البؤساء.. وما الدنيا إلا سجن كبير

البؤساء.. وما الدنيا إلا سجن كبير

العدد 572 صدر بتاريخ 13أغسطس2018

الثورة والمناجاة بالعيش الكريم، وسط مجتمع ملأه الظلم والفوضى، واحدة من أكثر القضايا طرحا على الساحة المسرحية، وفقا للمنهج السسيولوجي وما يعانيه مجتمعنا الحالي من مشكلات كثيرة تجعل هناك تقاربا واضحا بين تلك الأوضاع المسرحية والواقع المعايش، مما يشكل لهذا النوع أنتشارا بالغا، متماشيا مع الآيديولوجيات الفكرية وحال معاصري هذا المجتمع.
ولعل رواية “البؤساء” للفرنسي «فيكتور هوجو» (1802م - 1885م) من أوائل الأعمال الفنية التي ناقشت تلك القضايا الاجتماعية المتأزمة، واستعراض أثرها على الشعوب، كملحمة بشرية بائسة تنقل من خلالها مآسي القرن التاسع عشر لفقراء فرنسا. قدمت رواية “البؤساء” على يد فريق تمثيل كلية التجارة جامعة عين شمس، رؤية وإخراج «محمد عبد الله» بالمهرجان القومي للمسرح المصري في دورته الحادية عشرة.
لم يختلف العرض في ترتيب أحداثه أو زمن سرده عن رواية هوجو، حتي في حفاظه علي وحدة المكان التي تدور بها الأحداث «فرنسا»، بل أكتفي العرض بأعداد الرواية أعدادا سمعيا وبصريا، وليس دراميا، فالبناء الدرامي هو نفسه بناء هوجو ولكن الصورة المرسومة هي من أعطت للحدث وضوحا وتأثيرا.
وكان أول هذه الإعدادات هي الدراما الحركية والتأليف الموسيقي حيث يبدأ العرض بأوفرتير كلماته تنحصر في جملتين «عينك في الأرض ستظل دائما عبدا، أنت واقف فوق قبرك»، كلمات حاملة في معانيها تمهيدا لمعاناة لا يعلم أحد أسبابها بعد، مكملا لتلك الكلمات صورة بصرية شديدة الامتياز في التصميم كزنازين خشبية مكسوة أطرافها بالخيش تملأ فضاء المسرح، سهلة الحركة والتنقل على يد «كورس» العرض، لتشكل أوضاع كثيرة ومتنوعة في مختلف الأحداث، ولكن تبقى كزنازين من البداية وحتى النهاية، مؤكدة على وجود القيود مهما اختلفت الأماكن والمسميات.
فرسم «محمود صلاح» ديكورا بمنتهى الإتقان والعناية الشديدة، عاكسا لحالة الفقر والذل والمهانة المأخوذة من وجوه الكورس/ الشعب، الذي هو أيضا مساهم في تشكيل سينوغرافيا العرض، فهو من يقوم بتحريك كل قطع الديكور، مستخدما جسده لتشكيل أشكال مختلفة من الزنازين لتكوين بيوت، قصور، مخابئ حروب، حانات وغيرها وغيرها، كما أنه يمثل حطام شعب عانى من الظلم والجهل والجوع مرتديا طوال أحداث العرض خيشا عاكسا مدى الأزمة المقدمة.
وساعد في تكوين تلك اللوحة المتقنة الصنع إضاءة «أبو بكر الشريف» من ألوان نارية تعكس حالة الخطر الدائم والفجوة المجتمعية بين السلطة والشعب، ولعل تلك الفجوة هي خيط الرواية الأول الذي اعتمد عليه العرض.
