«النقـــطة العميـــــاء» الكــــذب لــدرجـــة الصـــدق

«النقـــطة العميـــــاء»  الكــــذب لــدرجـــة الصـــدق

العدد 857 صدر بتاريخ 29يناير2024

«يكدب الكدبة ويصدقها» تلك الجملة تعد من الأقوال الشعبية المأثورة التى يتداولها المصريون عن الكذب، ولكنه ليس كأي نوع من الكذب بل هو أخطر أنواعه وأشده فتكا بصاحبه حيث أنه يقوده حتما ولا بد إلى الهلاك، فتلك المقولة ترجع قصتها إلى أنه كان هناك رجل بخيل التف حوله الصبية ذات يوم في إحدى الطرقات، فاحتار كيف يتخلص منهم، فهداه تفكيره إلى كذبة بسيطة، قال لهم: «لماذا لا تذهبون لذلك البيت فإن عندهم وليمة»، وعندما انطلق الصبية مهرولين نحو الدار ليشاركوا في الوليمة، ورأى الرجل الأطفال وهم يركضون استبد به الوهم فقال في نفسه: «يبدو أن هناك وليمة فعلا»، فركض خلفهم!
لقد صدق المسكين الكذبة التي كذبها هو، وهذا مرض نفسي يعاني منه كثير من الناس، يكذب ويصدق كذبته، ويجعل لها أحداثا ويرويها للجميع، ثم ما يلبث أن يصدق روايته المزعومة، ثم يبدأ في الدفاع عنها بكل ما أوتي من قوة، ولا يعلم المسكين أنه مريض يحتاج علاجا عاجلا حتى لا يجد نفسه ذات يوم في الضياع.
 إن صاحب الكذبة هنا أو صاحب “النقطة العميا” إن صح التعبير ضميره الباطن يكون مدركا تماما أنه آثم، لكن عقله هنا هو المسيطر فيشعره دوما بأنه على صواب وبالتالي يرفض الاعتراف بالذنب، ويدخل معه في صراع داخلي لا شعوري ما بين ضميره وعقله يضع فيه لنفسه الحجج والتبريرات التي تجعله يصدق دوما كذبته، كما يوهم الآخرين بصدقه وبأنه لم يرتكب أي جرم يستحق عليه العقاب. 
ذلك هو محور ما يدور حوله فكرة العرض الفلسفى “النقطة العمياء” من إنتاج مسرح الغد بقيادة المخرج المبدع سامح مجاهد ذلك المدير القناص للنصوص الجيدة والملائمة لطبيعة مسرحه، ومن إعداد وإخراج أحمد فؤاد المخرج المتمكن من كل أدواته الإبداعية، والعرض المسرحي مأخوذ عن نص “العطل” للأديب السويسري الأشهر فريدريش دورنمات (1921-1990)، والذي يعتبر واحداً من أهم كتاب الأدب والدراما السويسرية والأوروبية في العصر الحديث الذي كتب في كل أنواع الدراما التراجيدي منها والكوميدي، كما أنه يعد من أهم المجددين في المسرح المعاصر وهو القطب الأدبي الثاني بعد ماكس فريش في سويسرا والدول الناطقة بالألمانية، ولكنه الأكثر حظاً والأوفر تقديماً على خشبات المسرح العربي، وهو الأكثر ترجمة وتحليلا لأعماله ودراساته كذلك، حصدت أعماله جوائز عديدة مرموقة في العالم عامة وأوروبا خاصة؛ منها جائزة «شيلر- مدينة مانهايم»، و«جائزة الدولة النمساوية للأدب الأوروبي»، و«جائزة جيورج بوشنر» وهي الجائزة الأدبية الأهم للأعمال باللغة الألمانية، وقد أطلق اسمه على كويكب صغير تم اكتشافه عام 2000، ومن أشهر أعماله الأدبية «زيارة السيدة العجوز»، و«علماء الطبيعة»، و«رومولوس العظيم»، و«هبط الملاك في بابل».. وغيرها من المسرحيات ذائعة الصيت، أما عن “العطل” محور موضوع النقد فهي تعد الأهم في مسيرته القصصية، حيث تقوم فكرتها حول فلسفة غياب العدالة والضمير معا حينما يعجز القانون عن تحقيق هذا العدل، في «العطْل» نرى رجل أعمال شابا تتعطل سيارته في الطريق إلى بيته، ويضطر إلى المبيت في إحدى القرى ليستضيفه رجل هرم كان يعمل قاضياً، ويتورط معه ورفاقه في لعبة المحاكمة، حتى يصل الشاب في النهاية إلى قناعة أنه قتل مديره، بعد أن خانه مع زوجته فيشنق نفسه.
