ورطة نجيب الريحاني في تونس

ورطة نجيب الريحاني في تونس

العدد 743 صدر بتاريخ 22نوفمبر2021

النجاح الكبير الذي حققته فاطمة رشدي في تونس ضمن رحلتها إلى بلاد المغرب العربي عام 1932، ثم نجاح حفلات منيرة المهدية الغنائية في العام نفسه، شجع نجيب الريحاني للقيام برحلة إلى بلاد المغرب العربي بفرقته الكوميدية؛ بوصفها أول فرقة مصرية تقدم لونها الجديد في بلاد المغرب العربي. وهذا الأمر بدأ التحضير له قبل تنفيذه بشهرين، وأعلنت عنه مجلة «الصباح» في أواخر أغسطس 1932، بتقرير عنوانه «أول وأكبر فرقة مصرية للأوبرا والأوبرا كوميك تزور شمال أفريقيا .. رحلة الأستاذ نجيب الريحاني مع فرقته إلى طرابلس الغرب وتونس ومراكش والجزائر»، جاء فيه الآتي:
من يوم أن وقع الأستاذ نجيب الريحاني عقد الاتفاق عن رحلته إلى شمال أفريقيا بينه وبين المتعهد المشهور «علي أفندي يوسف»، أخذ يتأهب ويعد عدته لها ليجعلها في مستوى الكمال الفني. فعهد إلى السنيور «ديلامارا» المصور المعروف بتصوير مناظر [ديكورات] جديدة للروايات التي اختارها للرحلة، كما أوصى بصنع ملابس شرقية فخمة خاصة بها، وبدأ يتفاوض مع العناصر الجديدة القوية التي ستنضم إلى الفرقة في رحلتها الكبيرة. وقد اختار من رواياته الكثيرة أقواها وأعظمها وكلها من الروايات الشرقية الاستعراضية مثل «الليالي الملاح» و«الشاطر حسن» و«أيام العز»! وسيصحب حضرته الفرقة في رحلتها كمدير عام لإدارتها. والناظر إلى الأستاذ الريحاني في هذه الأيام يراه شعلة ملتهبة من النشاط الحي فهو يراقب بنفسه كل شيء يتعلق بالرحلة، ويستعرض المطربين والمطربات ليختار منهم أحسن مطرب وأحسن مطربة يجمعان إلى القدرة في الطرب القدرة على التمثيل. ومن برنامج العمل أثناء الرحلة أن يعرض لشيء من الرقص أو المنلوجات أو الغناء بين الفصول أو في آخر الرواية، بل يكون ذلك ضمن حوادث الروايات نفسها، رغبة في التوفيق بين الأمزجة المختلفة للجمهور. وستصحب الفرقة عدا من ذكرنا فرقة من الراقصات الأفرنجيات والمصريات. ويبذل الأستاذ الريحاني جهده لاختيار الراقصات الممتازات في فنهن. والغرض الأدبي الذي يرمي إليه الأستاذ الريحاني من هذه الرحلة هو أن يرى إخواننا التونسيون والمراكشيون أن في مصر فرق تمثيلية استعراضية مع نوعي الأوبريت والأوبرا كوميك تمتاز على أكبر الفرق الأجنبية التي تزور هذه العواصم، أو على الأقل تقف معها في صف واحد. وتبدأ رحلة الفرقة من 4 أكتوبر بالقيام من مصر ويسافر «علي يوسف» متعهد الرحلة في 27 من الشهر الحالي لعمل التمهيدات اللازمة، وسيكون خط سير الفرقة من مصر إلى بنغازي فطرابلس الغرب فتونس فسوسة فصفاقس فتونس ثانية فبنزرت فالجزائر فمراكش وطنجة والدار البيضاء. ولا تقل مدة الرحلة عن ثلاثة أشهر.
