فتوح نشاطي خبيرا مسرحيا

فتوح نشاطي خبيرا مسرحيا

العدد 757 صدر بتاريخ 28فبراير2022

ترك زكي طليمات تونس في أواخر عام 1957 وعاد إلى القاهرة استعداداً لمهمة جديدة في الكويت، وهي مهمة تتشابه إلى حد كبير مع مهمته في تونس! ومهمة طليمات الجديدة بدأت في الكويت في فبراير 1958، وبذلك فقدت تونس خبرة طليمات وإرشاداته ورعايته للفرقة القومية التونسية التي أنشأها. وحاولت تونس الاعتماد على أبنائها، وحاول الأبناء النهوض بالمسرح التونسي قدر الإمكان، لا سيما وأن تونس كانت تمرّ بأهم فترة تاريخية، وهي فترة بناء الجمهورية التونسية بعد الاستقلال من الاحتلال الفرنسي، وفيها برزت أسماء وطنية مهمة أسهمت في مجالات عديدة من أجل الارتقاء بالدولة، ومنهم كان السياسي «الصادق المقدم»، الذي تولى عدة مناصب سياسية، كان من أهمها منصب «كتابة الدولة للشئون الخارجية التونسية». هذا السياسي وجد - في ديسمبر 1961 - أن تونس تحتاج إلى نهضة مسرحية - تتناسب مع تطلعات الحكومة للارتقاء بكافة النواحي في الجمهورية التونسية - وهذه النهضة تحتاج إلى خبير مسرحي من خارج تونس ليضع التخطيط السليم لها، والإشراف على تنفيذها، ويكون بديلاً عن زكي طليمات الذي سافر إلى الكويت!

وثائق الخبير
ومن خلال بعض الوثائق، أقول إن مراسلات عديدة تمت بين الصادق المقدم وبين وزارة الثقافة والإرشاد القومي في مصر - وتحديداً مع الدكتور «علي الراعي» رئيس مجلس إدارة المؤسسة المصرية العامة لفنون المسرح والموسيقى – حول اختيار الخبير المسرحي المصري الذي سيُكلف بوضع التخطيط للنهضة المسرحية في تونس والإشراف عليها. ووقع الاختيار على الفنان المخرج «فتوح نشاطي». فقام وكيل وزارة الثقافة المصرية بإرسال خطاب إلى الخارجية التونسية يستفسر عن بعض الأمور، فردت عليه الخارجية بخطاب عنوانه «شروط التعاقد مع خبير المسرح العربي الأستاذ فتوح نشاطي»، جاء فيه الآتي:
«السيد وكيل وزارة الثقافة والإرشاد القومي. إشارة إلى كتاب سيادتكم المؤرخ 2/12/1961 بخصوص الشروط التي تقدمها حكومة جمهورية تونس من حيث المرتب والمدة التي تستغرقها إعارة أحد خبراء المسرح للعمل بتونس، أتشرف بأن أبعث لسيادتكم رفق هذا صورة مذكرة كتابة الدولة للشئون الخارجية التونسية رقم 2685 بتاريخ 6 أغسطس سنة 1962 والواردة برفق كتاب سفارة الجمهورية العربية المتحدة في تونس رقم 351 سري بتاريخ 7 أغسطس سنة 1962 بهذا الشأن. رجاء التفضل بالنظر والإفادة بما يستقر عليه الرأي. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام. [توقيع] وكيل الخارجية».
والمذكرة المرفقة لهذا الخطاب، تُعدّ أهم وثيقة في هذا الموضوع، لأن كاتبها هو «الصادق المقدم» إلى سفارة الجمهورية العربية المتحدة بتونس يوم 6/8/1962، وهذا نصها: «تهدي كتابة الدولة للشئون الخارجية التونسية أطيب تحياتها إلى سفارة الجمهورية العربية المتحدة في تونس، وبالإشارة إلى مذكرتها رقم 236 ملف 1/4/9 بتاريخ 18 يوليو سنة 1962 بشأن موافاتها بشروط انتداب الخبير العربي في شئون المسرح، تتشرف بإفادتها أن مهمة الأستاذ فتوح نشاطي الذي قبلت ترشيحه مؤسسة فنون المسرح والموسيقى بالجمهورية العربية المتحدة تنحصر في الإشراف على حركة المسارح الشعبية المتنقلة بالجمهورية التونسية وله إلى جانب ذلك أن يستفيد بإلقاء دروس ومحاضرات في مدرسة التمثيل وفي الإذاعة الوطنية التونسية. أما بخصوص الضمانات المادية التي سيتمتع بها الأستاذ فتوح نشاطي فإن التعاقد معه يكون على سنة كاملة مع إمكان التجديد بمرتب لا يتجاوز 150 ديناراً وله معلوم سفره قدوماً وإياباً ورخصة شهر مع تسديد المرتب. وتنتهز كتابة الدولة للشئون الخارجية هذه الفرصة لتعرب لسفارة الجمهورية العربية المتحدة من جديد عن فائق احترامها وعظيم تقديرها».
سنتوقف قليلاً أمام بعض العبارات التي وردت في هذه المذكرة، ومنها وصف فتوح نشاطي بالخبير العربي في شئون المسرح!! وهذا وصف يعكس مكانة مصر وقيمة رموزها المسرحية في هذه الفترة. أما العبارة الثانية، فتتمثل في مهمة فتوح نشاطي في تونس؛ بوصفه خبيراً عربياً مسرحياً، وهي «الإشراف على حركة المسارح الشعبية المتنقلة بالجمهورية التونسية»!! والحق يُقال إن فكرة المسارح المتنقلة عربياً، اهتم بها زكي طليمات، عندما كتبها في مذكرة رسمية – ضمن مقترحاته لتطوير المسرح في الكويت – وأطلق على مشروعه اسم «المسرح المعدني المتنقل»، وعرفه قائلاً: «والمسرح المذكور سيجري تصميمه بحيث يقام في أي مكان ويطوى في أقصر وقت، ثم يحمل في سيارات تجري نقله، هذا مع وفائه بأهم الإمكانيات الفنية الخاصة بالإخراج المسرحي. وبهذا المسرح يمكن إقامة حفلات تمثيلية خارج دولة الكويت وفي الإمارات العربية التي لم تنشئ بعد دوراً للتمثيل».

