رحلتان إلى تونس بعد ثورة يوليو 1952

رحلتان إلى تونس بعد ثورة يوليو 1952

العدد 750 صدر بتاريخ 10يناير2022

قامت ثورة يوليو 1952 في مصر، وتغير النظام السياسي، وتغير كل شيء في المسرح وانقسمت الفرقة القومية إلى فرقتين، وزادت المنافسة بين زكي طليمات ويوسف وهبي، والتي توارثها تلاميذهما، فأصبح المسرح ينقسم إلى فريقين كل فريق ينتصر لأفكار أستاذه! أما الطامة الكبرى فتمثلت في نكران الجميل من بعض تلاميذ زكي طليمات نحو أستاذهم، مما جعله يتجه نحو تونس! لذلك لن أتحدث عن طليمات الآن، لأنني لم أتحدث عنه ضمن رحلات الفرقة المصرية إلى تونس منذ عام 1950، حيث كان طليمات عاملاً فاعلاً في نشاط المسرح المصري في تونس، والسبب في تجنبي الحديث عن طليمات هو تخصيصي لمجموعة مقالات خاصة بنشاطه في تونس، سأبدأها بالمقالة القادمة! والآن نعود إلى استكمال رحلات الفرقة المصرية إلى تونس!

رحلة الفرقة عام 1954
في مارس 1954 اهتمت الحياة المسرحية المصرية بعد الثورة باشتراك مصر، ولأول مرة في مهرجان مسرحي بباريس! حيث نشرت مجلة «الصباح» موضوعاً بعنوان «المسرح المصري في مؤتمر باريس»، قالت فيه: تلقى الأستاذ «عبد الرحمن صدقي» مدير الأوبرا ومراقب الشئون الفنية بوزارة الإرشاد القومي رسالة من المسيو «جوليان» مدير «مسرح سارة برنار» بباريس يدعوه لاشتراك المسرح المصري في المهرجان الدولي لفن التمثيل بباريس. وهذا المهرجان ينظم بإشراف بلدية باريس وينعقد في العاصمة الفرنسية من 15 يونيو إلى 15 يوليو. فإذا لبت مصر الدعوة أصبح المسرح المصري ممثلاً في المهرجان إلى جانب إيطاليا وإنجلترا وبلجيكا وسويسرا والولايات المتحدة وهي البلاد التي وافقت حتى الآن على المساهمة في المهرجان. ويدرس المسئولون الآن إمكانيات اشتراك مصر في مثل هذا المهرجان الفني الدولي الكبير بحيث تظهر في صورة مشرفة وبمظهر لائق بماضي مصر الفني المعروف ونهضتها الحديثة المرموقة.
وأكملت مجلة «الفن» معلومات هذا الموضوع، فتحدثت عن المسرحيات التي ستشارك بها مصر، ومنها مسرحية «طرطوف» لموليير التي عرّبها «حافظ جلال»، ومسرحية «شهرزاد» لتوفيق الحكيم! وعلقت المجلة عليها قائلة: «وهي مسرحية لم يشهدها المسرح المصري بعد، وربما لن يشهدها لعمق فكرتها، ولكنها ستعرض في مهرجان باريس المسرحي الدولي، لأنها مترجمة إلى الفرنسية ويعرفها الفرنسيون أكثر من المصريين». وبالإضافة إلى هاتين المسرحيتين، اقترح يوسف وهبي مسرحية «سر الحاكم بأمر الله».
ولعل القارئ الآن سيسألني: ما علاقة هذا كله بتونس؟! سأجيبه قائلاً: لو تغير القدّر في هذا الوقت، وتمت هذه الرحلة إلى باريس، لكان التاريخ المسرحي يفخر الآن بأن مصر كانت أولى الدول العربية التي اشتركت في هذا المهرجان، وكانت العروض التي ستعرض في باريس هي نفسها العروض التي ستعرض في تونس!! والذي يؤكد هذا الظن ما ذكرته مجلة «الفن» في أكتوبر 1954 تحت عنوان «مهرجان باريس الدولي للمسرح والفرقة المصرية الحديثة»، قائلة:
«استقر الرأي أخيراً على أن تكون جملة الحفلات التي تقدمها الفرقة المصرية الحديثة على مسرح «سارة برنار» بباريس خمس حفلات فقط في المدة من 7 إلى 11 يوليو. وسوف تساهم دار الأوبرا في هذا المهرجان بأن تضع مناظرها ومعداتها تحت تصرف الفرقة المصرية الحديثة ومن أجل هذا كلفت إدارة دار الأوبرا فنانيها من رسامي المناظر بأن يعدوا مناظر جديدة للمسرحيات التي ستعرض في هذه الفترة. هذا ولا تزال الفرقة المصرية الحديثة تنتظر بين الحين والآخر تلغرافاً من بلديات شمال أفريقيا لتحديد عدد الحفلات التي يمكن للفرقة أن تقدمها هناك، وسوف يراعى في هذه الحفلات أن تقع في وقت متصل بحفلات باريس حتى تقل تكاليف الرحلتين».