حيث يبدأ العرض في يوم إطلاق صراح «چان فالچان» من السجن، ظنا منه أنه قد حصل على حريته وسيودع عالم الزنازين هذا، لتقع مواجهة بينه والمفتش چافير يتضح لنا من خلالها أسباب دخول چان السجن، وهي نفسها الأسباب المقدمة في الرواية، كلص سرق خبزا من أجل أخته وأطفالها الجياع، وسبب طول مدة سجنه لعشرين عاما داخل العرض تعود لكثرة محاولة هربه، مؤكدا المفتش چافير في نهاية المواجهة أن چان لم يحصل على حريته بعد، وأن صحيفة سوابقه سوف تطارده حتى موته، وأنه سيخرج من سجن صغير لمواجهة سجن أكبر.
وتتوالى أحداث العرض بين خروج چان ومواجهة الكثير من الأزمات في الحصول على عمل ومقابلته للأب ماريوس الحنون الذي يعيد لچان إنسانيته من جديد، التي كاد أن ينساها، وعكس تلك الإنسانية في تعاطف چان مع شخصية ?انتين وكوزيت وماريوس..
ولعل ذلك التشابه الذي يكاد يقرب إلى النسخ من حيث الأحداث، هو ما يجعل العرض مفتقدا للرؤية الحقيقية، فالجدير بالذكر من العرض حقا هو تقديم مواهب شابة على وعي ودراية كافية بخشبة المسرح، حيث تمكن الممثل «حسن خالد» الذي قدم دور «چان فالچان» من أدواته الجسمانية لتوظيفها في مسارها الصحيح الذي يخدم الشخصية في مراحلها المختلفة منذ أن كان شابا سجينا وصولا للكهولة التي بدت على وجهه وحركات جسده، ملتزما بحركة قدمه التي وفق في أن يحافظ عليها طوال العرض كمصاب من التعذيب الذي وقع عليه في السجن.
وأدوار النساء داخل العرض التي ساهمت في إبراز صورة المرأة في القرن التاسع عشر في المجتمع الفرنسي، التي لا طائل منها ولا فائدة حيث التزمت عاملات المصنع الذي تعمل به فانتين في حياكتهن للملابس بحركة إدخال وإخراج أداة الحياكة دون أن يقمن بربط نهايتها، لتكون علامة سيميائية من اللاجدوى في العمل، فالمرأة ما هي إلا جسدا لسد شعور الشهوة وفقط، عن طريق شخصية فانتين التي وقعت ضحية رجل مخادع وأنجبت منه طفلة وكان مصيرهمها الخلاء الذي لم يكن عطوفا عليهما على الإطلاق، بل افترسهما وحولهما إلى جسدين منهكين، ولكن لحق فالچان «كوزيت» بعطفه، التي تمثل المستقبل القادم كطفلة حملت على عاتقها أفكارا حول وضعية المرأة داخل مجتمعها لا تعلم عنها شيئا، حملتها فقط لأنها ولدت أنثى.
وبنشوب الأمل من جديد في حياة البؤساء بإنقاذ كوزيت وظهور الحب بين «كوزيت» و«ماريوس» - وهو أحد الشباب الثوري ضد نظام فرنسا - يظن الجميع أن القدر سوف يقلب الأحداث من بؤس قاتم إلى أمل في استشراق الحياة من جديد، وذلك ما تم حدوثه بالفعل عند هوجو وإنهاء أحداثه بزواج كوزيت وماريوس.
ولكن يبدو أن لدراماتورج العرض نظرة أخرى تعتبر هي نقطة الاختلاف الوحيدة التي قدمها العرض عن الرواية، وهي «النهاية» التي قدمت صورة المرأة وهي مستمرة في قهرها واستقصاء الحب من حياتها معذبة ومنهكة ومدمرة، لتخلو النهاية من أي أمل ويخسر كل ذي حق حقه، يقتل چان على يد چافير، ويقتل أيضا أبناء الثورة، وتعذب المرأة وتغتصب وتعود أرض فرنسا لسلطتها الباطشة التي حتى وإن أعطت فرصة لبزوغ فكرة الأمل، كانت قادرة فيما بعد بإقصائه أبديا.


منار خالد