تفاصيل المهمة
وبالعودة إلى موضوعنا، وبناء على ما بين أيدينا من وثائق مصرية في هذا الشأن، وجدت خطاباً مؤرخاً في 6/10/1962 أرسله الدكتور على الراعي - رئيس مجلس إدارة المؤسسة المصرية العامة لفنون المسرح والموسيقى بوزارة الثقافة والإرشاد القومي – إلى فتوح نشاطي، هذا نصه: «ورد إلينا من وزارة الخارجية الكتاب المرفق صورته طيه بشأن شروط التعاقد معكم لتنفيذ الاقتراح الخاص بإعارتكم لحكومة تونس لوضع برنامج للنهوض بالمسرح بها. رجاء دراسة الموضوع بصفة عاجلة وموافاتنا برأيكم الأخير في العمل المقترح لإبلاغه للمسئولين. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام».
هذا الخطاب يثبت وجود مراسلات مفقودة في هذا الشأن؛ حيث إن هذا الخطاب يشير إلى أن تونس أرادت من فتوح نشاطي؛ بوصفه خبيراً عربياً مسرحياً أن يضع برنامجاً للنهوض بالمسرح في تونس، دون تحديد المهمة السابقة وهي الإشراف على حركة المسارح الشعبية المتنقلة أو إلقاء محاضرات في مدرسة التمثيل والإذاعة!! ولعل وضع برنامج النهضة المسرحية كان من اجتهاد الدكتور علي الراعي، أو إنها عبارة عامة وشاملة للمهمة بكافة تفاصيلها!!
بعد أيام قليلة، أرسل فتوح نشاطي خطاباً إلى الدكتور علي الراعي في 18/10/1962، قال فيه الآتي: «حضرة السيد الدكتور علي الراعي رئيس مجلس إدارة المؤسسة المصرية العامة لفنون المسرح والموسيقى. تحية وإجلالاً وبعد: رداً على خطابكم الكريم الخاص بإعارتي لحكومة تونس للنهوض بالمسرح هناك وذلك لمدة سنة قابلة للتجديد. أتشرف بإخباركم أن مرض السكر لم يعد يسمح لي بالتغيب عن بلدي لمثل هذه المدة الطويلة، وإني على استعداد لتمضية ثلاثة أشهر بتونس العزيزة - من يونيو إلى نهاية أغسطس - أخرج خلالها مسرحية أو اثنتين يتفق عليهما قبل سفري من مصر بالشروط المادية التي عرضتها الحكومة التونسية زائد نفقات السكن والطعام والتنقلات داخل تونس. وتفضلوا يا سيدي الدكتور بقبول فائق الاحترام».
هذا الرد كان رفضاً للمهمة بصورة مهذبة؛ لأن اختيار فتوح نشاطي لم يكن فجائياً ولم يحدث بين يوم وليلة؛ حيث كان ترشيحه بناء على رغبته وموافقته منذ البداية كما تقول الوثائق!! كما أن مرض السكر لم يظهر فجأة بالنسبة للخبير، بل كان مريضاً به من قبل ذلك بسنوات، كما أن الإعارة لمدة سنة قابلة للتجديد ولم تكن لثلاثة أشهر!! إذن ما السبب الحقيقي وراء هذا الرفض؟!