وبكل أسف لم تنجح الفرقة في السفر إلى باريس بسبب التكلفة الباهظة، لذلك اكتفت بالسفر إلى تونس، وعادت منها سريعاً، دون أن نجد لها أي أثر في الصحافة المصرية والتونسية، مما يعني أن الرحلة لم تكن ناجحة!! وهنا وجه الناقد «عبد الفتاح البارودي» سهام نقده إلى الفرقة وإلى الإدارة المسرحية، ونشر مقالة عنوانها «الفرقة التي رجعت بخفي حنين» في مجلة «الجيل الجديد» بتاريخ يوليو 1954، قال فيها:
«رجعت شعبة الفرقة المصرية من تونس بخفي حنين. وما أتعس السيد حنين بهذين الخفين. فمنذ خمس سنوات سافرت الفرقة إلى تونس ذاتها وفشلت، وعندما سُئل عميدها عن سبب الفشل عزاه إلى بعض الظروف السياسية التي كانت قائمة هناك وقتذاك. وسافرت الفرقة مرة أخرى وفشلت كذلك، وسُئل العميد أيضاً فنفى الفشل بل أدعى النجاح وبرهن على دعواه أن التونسيين أقاموا للفرقة حفلة تكريم تبادلوا فيها الكلمات وتناولوا المرطبات. وهكذا في كل مرة يفشل ويُسأل فلا يستعصى عليه الجواب أي جواب. لماذا؟ لأننا لا نُعنى بمواجهة الحقائق ولو واجهناها لأدركنا أن معظم رواياتنا منتحلة من الروايات الفرنسية، وهذه الروايات بالذات ليست غريبة على تلك البلاد بل لعلهم أكثر منا دراية بها بحكم احتكاكهم بالثقافة الفرنسية. من هنا لا أستغرب إذا رأينا نقادهم يصفون رواياتنا بأنها «مستهلكة» فإنهم يعلمون أصولها ونصوصها الأولى علم اليقين، ومن هنا جاهرت «الجيل الجديد» [أي المجلة] قبل غيرها بمنع اشتراكنا في مهرجان باريس! فإن «الذي لا يقوى على حمل العنزة، أحرى به ألا يقوى على حمل البعير» وعفا الله عما سلف، فماذا نحن فاعلون؟؟ لقد بدأ النقاد يعاودون الحديث عن انفصال الشعبتين وبدأت تلمع في الجو أسماء سليمان نجيب، وعزيز أباظة، وعبد الرحمن صدقي كأوصياء على شعبة المسرح الحديث، وبدأت التكهنات تذاع حول استقالة يوسف وهبي .. إلخ، وهذه كلها حلول وافتراضات واحتمالات لا هي في العير ولا في النفير، لماذا؟ لأننا لا نعنى بمواجهة الحقائق!! لقد كانت «الجيل الجديد» كذلك أول من طالب بانفصال الشعبتين ولكن على أسس مدروسة فإن مجرد استبدال وصي بآخر لا يقيم مسرحاً في الفضاء، وهذا الفشل الذي حاق بنا في تونس هو نفس الفشل الذي حاق بنا في القاهرة، وفي «كان» وسيظل يلاحقنا في كل مكان ولو هاجرنا إلى أذربيجان. فلماذا لا نواجه الحقائق؟ إننا لا نزال نتصدى لمشكلات المسرح والسينما وسائر المشكلات الفنية بأسلوب لولبي، والذين يعرفون علاقة النقد والتناول الفني بالوضع الاجتماعي يعرفون أن هذه اللولبية سمة العهود «الأوجسطية»! وهذا اصطلاح على العهود «الملكية» التي تهتم بالشكل واللياقة واللباقة، وتدين بمبدأ مسك العصا من الوسط. فكيف نمارس هذا الأسلوب في العهد الثوري الحر الذي نعيش فيه؟ دلوني على ناقد واحد يقول الحق ورزقه على الله، دلوني على ناقد واحد يدرك مسئولية خيانة الفن وتضليل الجماهير! لا نستغرب إذا رأينا نقادهم يصغون والفنانين أيضاً. منذ قريب زارني الزميل «شكري سرحان» وعتب عليّ قسوتي في المهاجمة وقال إن تشجيع الممثل المصري خير من نقده وقال أيضاً إن «سيسل دي ميل» شهد للممثلين المصريين بالبراعة والامتياز!! والواقع أن مثل سيسل دي ميل لا يمكن أن يدلي بمثل هذه الشهادة ولو صدقنا ذلك – فرضاً – فإنما يكون من قبيل التورط أو شيء شبيه بحفلة تكريم الفرقة المصرية في تونس. إنها الظلال الأوجسطية التي لا تزال تسيطر على تفكيرنا الفني بفضل نقادنا الأوجسطين. والحل في غاية البساطة بالنسبة للمسرح على الأقل. نصيحة مخلصة: عودوا إلى الأيام التي اشتد فيها التنافس بين الصديقين اللدودين زكي طليمات ويوسف وهبي. كلاهما ضرورة للمسرح وإلا فسيظل في لولبية وأوجسطية وسنرجع في كل موسم بخفي حنين إن لم نرجع بلا خفين.