قبل سفر الفرقة إلى بلاد المغرب العربي، وتحديداً في سبتمبر 1932، نشر «نجيب الريحاني» رسالة موجهة إلى الصحافة التونسية – نشرتها له مجلة «الصباح» تحت عنوان «من الأستاذ الريحاني إلى صحافة تونس» - قال فيها: «إن ما لقيته الفرق المصرية التي تتشرف بزيارة بلادكم الشقيقة والعظيمة من جلال التقدير وروعة الاستقبال والترحيب، لم يكن الباعث عليه هو خلة إكرام الضيف فحسب! فالكرم والمروءة صفتان غريزيتان في نفوس العرب، توارثوهما عن أجدادهما المخلدين. إنما الباعث النبيل على ذلك هو إحساس أشقائنا التونسيين بأن حياة الأمة العربية في وحدتها وتمكين صلاتها. فهم في احتفالهم البليغ بالفرق المصرية في ربوعهم الأصلية إنما يحتفلون بهذه الفكرة القيمة الجليلة، وينتهزونها فرصة جليلة لتقريب الروابط وتوحيد المعاشر بين سائر الأمم العربية الشقيقة. هذا هو اعتقادي وهذا هو اليقين والواقع، لذلك فقد أردت أن أقوم بنصيب ضئيل في خدمة هذا الأمل المنشود، واعتزمت أن أتشرف برحلة لبلادكم الخالدة أمهد بها السبيل القويم الذي تنشدونه وننشده في سبيل الوحدة العربية، والعمل لها بكل ما أوتينا من إخلاص وقوة. وتأكيداً لنجاح هذه الفكرة انتخبت لهذه الرحلة المباركة الموفقة بإذن الله العلي القدير روايات عربية قيمة، تتجلى فيها عظمة العرب وكرم أخلاقهم وعلو مدنيتهم، ليرى من يشاء أن يرى من المكابرين أن للعرب تاريخاً تتضاءل أمامه التواريخ ومدنية تتلاشى حيالها المدنيات. وإني لجد سعيد وفخور أن تكون فرقتي أول فرقة مصرية لنوعي الأوبريت والأوبرا كوميك تحظى بزيارة تونس الخضراء، فيرى أشقاؤنا التونسيون فيها ما يرضيهم، ويرى الأجانب ما يقنعهم بأن أمم العرب لا تقل عنهم بل قد تزيد حتى في الفنون، التي اقتبسها عن فنونهم. وفقنا الله تعالى لما نريد والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، وإلى الملتقى القريب في 12 أكتوبر القادم».
أحداث غريبة
ما سبق يؤكد أننا سنقرأ عن استقبال غير مسبوق لفرقة الريحاني من أهالي تونس، يفوق استقبال فاطمة رشدي ومنيرة المهدية، لا سيما وأن زيارتهما لتونس كانت قبل زيارة الريحاني بشهور قليلة! لكن المفاجأة الغريبة أنني تابعت أخبار الريحاني في الصحف المصرية ابتداء من الثاني عشر من أكتوبر، فلم أجد أخباراً لا في أكتوبر ولا نوفمبر ولا ديسمبر، ووجدتها في الأيام الأولى من شهر يناير 1933، وما وجدته كان بياناً منشوراً في جريدة «أبو الهول»، بعنوان «بيان الريحاني للرأي العام في تونس» - نقلاً عن جريدة «النهضة» - هذا نصه:
«علم الجمهور التونسي ما حصل يوم الجمعة الأخير من الخلاف بين الفرقة وجمعية أحباء الطلبة. وأنا بصفتي مديراً للفرقة أرى من واجبي إزاء ما أحاط بهذا الخلاف من الأقاويل المختلفة، أن أذيع على صفحات جريدة النهضة الغراء أسفي الشديد لهذا الحدث غير المنتظر، والذي لم يكن في استطاعتي تلافيه في إيامه، وحصل ما حصل بالرغم مني. ولذا أصرح بأني ما كنت أود أن يحصل بيني وبين أية هيئة تونسية ما يعكر صفاء المودة المتعارفة بين القطرين الشقيقين، على أني لا أنسى ما قوبلت به هنا من الحفاوة وكرم الضيافة اللذين لا يمكن أن أقابلها بغير الشكر والتقدير. ولكي أبرهن عملياً على اعترافي وتقديري أصرح الآن بأني على أتم استعداد «لتلافي غلط لم أرتكبه أنا شخصياً نحو جمعية أحباء الطلبة أو غيرها» بأن أقوم لفائدتها بتمثيل الرواية التي تختارها، وتُعلن عن موعدها تقديراً لتقديرها، وآمل ألا يؤثر ذلك الحدث على العلائق الودية، ولا يوهن ما عرف به إخواننا التونسيون من نبل العواطف وجميل الإحساس نحو إخوانهم المصريين، وهي الحقيقة التي سأثبتها وأتحدث بها في مصر وغيرها ما دمت حياً والسلام، [توقيع] «نجيب الريحاني»».
