أيام صفراء.. والواقع أسود

أيام صفراء.. والواقع أسود

العدد 601 صدر بتاريخ 4مارس2019

«الآخر»... تلك اللفظة التي تحمل تفسيرات عدة، فالآخر هو من صلب تعريف وتكوين الذات أو النفس، وفقًا للأفكار الفلسفية، وكذلك الحال في علم الاجتماع يتضمن فهمها بأنها الاستثناء في بعض المجتمعات التي تتشكل فئاتها على أنها من «الآخرين» الذين يتصفون بصفات دونية لا تمكنهم من الاختلاط معهم.
كما أن مفهوم «الآخر» عنصر أساسي في فهم وتشكيل الهوية، حيث يقوم الناس بتشكيل أدوارهم وقيمهم ومنهج حياتهم قياسًا ومقارنة بالآخرين دائما.
يقول الفيلسوف والعالم الفرنسي بليز باسكال: «للأنا خاصيتان، فمن جهة هو في ذاته غير عادل من حيث إنه يجعل من نفسه مركزا لكل شيء، وهو من جهة أخرى مضايق للآخرين من حيث إنه يريد استعبادهم؛ ذلك لأن كل “أنا” هو عدو، ويريد أن يكون المسيطر على الكل».
ومن تلك المقولة نتطرق للعرض المسرحي «أيام صفراء» القائم بتعاون مشترك بين مركز الهناجر للفنون والمؤسسة الثقافية السويسرية «بروهلفتسيا»، من تأليف الكاتبة السويسرية «دانييلا يانيتش»، وإخراج «أشرف سند»، وقام بإعداد النص «عمر توفيق» حيث حاول العرض الولوج لتلك الإشكالية التي كانت دائما وأبدًا كثيرة التناول والمعالجات بشتى الطرق سواء في البلاد العربية أو الغربية، وهذا يعود بكونها إشكالية إنسانية الأصل قبل أن تكون سياسية، فكل ذات لها آخر تختلف معه، وتباعًا للآيديولوجيات الفكرية والثقافية تتطرق تلك الأزمة لتصل للمجتمعات وفي كثير من الأحيان تشكل قضايا سياسية واجتماعية هامة على مستوى أكبر وأعم من ذلك الحيز الإنساني الضيق.
وهذا النهج هو ما اتبعه عرض “أيام صفراء”، حيث قدم أسرة تتكون من ثلاثة أشخاص بمثابة أضلاع مثلت، كل ضلع منهم يكون ماهية منفصلة عن الآخر في الوقت ذاته لا غنى لهم عن بعضهم البعض حتى يكتمل الشكل الهندسي.
تلك الأسرة الصغيرة تحتوي على أخ قام بدوره الفنان (رامي الطُمباري) وأخت قامت بدورها (رباب طارق) وزوج للأخت قام بدوره (عابد عناني)، يمثل الأخوان ضلعين يبدوان وكأنهما مستاويان من حيث العرق والاتجاة والشكل الاجتماعي، لكنهما في واقع الأمر يختلفان في نقاط عدة: أولها من حيث الجنس كونه ذكرا وكونها أنثى وهذا الاختلاف الجنسي والجندري أيضا هو أهم النقاط التي تفتح الباب لولوج باقي اختلافاتهم، فبكونها أنثى تقودها مشاعرها لحب شخص يختلف عرقيًا عنها، وتتشكل منذ اللحظات الأولى للعرض ثنائية (الأنا/ الآخر)، تنشب داخل تلك الأسرة الصغيرة حربًا بين الأخ والزوج وتظل تلك الأنثى الرقيقة ضائعة بينهما إلى أن ينتهي الأمر بموتها ضحية للاختلاف.
ويكمن في تأويل تلك الشخصيات أكثر من دلالة، نظرًا لبنية العرض المسرحي وما تحمله من مجازات فالبنية الأولية تبرز الاختلاف العرقي أو حتى اختلاف الآراء داخل الأسر أو المجتمعات الصغيرة ونتيجة ذلك على الجو الحميمي وهدم الروح الأسرية، ومع النبش في بنية العمل لما هو أبعد من ذلك تُثري شخصيات العرض دلالات أخرى، يكون فيها الأخ مُدللاً عن الذات والزوج دلالة للآخر وهي الثنائية المذكورة أعلاه، وتصبح الزوجة بمثابة الوطن نظرًا لما يحمله دلالة الجسد الأنثوي في الدراما العربية وبمجرد ظهورها على خشبة المسرح بشكل عام ككونها ممثلاً للوطن والأرض والعِرض وما شابه ذلك.
