«المدينة» شمعة وملاحة من ميدان التحرير إلى الجنة

«المدينة» شمعة وملاحة من ميدان التحرير إلى الجنة

العدد 849 صدر بتاريخ 4ديسمبر2023

يُخبرنا البعض أحياناً على مدار سنوات ماضية أن المسرح المصري في أزمة أو ضَعُف مستواه، أو حتى يسير إلى هوة عميقة، وهي توصيفات لا أساس لها من الصحة؛ فالمسرح المصري يواصل تألقه بشكل دائم ومستمر، سواء من الكبار أصحاب الخبرات أو الهواة الذين هم أمل الاستمرارية الدائم لأبو الفنون.
خلال هذا العام تابعت بحكم شغفي بالمسرح أولاً وعملي ثانية عدة فعاليات ومهرجانات مسرحية، منها المهرجان القومي للمسرح، مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، مهرجان النوادي، المونودراما وآفاق، وكان الشيء اللافت هو وجود فرق مستقلة ليست تابعة لجهات رسمية يعتمد أصحابها على الجهود الذاتية لاستمرار ما يقدمون لنا من عروض مسرحية، ومن وجهة نظري الخاصة أن الفرق المستقلة غير التابعة لكيانات رسمية، والتي لا تحصل على ميزانيات أوتمويل مادي من جهة، هم من يستحقون الإشادة والجوائز والمشاركة في أكبر المهرجانات المسرحية، لذلك أقترح زيادة شرائح مشاركة هذه الفرق المستقلة في المهرجانات الرسمية حتى يتسنى لهم إطلاق المزيد من الإبداع غير المكبل بعوائق بيروقراطية تقلل من جودة الإبداع أحياناً.
على مسرح “سان جورج” بمصر الجديدة قدم المخرج “مايكل تادرس” مؤسس فريق “شمعة وملاحة” العرض المسرحي «المدينة» معلناً استمراره في طرح كل ما هو مسكوت عنه في مجتمعنا كما هو حال عروضه السابقة على مدار سنوات، ليأخذنا من جديد داخل ميدان التحرير أثناء ثورة 25 يناير المجيدة ويعيد لنا ذكريات يحاول البعض تهميشها ونسيانها، أو حتى توصيفها باتهامات ليست فيها ويضعنا من بداية العرض مع حالة الانتماء الوطني للجميع حتى المختلفين في الطرح أو الباحثين عن مصدر للرزق فقط، فنجد من يغنون ويهتفون ونجد الإسلاميين ومنهم المتزمت وأيضا المسيحيين ومنهم المتزمت، ثم نموذج للشعب المقهور الذي قاسى من الظلم وغياب العدالة.
في مشهد غاية في المنطقية يقدم “مايكل” لوحة إخراجية متميزة.. حين قرر بعض المأجورين اقتحام الميدان وهو ما سمي بموقعة الجمل، فلا يجد المتظاهرون مناصا من الاحتماء ببعضهم البعض، فينضمون لبعضهم وأجسادهم تلاصق بعضها ويتحركون كتلة واحدة يميناً ويساراً، مع موسيقى وإضاءة أكسبت المشهد حقيقية أكثر جعلتني كمتفرج أشم رائحة الغاز، وأشعر بالرغبة الشديدة في الصعود معهم على خشبة المسرح والدفاع عنهم وعنا.
وفي مشهد آخر ورغم أن الحديث عن الوحدة الوطنية هو شيء ضد الوحدة الوطنية و”أكلاشيه” تكرر مرات عدة فى العشرات من العروض، إلا أن ما قدمه مخرج العرض في هذا الصدد يستحق الإشادة والتقدير، حين جعل المسلم والمسيحي مكبلين سوياً بكلابشات بيد واحدة واليد الأخرى طليقة، ويرغبان في الصلاة كلٌ حسب طقوس عبادته، وحين يدركون أن الكلابشات تحول دون ذلك قررا مساعدة بعضهم البعض، بتطويع أجسادهم لمساعدة بعضهم على الصلاة، في مشهد متميز للغاية ويعبر بصدق عن أن “مايكل تادرس” كمخرج يحمل داخله الكثير والكثير ولم يخرجه بعد.