من هو البديل؟
الحقيقة لم أجد إجابة على هذا السؤال، وربما يجده أحد الباحثين في تونس مستقبلاً!! ولكن ما يهمني هو سؤال آخر: من كان البديل لهذا الخبير؟ وبمعنى أوضح: إذا كان فتوح نشاطي رفض هذا العرض، أو لأسباب معينة لم يقم بالمهمة، فمن هو الخبير المسرحي العربي الذي سافر إلى تونس، وقام بالمهمة المطلوبة، ووضع تخطيطاً لنهضة المسرح في تونس؟!! بكل أسف لم أجد وثيقة تجيب على هذا السؤال أيضاً، وربما يجدها غيري، وإن كنت أشك في وجودها! ورغم ذلك هناك إجابة منطقية لهذا السؤال، تقول: إن الجمهورية التونسية، عندما أرادت أن تضع تخطيطاً لنهضة مسرحية تونسية في أوائل ستينيات القرن الماضي، لم تجد من الخبراء العرب المسرحيين سوى الفنان المخرج فتوح نشاطي، الذي لم يقبل بالمهمة لسبب أو لآخر، مما جعلها تبحث عن البديل، فلم تجد بديلاً عن هذا الخبير المسرحي المصري سوى خبير آخر نجح في مهمته نجاحاً كبيراً، وصنع لتونس مجداً مسرحياً كبيراً، إنه الفنان التونسي «علي بن عياد» الذي تولى إدارة فرقة بلدية تونس عام 1963، والذي على يديه بدأت تونس نهضة مسرحية ما أظن خبيراً مسرحياً، كان سيحققها مثلما حققها علي بن عياد.

كلمة ضرورية
كل ما نشرته من مقالات حول موضوع «العلاقات المسرحية والفنية بين مصر وتونس»، وما سأنشره من مقالات متبقية حول الموضوع نفسه، هو جديد لم أكتبه من قبل، إلا ما جاء في هذه المقالة تحديداً من وثائق، حيث سبق ونشرتها – منذ أربع سنوات - في مقالة بعنوان «وثائق سرية للنهوض بالمسرح التونسي عام 1962»، وقد نشرتها جريدة «مسرحنا» أيضاً في العدد رقم «565» بتاريخ 25 يونية 2018. ومن يعقد مقارنة بين هذه المقالة والمقالة السابقة، سيجد الوثائق ثابتة، ولكن الاختلاف كان في أمور أخرى ذكرتها في المقالة الأولى، ولم أذكرها في مقالتنا الحالية، لاختلاف الظروف؛ حيث إن المقالة الأولى كانت مقالة مستقلة بذاتها وبموضوعها. أما مقالتنا اليوم فتأتي في سياق موضوع أعم وأشمل في العلاقات المسرحية والفنية بين مصر وتونس.