وتأكيدا على أن الأسرة هي ذلك الجزء الناتج عن الكل أي (الوطن)، ولكل منهم تأثير على الآخر أو في مواضع أخرى يمكن القول بأنه أراد نقل معاناة اجتماعية ضخمة تستهدف الكثير من البلدان وتقليصها في شكل دلالي ينوب عن كل البلدان التي تعاني وتأن من تلك التفرقة سواء كان الاختلاف قائما بداخلها، أو قائما بينها وبين آخرين.
وبإثراء المخرج للدلالات على الخشبة لم يكتف قط بتأويل أجساد الممثلين بل ساهم الديكور مساهمة كبيرة في إكمال شكل الفُرقة الناتجة، عن طريق الشَبك المحتل للخشبة نقلاً عن الشِباك القائم فيما بينهما داخل العرض، كما قام بتقسيم تلك الشِباك مثل كل شيء مُقسم على الخشبة، وهكذا الحال جرى على قطع الديكورات المستخدمة التي صُممت في شكل مُنقسم أحيانا تتداخل وتتضافر وتصنع شكلاً ديكورًا واضح كالتربيزات والمقاعد والأسِرة وأحيانا أخرى تنقسم وتتفرق وتتشظى كل قطعة عن الأخرى نقلاً عن الفُرقة التي لا محالَ لها. واستكمالاً للتكوين السينوغرافي وضع مصمم الديكور (فادي فوكيه) جهازين من الراديو معلقين بأعلى مُنتصف المسرح واحد جهة اليمين والآخر جهة اليسار لإبراز حالة النفور القائم بين الشخصيات وتأكيدا منه أكثر على تكوين الثنائيات المتضادة، كما بلورت تلك الأجهزة السمعية تأثير الإعلام والقنوات الإذاعية منها والمرئية على الوعي الاجتماعي ومدى تتبعها لنهج إبعاد المواطنين عن أي إشكال سياسي، في الوقت ذاته القائم به حرب ضخمة بالخارج، ليظل العرض يطرح أسئلته طوال الأحداث وحتى النهاية من منهم المتأثر من الآخر الكل من الجزء أم الجزء من الكل؟!
أما عن الدراما الحركية للعرض قُدمت لملء فراغات العرض ولم تأتِ بجديد على الإطلاق أكثر مما أضافه كل من العناصر السابقة المذكورة، وظل الراقصون - غير المحترفين - يتشاجرون بين كل مشهد وآخر للتأكيد على نشوب الاختلاف الذي سبق ونقلته عناصر عدة وكأن الإخراج يتعامل مع المتلقي بكونه لم يكن قادرًا على فك شفرات العرض الواضحة ويغرس له في كل ثانية عنصرا جديدا يثري بنفس الدلالة السابقة دون جدوى.
وفي أثناء الغرس غير المجدي لدراما العرض، قُدمت شخصية أسماها فريق العمل بملك الموت، ترتدي ملابس بيضاء ناصعة ترقص البالية وترفرف كالفراشة بين لوحات العرض، مُدللة ملابسها وحركة جسدها - بعد تنحية اسمها داخل العرض جانبًا - على الخير وبقاؤه ووجود الأمل واحتماليه حدوثه مهما تمكن اليأس من أيامهم وجعلها صفراء، ويمكن تلك الأيقونة المسرحية البيضاء تُعتبر أكثر الأيقونات استخدامًا على خشبات المسارح خاصة في العروض القائمة على الخلافات والنزاعات وما شابه ذلك، إلا أنها لو لم يتم تصنيفها بكونها «ملاك للموت» كان هذا سيثري دلالات أكثر بدلاً من تصنيفها وحصرها في دور واحد وإجبار المُتلقي على رؤيتها بمؤشر للموت! وهذا التصنيف هو أحد الجوانب المختلة في العرض، فأي موت يرقص ويحلق ويرفرف، حتى وإن كان الموت رمز الخلاص في نهايات أخرى لكن الموت جاء في العرض مُتجهًا نحو النهاية السوداوية والنظرة التشاؤمية التي لا علاقة لها بالخلاص. فحتى وإن كانت الأيام صفراء باهتة لا ملامح لها ولا حياة، فالواقع أسود مهما حاول الآخرون تجميله.


منار خالد