عندما اختار “دورنمات” هنا أن يطلق على مسرحيته اسم “العطل” لم يكن يقصد العطل الذي تتعرض له في الطريق سيارة رجل الأعمال الذي سيتحول إلى متهم فيما بعد، عندما يستضيفه أحد القضاة المتقاعدين في منزله ومن ثم يتكشف أمره من خلال لعبة درامية، بل كان يقصد العطل الذي يصيب ضمائرنا عندما نصدق أكاذيبنا لننجو من تأنيبها أو محاكمتها، وفي ذات الوقت يرمي إلى العطل الذي يصيب العدالة حينما لا تعترف القوانين الجامدة إلا بالأدلة والأوراق المتاحة أمامها فقط حتى وإن كانت على خلاف الحقيقة والواقع.
أما فى مسرحية «النقطة العامية» المأخوذة عن النص الأجنبي «العطل»، لم يخض فؤاد مخرج العرض المسرحي والمعد له في ذات الوقت في التفاصيل الكثيرة للراوية بقدر ما ركز فقط على «لعبة المحاكمة»، وإبراز أطراف الصراع الظاهري في تلك اللعبة ما بين كل من المتهم ومحاميه أمام ممثل الادعاء والمتخصص في علم نفس الجريمة، وأحيانا الصراع ما بين رجل الأعمال المتهم ومحاميه المتقاعد نفسه الذي كان يدرك خطورة اللعبة عليه ومحاولة حمايته ضد غروره، بإصراره على أنه ليس لديه ما يجعله يخشى من دخول تلك المحاكمة العبثية، ولكن المخرج هنا وعن عمد تغافل عن إبراز الصراع النفسي للمتهم مع ضميره الغائب، وذلك من أجل تفعيل عنصر المفاجأة والإثارة لدى المتلقي باعتراف المتهم بجريمته في نهاية العرض المسرحي، بعد ضغوط نفسية خارجية يتم ممارستها عليه بذكاء وحرفية من قبل ممثل الادعاء، كما يحسب للمخرج أيضا في إعداده للنص المسرحي، حرصه على التأثير على جمهور المتلقي وتفاعلهم مع العرض وفلسفته، وذلك من خلال تمصيره بما يقترب من الشكل المجتمعي المصري وما يتمتع به المصريون من خفة ظل، حرص المخرج على إضافتها على بعض الأدوار أبرزهم دور الميكانيكى لما يتسم به من طابع شعبي صميم، إضافة أيضا إلى اختياره للغة العامية الدارجة لتكون هي لغة العرض المسرحى من أجل تبسيط الفكرة الفلسفية لدى جمهور المتلقى بما تمتلك قلوبهم وتصل إلى عقولهم دون أدنى تعقيد.
كان اختيار المخرج للممثلين بمثل هذه الدقة المتناهية هو أحد أهم عوامل نجاح العرض المسرحى، حيث أنه يدرك جيدا أن مثل تلك العروض التى تنتمى إلى مسرح الحالة هى قائمة على التمثيل فى المقام الأول دون باقى عناصر العرض، فهناك عروض شبيهة تنتمى إلى نفس المدرسة يتعمد فيها المخرجون الاستغناء عن عنصر واحد أو أكثر من عناصره، مثل أن يجعل التمثيل كله يدور في فراغ مسرحى قائم على الموتيفات البسيطة مع الاستغناء عن الديكور فى سبيل إبراز جماليات التمثيل فقط فى عمله الإبداعى، فكل مخرج وله منظور معين خاص برؤيته المسرحية  فى إخراجه لمثل تلك العروض يميزه عن غيره من المخرجين، لكنهم في النهاية يتفقون جميعا فى أولوية الاهتمام بعنصر التمثيل بمسرح الحالة قبل باقى عناصر العرض المسرحى. 