الرحلة الأخيرة
قررت الفرقة المصرية أن تقوم برحلة إلى بلاد المغرب العربي في العام التالي 1955، رغم فشل الرحلة السابقة – من وجهة نظر عبد الفتاح البارودي – وللأسف وقف الاستعمار الفرنسي أمام هذه الرحلة بالمرصاد! وأخبرتنا بذلك مجلة «أهل الفن» في مايو 1955، قائلة تحت عنوان «الحكومة الفرنسية تمنع الفرقة المصرية من السفر إلى شمال أفريقيا!»:
بعد أن بعث المتعهد الجزائري – الذي هو في الوقت نفسه مدير أوبرا الجزائر – للأستاذ يوسف وهبي بصفته مدير الفرقة المصرية الذي تعاقد معه على القيام برحلة فنية تمثيلية في البلاد الشقيقة. وكانت هذه البرقية بتاريخ 5 مايو يبلغه أن الدوائر الرسمية وافقت على البدء في الرحلة. وبعد أن استعدت الفرقة بكامل معداتها وترتيباتها للقيام بتلك الرحلة فوجئوا بعدم وصول الإذن بدخولهم إلى هذه البلاد دون ذكر الأسباب. وسبق أن قامت الفرقة المصرية برحلات ناجحة في شمال أفريقيا تحدثت عنها صحف فرنسا بأسرها وكان الثناء عطراً على الفن المصري وعلى تصرفات المدير وأفراد الفرقة الذين تحاشوا التدخل إلا فيما يخص رحلتهم الفنية وهدفهم الأدبي إلى حد أن بعث وزير خارجية فرنسا بنفسه برقية إلى القاهرة يثني فيها ثناء عظيماً على ما نالته الفرقة من نصر فني كبير. كما أن عمدة الجزائر الذي كان في الوقت نفسه وزيراً للحربية في وزارة «منديس فرانس» أشاد في الحفلة التكريمية الرسمية التي أقامها في دار بلدية الجزائر بسمو قصد الحكومة المصرية بإرسال هذه البعثات التمثيلية التي الغرض منها الارتفاع بالمستوى الفني في تلك البلاد الشقيقة وطالب الفرقة المصرية بتكرار مثل تلك الرحلات. ومعنى هذا أن الفرقة المصرية لا يعوقها عائق سياسي ولم يصدر من رئيسها أو أفرادها ما تؤاخذه عليهم الدوائر الرسمية أو الدبلوماسية هناك. فما معنى إذن عدم السماح حتى الآن لهذه الفرقة الرسمية بدخول شمال أفريقيا ووضعها في هذا الموقف الحرج وإضاعة الفرصة كي تقوم بأداء رسالتها خير قيام، بينما نحن نعلم أن الفن شيء والسياسة شيء آخر وأن أبواب دار الأوبرا المصرية مفتوحة للفرق الفرنسية التي تقدم لها الحكومة المصرية الإعانات والتشجيع المادي والأدبي. ما الذي يحدث لو تحقق لنا أن هناك عراقيل وضعت لمنع الفرقة المصرية من دخول شمال أفريقيا؟! لعلنا نسمع قريباً ما يصحح تلك الأوضاع!
