ فالعمر قصير وعلينا أن نتمسك بإرادتنا لنصنع ما نريد بأنفسنا.
في أعماق الأرض قد تدفن الأحلام حيث نغوص معها حيث لا يشعر بنا أحد، في (مترو) العرض الذي يقدمه فرقة مسرح الشباب التابعة للبيت الفني للمسرح على خشبة مسرح أوبرا ملك، من إخراج عادل رأفت وتأليف محمد فضل، تحصل على تذكرة الدخول وهي تذكرة مترو حقيقية حيث تجد نفسك في مقاعد الصالة وكأنك في محطة مترو، حيث صمم الديكور كاملا مطابقا لمحطة المترو بدءا من القضبان الحديدية في الصالة أمام المتفرجين على الأرض أسفل الخشبة مع استغلال الجانبين في عمل النفق الذي يسير فيه المترو يمينا ويسارا، ثم نجد فوق خشبة المسرح كافة تفاصيل المحطة ممثلة في التصميمات الحائطية والجدارية مطعمة بالرؤية التشكيلية والدرامية للعرض. فالحائط الأيمن قد رسم عليه صورة لوجه يتأرجح بين الوجه الإنساني وشكل حيواني أقرب إلى القردة، أهم ما يميزه تلك الصرخة التي تنطلق من فمه، وجه أصابه القبح وهزمته المعاناة فانطلقت صرخاته في تلك الفجوة تحت الأرض التي لن يسمعه فيها أحد، وكذلك كان أبطال العرض حيث يصرخون بلا جدوى. أما الحائط الأيسر فعلى النقيض قد اشتمل على رسم جداري عبارة عن لوحة تشكيلية ملونة تعبر عن لمسة من الجمال والإحساس بالأمل والتفاؤل. أما عمق المسرح فكان يعلوه ساعة كبيرة بدون عقارب تشير للوقت، وكأننا منذ البداية صرنا خارج نطاق الزمن في لحظات توقف بنا فيها الحياة. أما باقي أرجاء المحطة فقد اشتملت على إشارات لاتجاهات الخروج والتي سنكتشف فيما بعد أثناء أحداث المسرحية أنها علامات وهمية وأن تلك المحطة ما هي إلا متاهة كبيرة ذات ممرات متصلة ملتفة دون خروج منها. ثم في الحائط الخلفي في العمق نجد اسم المحطة وقد محي تماما بفعل الزمن، إذن فنحن منذ البداية في مكان مجهول وزمن غير معلوم.
يبدأ العرض بصوت صادر من الإذاعة الداخلية للمترو يعلن للركاب ضرورة نزولهم من القطار لحدوث عطل فني وأن عليهم الانتظار في المحطة لركوب القطار التالي، فيدخل شاب (يحيى) يعمل بالدعاية لإحدى شركات الأغذية حاملا شنطة على كتفه يحيطه التوتر نتيجة التأخير، ويلتقي بفتاة تجلس وحيدة في حالة انكسار وبعد أن كانت تتوجس منه وترفض الحديث معه تحكي له عن همومها وأسباب حزنها ثم ضياع تذكرة المترو الخاصة بها والتي بدونها لن تستطيع ركوب القطار، ويسرد (يحيى) حكاياته مع عمله ومديره في العمل وتأخره عليه والذي سيؤدي إلى فصله من العمل، ويلفت نظره عدم وجود عقارب للساعة وكذلك محو اسم المحطة من على اليافطة ليدرك أنه في انعزال تام عن مفردات الحياة، وفي خلال ذلك نستمع كل فترة للتنبيه والاعتذار عبر الإذاعة الداخلية عن التأخير وطلب الانتظار من الركاب، لم يحتمل (يحيى) كل هذا التأخير فيسأل باقي الموجودين بالمحطة عن طريق الخروج ولا يجيبه أحد، حيث وضعهم المخرج على هيئة مانيكانات خرساء صماء تعبيرا عن السلبية والانعزالية التي يعيشها الجميع في العصر الحديث فمنهم من يضع سماعات (هاند فري) في أذنيه ومنهم من يقرأ الجرائد، ولا مجيب، فيغضب الشاب محاولا الاعتماد على نفسه في الخروج لكنه يجد نفسه قد عاد مرة أخرى داخل المحطة فيكتشف أنها مثل المتاهة لا يستطيع الخروج منها. وعندما تسقط منه تذكرته إلى الأرض فيحدث صراع بينه وبين الفتاة عليها كل منهما يحاول الحصول عليها ليستطيع ركوب القطار، وكأن هذا القطار هو النجاة والطريق الوحيد نحو المستقبل وتحقيق الأحلام، ينتهي الصراع بتمزيق التذكرة، فتجلس الفتاة حزينة منكسرة تحت قدمي فتاة تغني وشاب يعزف الكمان في محاولة لتعميق التأثير في الحالة التعبيرية من المخرج، ثم يأتي دور شخصيتين يقرآن الجرائد منذ بداية العرض شخص مجنون وتابع له أخرس، حيث يجلسان على المقاعد في عمق المسرح فيخرجان عن السلبية، فيمثل أحدهما وهو المجنون دورا فاعلا في التحاور مع (يحيى)، ليغير من مفاهيمه ليحدث التقارب في النهاية بينه وبين الفتاة، فيكتشفان أن المشكلة لا تكمن في وجود تذكرة ولا في حضور القطا، ولكن في الطباع البشرية والأنانية التي أصابت البشر وسجنت كل إنسان داخل نفسه، وأن الزمن توقف بداخلنا وتحطمت أحلامنا بين الزحام لأن كل منا قد سجن نفسه بداخلها منعزلا عن الباقين، فعلينا الخروج من داخلنا كي يعود لنا طعم الضحكة في قلوبنا على تعبير الغريب المجنون، حتى نجد في النهاية أن عقارب الساعة قد عادت لموضعها في الساعة الكبيرة المعلقة في المحطة وكذك ساعة يحيى عادت للعمل بعد أن قام المجنون بإصلاحها، وفي استعراض جميل مبهج تمتلئ كل المحطة بعشرات التذاكر لمن يريد الحياة.