لذا جاء اختيار كل ممثل هنا فى العرض المسرحى «النقطة العمياء» مطابقا تماما لتفاصيل الدور من الناحية النفسية والشكلية للشخصية، فالعرض قائم على أربع شخصيات أساسية يدور الصراع ما بين ثلاثة منهم، ألا وهم آدم رجل الأعمال الفاسد المغرور والشهير بكازانوفا نظرا لوسامته وإعجاب النساء به ومن يقوم  بدور المتهم فى لعبة المحاكمة والذى يرمز اسمه إلى الإنسان عموما منذ بدء الخليقة، والذى قام بدوره نور محمود بتلقائيته المعروفة عنه فى التمثيل أمام الكاميرات، وبما تتطلبه من حضور وواقعية وصدق فى الأداء والانفعالات دون أدنى مبالغة، كما استطاع من خلال لغة الجسد أن يعبر عن ثقته فى نفسه وشخصيته المغرورة، وكذا الرسالة المراد منها العرض ألا وهى أن هناك نوعا من البشر يطلق الأكاذيب ومن ثم يصدقها فيما بعد مثلما يصدق آدم تماما براءته من قتل مديره بالخيانة الزوجية، دونما استخدام أى نوع من الأسلحة بل فقط من خلال استغلال مرضه المزمن فى تدميره نفسيا، وذلك بإعلام مديره المريض بخيانة زوجته معه من خلال أحد الموظفين المعروف عنهم بنقل أخبار كل ما يدور بالشركة  للمدير مما يتسبب فى صدمته ووفاته بالسكتة القلبية، وبنفس لغة الجسد أيضا عبر نور بعيونه فقط وبإتقان لافت عن قلق وتوتر شخصية  آدم فى النهاية  فيما وراء قفص الاتهام، بعدما نجح ممثل الادعاء فى تضييق الخناق عليه وكشف النقطة العمياء بداخله، ليستيقظ معها ضميره ويكشف عن جريمته وفساده بعدما رأى عيوبه أمام مرآة الحقيقة، وإدرك مدى ما ارتكبه من جرم فى حق نفسه والآخرين عندما خطط لتلك الجريمة فى عقله الباطن، ومن ثم استيلاؤه على منصب وظيفى مهم بعد وفاة مديره لتتغير حياته رأسا على عقب من الفقر إلى الثراء الفاحش غير المنطقى ولا المبرر، ليحاسب نفسه وضميره الفاسد فى النهاية بما يستحقه من عقاب، ويعد ذاك العرض المسرحى هو أول اختبار للممثل التليفزيونى نور محمود على خشبة المسرح وبحرفية عالية منه ووعى فى استيعابه للتعليمات الإخراجية نجح فيه باقتدار كما لو كان له باع طويل فى التمثيل المسرحى، فمن وجهة نظرى لم يعد هناك اليوم فرق شاسع ما بين المسرح وفنون السينما مثل ذى قبل، حيث صارت تقنيات التمثيل واحدة بينهم وبات الأمر أسهل فى احتراف المسرح لممثلى الدراما السينمائية أو التليفزيونية، وذلك مع التطور التكنولوجى. 
الكبير الذى ساد عالم المسرح، مما لم يعد هناك ما يميز المسرح عن السينما ويفرقه عنها سوى قوانين الحركة المسرحية السليمة مع  التفاعل الحى والمباشر مع الجمهور وليس من وراء الكاميرات، مما يتطلب معه جرأة فى المواجهة فقط دون أدنى اختلاف فى التمثيل، أما الشخصية الثانية فكانت للمحامى المتقاعد أيضا د. كمال والذى جسده أحمد السلكاوى، كما أنه من يلعب دور المحامى الخاص بالمتهم آدم فى لعبة المحاكمة، الذى يعنى دوما بحمايته ومحاولة استخلاص منه أى ثغرات تفيده فى تلك القضية العبثية، والتكوين الجسمانى للسلكاوى لم يكن عشوائيا بل كان له دور فى اختياره لتجسيد تلك الشخصية التى تتطلع إلى الكمال دوما، فكل شيء لديه محسوب بدقة متناهية لا مجال فيها للصدفة، منح الله السلكاوى كاريزما مسرحية شديدة للغاية لا تملك أمامها إلا أن تحب عيناك أن تركز معه باستمرار، وتلك ميزة تحمله مسئولية كبيرة لأنه سيكون الأكثر انتقادا فى حال إخفاقه، فقد كان أكثرهم جاذبية وحضورا على المسرح على الإطلاق، كما استطاع أن يسيطر على كل خيوط شخصية المحامى ليلعبها بتمكن وحرفية شديدة كما نراها دوما فى المحاكم والمرافعات، إلا أنه تحت تأثير التقمص الكامل للشخصية خرجت منه بعض الانفعالات المبالغة التى كان وجهه يكتسى معها بالاحمرار