تابعت جريدة «القاهرة» المصرية هذه القضية، حتى وصلت إلى أن الاستعمار الفرنسي صرّح للفرقة بالسفر والعرض المسرحي في تونس وليبيا فقط دون السفر إلى الجزائر!! وبالفعل سافرت الفرقة إلى تونس، ونقلت لنا مجلة «الفن» - عبر مراسلها في تونس «محمد بن علي» - في يونية 1955 آخر نشاط للفرقة المصرية في تونس – وفقاً لمرحلة تأريخنا للعلاقات بين مصر وتونس – وقال المراسل تحت عنوان «تونس تحتفي بالفرقة المصرية الحديثة»: 
ليست مبالغة وليس تهويلاً ولكنها الحقيقة التي يشهد بها التونسيون آلافاً مؤلفة منهم قد احتشدت في أول يونية لاستقبال يوسف وهبي عاهل المسرح العربي مع أبطال الفرقة المصرية الحديثة، إذ صادف ذلك اليوم عودة الزعيم الكبير الأستاذ بورقيبة إلى أرض الوطن، بل صادف أن ينزل الأستاذ يوسف وهبي مع فرقته في مطار تونس في نفس الدقيقة التي مرّ بها ركب سيد الأحرار «الحبيب بورقيبة» أمام المطار، فما أن علم الناس بحضور عاهل المسرح العربي حتى هبوا لاستقباله. وهنأه زعيم العمال الأستاذ «أحمد بن صالح» ونخبة من رجال الاتحاد العام ورجال الصحافة والأدب والفن. ودوت هتافات الجماهير: «تحيا مصر! يعيش جمال عبد الناصر! أهلاً بعاهل التمثيل في الشرق!». وأقامت الفرقة المصرية الحديثة حفلتين في صفاقس ثم عادت إلى تونس حيث توجه يوسف وهبي أول ما قصد لزيارة مولى البلاد محمد الأمين باشا باي فقضى في حضرة جلالته ربع ساعة دار الحديث فيه عن الفن والأفلام المصرية. وفي الليل اكتظ المسرح على رحبه بجماهير النظارة ووصل ثمن التذكرة إلى ستة جنيهات بدلاً من 70 قرشاً!! وفي نهاية التمثيل ألقى يوسف وهبي خطاباً حماسياً رد فيه على الترحيب العظيم الذي قوبل به ظهوره على خشبة المسرح. وحضر الحفلة الثانية سيدي الشاذلي باي أكبر أنجال جلالة باي تونس كما حضر معظم الحفلات شيخ المدينة ورئيس بلديتها ومعظم النواب البلديين. وأقيم في اليوم الثاني احتفال لتكريم الأستاذ يوسف وهبي في فندق سان جورج حضرة رجال الفكر والأدب والفن يتقدمهم نائب شيخ الإسلام الحنفي الذي ألقى خطاباً رائعاً تحدث فيه عن فضل مصر على العالم العربي وفضل يوسف وهبي على الفن المصري كما تحدث عميد المسرح التونسي مرحباً بعاهل التمثيل العربي وأعقبه شاعر الشباب الأستاذ محمود بورقيبة بكلمة عبر فيها عما يكنه كل تونسي ليوسف وكل مصري. وكانت الفرقة المصرية الحديثة تعتزم الاكتفاء بخمس حفلات تقدمها للشعب التونسي ولكن إقبال الجماهير جعل الفرقة تقدم أربع حفلات عدا الحفلات التي أقامتها في بنزرت وسوسة وصفاقس .. ولولا اعتذار يوسف وهبي بضرورة السفر إلى طرابلس لامتدت إقامته في تونس بضعة شهور بإلحاح من التونسيين. وفي سوسة أقامت «جمعية الاتحاد المسرحي» حفلاً لتكريم الضيف الكبير تبارى فيه الخطباء وألقى الأديب الفحل «الصادق مازيغ» قصيدة رائعة. وقد أنعم جلالة باي تونس على الأستاذين يوسف وهبي و«كمال بركات» بنيشان الافتخار من الدرجة الأولى، وعلى الأساتذة: حسن البارودي وفؤاد شفيق، وأمينة رزق بنيشان الافتخار من الدرجة الثانية، كما أنعم على بقية أفراد الفرقة بنياشين مختلفة إكراماً للفن المصري في أشخاصهم.
وجاء في براءة نيشان «فؤاد فهيم»: من عبد الله سبحانه المتوكل عليه المفوض جميع الأمور إليه محمد الأمين باشا باي صاحب المملكة التونسية إلى المحترم ولدنا فؤاد فهيم الممثل. أما بعد فإنه بمقتضى مطلب جناب وزيرنا الأكبر رئيس الحكومة لما لكم من الشأن ألبسانكم هذا النيشان المطرز باسمنا وهو من الصنف الثاني من نيشان الافتخار في رسمنا فألبسه بالهناء والعافية وكتب بسراية المملكة. في 25 شوال 1374، 15 يونية سنة 1955.


سيد علي إسماعيل