حتى تكتمل الصورة
إلى هنا والمفروض تنتهي الحلقات، والتي تتبعت فيها العلاقات المسرحية بين مصر وتونس، مع المساس ببعض الأمور الفنية أيضاً. وحاولت قدر الإمكان أن أكتب عن الجديد الذي لم يُنشر من قبل، وتحديداً تفاصيل بعض الأمور التي تم نشرها في الدوريات المصرية. والهدف من وراء ذلك هو إنقاذ ما نشرته الدوريات المصرية متعلقاً بالعلاقات المسرحية المصرية التونسية، حيث إن أغلب ما نشرته الدوريات لم يتطرق إلى تفاصيله المؤرخون أو الباحثون، بل كتبوه عامة وفي خطوط عريضة، واعتمدوا فيه على النقل من الكتب السابقة، والتي نقلت من بعضها البعض أغلب المعلومات ومعظم الموضوعات والتقسيمات، ومن هنا كان الاختلاف بين ما كتبته في هذه المقالات، وبين ما هو معروف ومنشور في الكتب المتداولة.
وإحقاقاً للحق أقول: إنني وجدت أخباراً مسرحية منشورة في الدوريات المصرية، تتعلق بالنشاط المسرحي التونسي من خلال أنشطة الهواة في الجمعيات والنوادي وبعض الفرق، بالإضافة إلى أخبار فنية أخرى، مما يعني أن الدوريات المصرية لم تهتم فقط بالفرق المسرحية المصرية التي زارت تونس – كما يُعتقد بناء على المقالات السابقة - بل اهتمت الدوريات المصرية أيضاً من حين لآخر بأنشطة المسرح التونسي نفسه، وببعض الأخبار الفنية المتعلقة بتونس. وهذه الأخبار تتمثل أهميتها في أنها غير معروفة للتونسيين، ولم يهتم بجمعها أو الإشارة إليها أي مؤرخ أو باحث من قبل. وفي ظني أنها مهمة للباحثين مستقبلاً؛ لأنها توثق للحركة المسرحية التونسية في مجال النشاط المسرحي للهواة، سواء للفرق أو الجمعيات، مثل: جوق النهضة العربية، وفرقة السعادة، وفرقة الشيخ إبراهيم الأكودي، وفرقة التمثيل العربي، وأسرة فينوس لهواة التمثيل، وفرقة المستقبل التمثيلي، وفرقة النجم التمثيلي، وفرقة الأحباب .. إلخ. هذا بالإضافة إلى أخبار الفرقة الرسمية وهي البلدية أو القومية، مع موضوعات رسمية أخرى منها الندوات والمؤتمرات والأسابيع .. إلخ!!
والأخبار المنشورة في الدوريات المصرية وتتعلق بهذه الفرق والجمعيات والرسميات لا تشكل في مجموعها مقالات مستقلة ومتكاملة لكل فرقة أو جمعية أو مناسبة، لأن الأخبار المنشورة عنها في الدوريات المصرية، كانت تأتي من خلال بعض المراسلين التونسيين المؤقتين وفقاً لاستمرار الجريدة أو المجلة، ووفقاً لاهتمامها. وهذا يعني أن المراسلة لم تكن منتظمة حتى نستطيع تكوين رؤية كاملة أو رؤية عامة للنشاط المسرحي التونسي والفني معتمدين على هذه الأخبار المنشورة من حين لآخر!! هذا بالإضافة إلى أن اختيار الأخبار المتعلقة بموضوع واحد لا تكوّن مقالة كاملة في حجم المقالات السابقة لتستقيم الأمور كما تعودنا في مقالات السلسلة المنشورة سابقاً!
وهذا الأمر جعلني أقع في حيرة: ماذا أفعل بهذه الأخبار؟! هل أنحيها جانباً واكتفي بما نشرته في المقالات السابقة؛ بوصفها مقالات ذات استقلالية في موضوعها، ومكتملة المعنى والمضمون! أم أقوم بنشرها مهما كان الأمر، لأنني أرى فيها فائدة للباحثين مستقبلاً؟! وأخيراً قررت أن أنشرها حسب تسلسلها التاريخي في النشر، وسأنشر الخبر بنصه إذا كان النص له أهمية في المعلومة والصياغة، أو أقوم بتلخيص الخبر إذا كان به حشو غير مفيد، دون إخلال بالمعنى وأهمية المعلومة المنشورة، أو أشير إلى أهم معلومة فيه وأتجنب غير المهم. وبذلك أحافظ على أهمية الأخبار التي جمعتها، مبرزاً قيمتها المسرحية والفنية والتاريخية، لتكون مادة علمية جاهزة للباحثين مستقبلاً، ربما تجد قيمتها عند باحث يستغلها، ويضيف إليها الأخبار المناسبة لها والمنشورة في الدوريات التونسية أو المنشورة في الدوريات الفرنسية الصادرة في تونس حينها، وبذلك تكتمل صورة المسرح التونسي تاريخياً وعلمياً بقدر المستطاع.
وبناء على ذلك كتبت ست مقالات - وهي آخر مقالات في سلسلة موضوعنا الرئيسي - وعنوانها الفرعي ثابت وهو «المسرح التونسي في الدوريات المصرية». والمقالة الأولى ستكون أخبارها المنشورة بين عامي 1911 و1931. والثانية بين عامي 1932، و1933. والثالثة بين عامي 1934 و1935. والرابعة بين عامي 1936 و1954. والخامسة بين عامي 1955 و1963، والسادسة بين عامي 1964 و1965.


سيد علي إسماعيل