الرؤية الإخراجية متميزة تناولها المخرج عادل رأفت بشكل تعبيري، دمج فيها بين الواقع والرمز، وبين الشكل الواقعي والشجن الداخلي للنفس، من خلال مفردات محطة المترو المدفونة تحت الأرض في تشبيه وكأن الأبطال يعيشون كالأموات في انتظار قطار المترو أو ركوب روتينية الحياة التي تقضي على كل طموحاتهم وأمانيهم وتدور بهم في عجلة الزمن القاسي، وكأن تذكرة المترو هي تصريح ذهاب للآخرة وليس تصريح مرور كي نعيش الحياة، وعبر باختفاء عقارب الساعة عن الخروج خارج نطاق الزمن لتتحول الشخوص لقطعة من الخشب أو طوبة في جدار بيت. لم يكن النص دراميا بالمعنى الكلاسيكي ولكنه مجرد حالة شعورية تم تغليفها بإطار درامي خفيف، وعموما العرض في مجمله ليس عرضا دراميا عميقا ولكنه ينتمي إلى ما أسميه مسرح الحالة، حيث ينقل للمتفرج حالة من الشجن والشعور لتوصيل فكرة ما من خلال رؤية تشمل كل عناصر العرض المسرحي. وقد برع المخرج في تكوين وإبداع تلك الحالة.
تميز الديكور الذي صممه أحمد سيد بجمال الرؤية وعمق الفكرة (وقد تم وصف تفاصيله من قبل)، حيث تضافرت معه الأزياء التي صممتها شاهندا أحمد في رؤية تعبيرية جميلة ومعبرة عن الشخصيات بأسلوب متناسق ومناسب، وكانت هناك محاولات من الإضاءة لأبوبكر الشريف للتعبير اللوني عن كل حالة درامية بالألوان المناسبة لها بشكل بسيط، واستطاعت المؤثرات الموسيقية لمحمد خالد أن تخلق حالة من الشجن المصاحب للحوار بين الشخصيات، وكان للمؤثرات الصوتية الطبيعية لمحطة المترو دورا في الاندماج داخل الحدث من حيث صوت القطار وصفارات المحطة وكذلك خفة ظل المذيع الداخلي التي عبرت عن واقع سيء نعيشه في الإهمال والاستهتار الوظيفي الحكومي وانعدام تقدير وتحمل المسؤولية. وجاءت الأشعار لضياء الرحمن بسيطة وعبرت بأسلوب جيد عن المواقف التي تم فيها الغناء والتي أضافها المخرج للتنويع ولتغيير الحالة للمشاهد، وقد صاحبها استعراضات رائعة من تصميم وإهداء حمد إبراهيم استطاع من خلالها أن يصنع حالة مختلفة ومؤثرة للموقف الدرامي وتعد إضافة هامة للعرض.
بقي التمثيل والذي برع فيه جميع الممثلين بلا استثناء أحمد خالد في دور الشاب (يحيى) حيث أبرز كل صفات الشخصية وأجاد فيها التحول النفسي من حالة إلى أخرى وهو متمكن من أدواته كممثل وله ثقل كبير على خشبة المسرح، وكذلك شريهان قطب في دور الفتاة والتي برعت في تشخيص حالة الشجن والحزن وعبرت عن هموم الفتاة ببساطة وتلقائية، كما تميزت بالرشاقة في الرقص والتعبير عن الحالات المتغيرة الأخرى للشخصية، أما خالد الشرشابي في دور الغريب المجنون فهو مفاجأة العرض، ممثل كوميدي موهوب يتميز بخفة الظل ولديه القدرة على التنوع والتلون في الأداء وله شخصية مسيطرة على خشبة المسرح تخفي وراءها خبرة كبيرة، وأجاد معه أحمد عمار في دور تابعه الأخرس وانتزع بتلقائيته الضحكات من الصالة، وأجادت سلمى عصام المطربة ذات الصوت الناعم الجميل وعازف الكمان مصطفى رضا الذي أبدع في عزفه الرقيق. العرض إجمالا جيد ومتماسك يكشف عن مخرج واعد صاحب رؤية متفردة أحسن توظيف كل عناصر العمل وأجاد اختيار الممثلين وكل فناني العمل.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