بحثت - في الدوريات المصرية - وراء هذا البيان فاكتشف أموراً غريبة حدثت، تتلخص في أن الفرقة لم تذهب إلى ليبيا مطلقاً، وأن المتعهد «علي يوسف» سافر إلى تونس قبل الفرقة لحجز المسارح والفنادق وبيع التذاكر والاشتراكات .. إلخ، ونجح في بيع جميع تذاكر اثنتي عشرة حفلة ستقام على مسرح البلدية بتونس. ولكن مدير المسرح حجز الأموال كلها حتى يضمن وصول الفرقة بالفعل إلى تونس. وجاء موعد التمثيل ولم تحضر الفرقة، التي تأخرت بسبب حجز السفينة في أحد الموانئ بسبب وجود بعض الركاب مصابين بالطاعون! وعندما حضرت الفرقة إلى تونس وجدت أصحاب الديون منتظرين الريحاني لاستلام أموال الحفلات الأربع التي ضاعت بسبب تأخرهم!! وللأسف الشديد قامت الفرقة بتمثيل الليالي الثمانية المتبقية، ولم تنجح في سد كافة الديون المتراكمة بسبب الحفلات الأربع الضائعة! وتم الاتفاق بين الريحاني وبين الدائنين على أنه سيسافر إلى بقية المدن في تونس والجزائر ومراكش، ثم يعود إلى تونس لدفع الأموال أو لإقامة حفلات أخرى بدلاً من الحفلات الضائعة! وما كادت الأمور تستقر، حتى وجد الريحاني ورطة أخرى تتمثل في أن المتعهد «علي يوسف» وعد بعض الجمعيات التونسية بإقامة حفلات خيرية لحسابهم مجاناً! فرفض الريحاني هذا الوعد، لأنه من غير المعقول أن يمثل عروضاً مجانية، وفي الوقت نفسه يطالبه الدائنون بأموالهم!! وهذا كان سبب بيان الريحاني السابق.
لم تتوقف الأزمات عند هذا الحد، فقد تركت «بديعة مصابني» الفرقة وسافرت إلى مصر!! والأدهى من ذلك أن بعض أفراد الفرقة رفضوا السفر مع الريحاني إلى الجزائر وبقوا في تونس، ومنهم المتعهد «علي يوسف»، و«محمد كمال المصري» الشهير بشرفنطح، وألفريد حداد، وسيد بهنس، وعيد مرعي، وإستيلا مراد، وحكمت فهمي، وشقيقتها فتحية فهمي. وزادت الأمور سوءاً عندما اكتشفت «حكمت فهمي» أن أغراضها وملابسها تمّ شحنها مع بقية الأغراض إلى الجزائر، فذهبت إلى البوليس تشكو الريحاني لولا تدخل «البشير المتهني» الذي عالج الموقف! 
أما أعضاء الفرقة الذين بقوا في تونس، فقد اشتركوا مع فنانين تونسيين، أمثال: الآنسة بية الصغيرة، والأستاذ الشيخ إبراهيم الأكودي، والأستاذ حسن الزهاني، ومحمد الشاوش، ونور الدين، ومحمد قنوني، وحسن بن عبد العظيم، وكونوا جميعاً فرقة موزيكهول تونسية مصرية، عملت في صالة أطلقوا عليها اسم «نزهة النفوس الجديدة»، وافتتحت عملها بمسرحية «فلحس ودينه».
جزء من الحقيقة
وعاد الريحاني إلى تونس بعد أن عرض في مدن أخرى، كي يفي بوعده ويسدد ديناً لم يكن سبباً فيه، فأشارت إلى ذلك مجلة «الكواكب» في فبراير 1933، قائلة: «ما تزال فرقة الريحاني تحيي حفلاتها بتونس، وقد أبلغنا مراسل فاضل هناك أنها استطاعت أن تزيل ما في نفوس إخواننا التونسيين من التأثر الذي نشأ عن الخلاف بين الفرقة وبين جماعة أحباء الطلبة، وأن الفضل في إزالة ذلك الخلاف يعود إلى توسط أحد كبار الصحفيين التونسيين الذين لهم بمصر صلات وثيقة».