أحياناً تكون ورش الكتابة بها خلل نتيجة عدم وجود قائد لهؤلاء الكُتاب داخل الورشة، ومع اختلاف رؤيتهم وطريقة طرح كل منهم واختيار الجمل والكلمات المناسبة، يكون هناك خلل في بناء العمل الدرامي، ولكن في عرض المدينة الذي شاركت في كتابته “ماريانا وليم” و”مارينا جوزيف”، بإشراف “مايكل تادرس” ومشاركته فى الكتابة أيضاً.. كان البناء الدرامي متماسكا لحد كبير، وهي نقطة تحسب له أن يستعين ببعض الكاتبات المتميزات في طرح أشياء مهمة تخص المرأة، ربما نحن ككتاب رجال لا نملك قدرات لهذا تعيننا على فهم ما تمر به الأنثى في مراحل معينة من حياتها، وكيفية تعاملها مع أزمات موجودة في مجتمعاتنا العربية، فنجد من النماذج المطروحة الأنثى التي عانت من قسوة الأب بعد موت أمها، فكبرت وأصبحت عدوة لكل الرجال وتكرههم ولا تحب التعامل معاهم، وأنثى أخرى قاست بعد وفاة زوجها أثناء عمله دون حصولها على تعويض مناسب، ولحقتها طامة أخرى وهي وفاة ابنها الوحيد أثناء سفره بحثاً عن حياة كريمة خارج البلاد، وأيضاً الأنثى غير المثقفة التي لم تجد ما يعينها على الحياة سوى تجولها في الشوارع كبائعة شاي لمن يرغب، ورغم اهتمامها بالرزق على حساب الهم الوطني إلا أنها في مرحلة ما ترفض الرحيل من الميدان، والأنثى الرابعة هي ابنة أحد الأثرياء التي ترى أن أسباب تدهور المجتمع هم هؤلاء الفقراء الجهلة، والتي حين تعيش وسطهم وتتعامل معهم عن قرب ترى فيهم صفات أهم من الفقر والغناء حتى وصلت لمرحلة أن تطلب من إحداهن أن تناديها «يا ماما» ،ونموذج الأنثى الخامسة هى أم الشهيد التى قررت البقاء فى الميدان باحثة عن حق إبنها الذى قرر مواجهة الظلم والبحث عن بلاده التي سرقت منه عنوة.. إذا نحن هنا في خضم مشاعر إنسانية أنثوية عميقة أجادتا التعبير عنها بحرفية “ماريانا ومارينا” بتنقيح وإشراف “مايكل”.
من بداية العرض يتم التمهيد لفكرة عامة امتدت معنا لنهاية العرض وهي الخط الرئيسي لكل المشاهد بعنوان «الحب يفعل كل شيء» فحين يجد الشهداء أنفسهم داخل المدينة التي ربما يكون مكاناً سحرياً إن نجحوا بالخروج منه يصلون إلى الجنة، يمرون بعدة أزمات داخل هذه المدينة لا ينقذهم منها سوى الحب، والحب يعني مساعدة وقبول الآخر مهما كانت اختلافاته وذلك بتجسيد خيالي يتخلله الكثير من الكوميديا لثلاثة نماذج واضحة وهم.. الرجل والمرأة والصراع الأبدي بينهما عمن يملك حق السيطرة والحكم، والنموذج الثاني هو الصراع الديني بين مسلم ومسيحي، والنموذج الأخير بين اختلاف الطبقات في المجتمع بين غني وفقير ومثقف وجاهل.. لينتهي الأمر في النهاية بتكاتف الجميع سوياً بعد اعترافهم لبعضهم البعض عما جعلهم يصبحون بهذا الشكل.
عرض المدينة لفرقة شمعة وملاحة من العروض التي تستحق الاستمرارية لفترات طويلة لما به من إبداع في الكتابة والإخراج، بالإضافة إلى وجود مجموعة من الممثلين الموهوبين بشكل كبير الذين بينوا لنا بالدليل القاطع أن هناك موهوبين لم يظهروا بعد بشكل كاف وهم أفضل كثيراً من أشخاص كُثر نراهم على شاشات العرض في التليفزيون والسينما وهم دون المستوى.. لذلك أنصح المخرجين والمنتجين بالذهاب لمثل هكذا عروض، لأن المشاركين بها يشعرون بالموهبة الحقيقية ويستحقون مكانة تليق بهم.. ولأنهم أيضاً غير منفصلين عن واقعنا الحالي قرروا دعم القضية الفلسطينية بطريقتهم بخروجهم بأعلام فلسطين أثناء العرض أو في تحية الجمهور في النهاية.
شارك بالتمثيل في العرض المسرحي «المدينة» الفنانين حنان الشيمي- سارة البورديني - فادي جمال - ماري أشرف - تقوى خالد - ميريام رجائي - بولا ألفريد - ميرنا فكري - إيناس الجزار - نيرمين مجدي - مريم علي إبراهيم - فتحي وليد - محمد معتز - مايكل نزيه - يوسف داوود - فيلو طارق - منال ظريف - خلف أحمد - جوزيف يعقوب - ياسمين طبوزادة - دونا عمر - أبانوب سامح - مجدي الجاولي - فاتن حسني - أحمد مجدي - ساهر عبد الباري - مايكل تادرس.. ورشة الكتابة مارينا جوزيف - ماريانا وليم – مايكل تادرس.. مساعد مخرج فيلو طارق.. مخرج منفذ إيمان علي.. تنفيذ موسيقي مينا سامي.. قصة وإخراج مايكل تادرس.


نبيل سمير