وفي مارس عادت أفراد الفرقة المنفصلين عن الريحاني إلى مصر – قبل أن يعود إليها الريحاني نفسه - ومنهم «حكمت فهمي»، التي نشرت في مجلة «الكواكب» رأيها فيما حدث، تحت عنوان «حول رحلة فرقة الريحاني في تونس .. أسباب الشقاق الذي وقع بين أفرادها»، حيث قالت المجلة: سافرت إلى بلاد المغرب فرقة الأستاذ نجيب الريحاني فشيعناها بالتشجيع اللازم ورجونا لها سلامة العودة محفوفة برضاء أهالي تلك البلاد الشقيقة، إلا إنها ما كادت تضع أقدامها هناك حتى ترامت الأنباء بعكس ما كنا نتمنى وزاد الطين بلة وقوع الشقاق بين أفرادها وانقسامهم شيعاً وأحزاباً. ورأينا إزاء ذلك أن نحتفظ برأينا حتى يعود الجميع إلى بلادهم ونسمع حجة كل منهم كي تعرض على محكمة الرأي العام لتصدر حكمها العادل على كل من تجرأ على إهدار كرامة بلاده. وها قد عاد الآن فريق ممن تألف منهم جوق الريحاني وهم علي يوسف وسيد بهنس ومحمد كمال المصري والفريد حداد وحكمت فهمي وشقيقتها فتحية وإستيلا. والآن نأتي على أقوال صرحت بها حكمت عقب وصولها قائلة: «إننا حين وصلنا إلى تونس أحيينا بضع حفلات نجحت تمام النجاح وقوبلنا من إخواننا التونسيين الأماجد أجلّ مقابلة. فقد أكرموا وفادتنا وأحسنوا ضيافتنا وأقبلوا على حفلاتنا إقبالاً دعا إدارة الفرقة إلى تقرير العودة إلى تونس مرة ثانية بعد إحياء بضع حفلات في مدن أخرى. ولكن انظر إلى سوء التصرف الذي وقعت فيه إدارتنا المختلة! هناك جماعة محترمة للطلبة رغبت في أن تقوم الفرقة بإحياء حفلة يخصص ريعها لصندوق الجماعة، وكان أول واجبات المجاملة يدعو الفرقة إلى التبرع بالحفلة نظراً للأغراض الشريفة التي تكونت لخدمتها الجمعية المذكورة. ولكن الأستاذ الريحاني أبى أن يستمع للنصح وصمم على ألا تقام الحفلة ما لم يدفع لها أجر معلوم. ولما روجع في ذلك نسب إلى الممثلين وزر الإحجام عن التمثيل. واستاءت الجمعية لذلك فقام خطباء من بين أعضائها يشرحون للشعب وجهة نظرهم ويدعونه إلى مقاطعة هذه الفرقة التي لم تراع شيئاً من اللياقة في رفضها، وأثمرت هذه الدعاية ضد الفرقة وأسقط في أيدي إدارتها. وحمل ذلك شطراً منها على طلب العودة إلى مصر، وخصوصاً أن الممثلين لم يحصلوا على مرتباتهم، الأمر الذي أثار في النفوس غضباً لم تحتمله. وكنت أنا بين من طلبوا الرحيل ولم يقبل الأستاذ أن يسمح لي بذلك، وقرر مغادرة تونس في صباح الغد إلى مدينة أخرى. وما كان أشد دهشتي حين ذهبت إلى «الأوتيل» وعلمت أن حقائبي شحنت مع أمتعة الفرقة، نعم إنني لم أجد سبيلاً غير إبلاغ الموضوع لأولي الأمر هناك وتمكنت بعد ذلك من استرداد متاعي، وتركنا الأستاذ نجيب دون أن يعطينا من حقوقنا قليلاً ولا كثيراً. أعود بك إلى جمعية الطلبة فأقول إنها حين رأت إصرار الفرقة على رفض إحياء الحفلة جمعت في الحال أفراداً من مواطنيها فقاموا بأداء ما احتاجته الحفلة وتم لهم الأمر كما أرادوا. فلما وجدنا أنفسنا في عزلة عن الفرقة اجتمعنا وبعض التونسيين وألفنا فرقة مستقلة عملت هناك بضع حفلات نجحت فيها نجاحاً كبيراً. وكان أن وفد إلى تونس أمير الكمان «الأستاذ سامي شوا» فاتفق مع علي أفندي يوسف وسيد أفندي بهنس على الاشتراك في إحياء ست حفلات في طرابلس وصفاقس، وسوسة، وقمنا جميعاً بالعمل فنجحنا والحمد لله في حفلاتنا هذه النجاح الذي كنا نريده، وها نحن عدنا إلى وطننا بعد أن جاهدنا في سبيل هذه العودة جهاداً أضنانا وأتعبنا، وكنا في غنى عنه لو أن الأمور سارت في مجراها الطبيعي ولم يعتورها سوء التصرف الذي أشرت إليه».


سيد علي إسماعيل