الواضح للعيان، فالتقمص وحده لا يكفى بل يجب أن يلازمه السيطرة على الانفعالات حتى تخرج مناسبة للفعل المسرحى بما يلزمه من حدة أو هدوء، فالممثل يجب أن يكون بخيلل فى انفعالاته بمعنى ألا يكون مفرطا فيها حتى يصبح متحكما فيها بالزيادة أو النقصان بنفس دقة الترمومتر، ولكن هذا لا ينفى إطلاقا أن السلكاوى كان فى قمة تألقه فى أدائه للدور على خشبة المسرح، وعلى النقيض تماما فى الجانب الآخر كان حسام فياض من جسد شخصية القاضى «حكيم» الذى يتصف بشكل عام بالحكمة والهدوء، ومن يصدر الحكم على المتهم فى النهاية فى تلك اللعبة المسرحية فجاء أداؤه هادئا على وتيرة واحدة طوال العرض المسرحى بلا أدنى انفعالات، على الرغم من إتقانه المبدع للدور وساعده فى ذلك ملامح وجهه الهادئة بالفطرة، ولكن كان عليه أن يجتهد فى تصدير بعض الانفعالات المخالفة للهدوء فى بعض التصرفات حتى وإن كانت قليلة، فحقا القضاة يتسمون دوما بالهدوء ولكن هناك لهم بعض اللحظات التى يخرجون فيها عن شعورهم وينفعلون فيها على المتهمين، وعلى الرغم أن جمهور المتلقى لم يشعر قط بتلك الجزئية التى كانت تنقص شخصية القاضى، إلا أنه كان يجب على فياض من باب أنه صاحب خبرات مسرحية كبيرة ألا تفوته مثل تلك الجزئية الخاصة بدراسة الشخصية التى يلعبها وألا يكون أداؤه نمطيا فيها، والشخصية الثالثة  والأخيرة فى ذاك التنافس والتسابق التمثيلى المحتد، كانت للدكتور عادل المتخصص فى علم نفس الجريمة والذى جسده أحمد عثمان والذى يتصف بالذكاء الحاد وانحيازه دوما للعدالة الكاملة وبحثه عنها حتى وإن كانت صعبة المنال، لما يحوط القضية من غموض وانتفاء الأدلة، كما أنه كان يقوم بدور ممثل الادعاء فى لعبة المحاكمة التى اعتادوا أن يلعبوها مع كل الضيوف التى تزور منزل صديقهم القاضى المتقاعد، حيث يبحثون دوما من خلالها عن العدالة المفقودة والخروج من إطار القوانين الجامدة واللعب على اكتشاف النقط العميا لديهم، وفى الحقيقة كان أحمد عثمان الأكثر تحكما فى انفعالاته التمثيلية ما بين الصعود والهبوط بدرجة شديدة الإبهار، وكأنه مايسترو يقود أوركسترا لانفعالات الشخصية التى يلعبها، كما أنه كان الأكثر استخداما للغة الجسد فى التعبير عن دلالات الشخصية وما تتصف به من مكر ودهاء، تمكنت معه فى النهاية من إدانة المتهم الذى يماثله فى نفس الذكاء بل وينتصر عليه بانتزاع اعتراف منه بالقتل الضمنى والمعنوى المتعمد والمخطط له مسبقا بالرغم من صعوبة وغموض القضية، ولكنه كما أخبرنا مسبقا لعب على كشف واستخراج النقطة العميا لدى المتهم، وبالتالى استحق عثمان هنا أن يطلق عليه جمهور المتلقى وهو يهم بالانصراف من صالة العرض بعد نهاية المسرحية  «غول تمثيل».
وفى وسط هذا التنافس التمثيلى المشرف والمبهر كان هناك شخصيات أدت أدوارا صغيرة بمثابة ضيوف الشرف للعرض ولكنها تركت بصمات كبيرة عليه لا تنسى، ألا وهى شخصية مديرة منزل القاضى المتقاعد والتى جسدتها هايدى بركات، تلك الشخصية التى أراد المخرج من خلالها أن يرمز إلى ضمير رجل الأعمال المتهم، والتى أرى من وجهة نظرى النقدية أن المخرج اختار أن يتجسد ذلك الضمير فى صورة امرأة وليس رجلا كناية عن زوجة المدير الخائنة التى تسببت فى مقتل زوجها المدير بشكل غير مباشر، وتلك الخيانة الزوجية هى الضمير الغائب الذى يطارد المتهم دوما ويحاول الهرب منه من خلال تصديق تبريراته الكاذبة، 
كما ترمز أيضا تلك الشخصية إلى كل ضحاياه من الفتيات التى لعب بمشاعرهن وقلوبهن مستغلا وسامته وعذوبة لسانه، ووضح ذاك التفسير فى كل مشاهد محاولات المتهم بإقامة علاقة مع تلك الفتاة وبالتالى كانت هنا لما ترسمه تلك الشخصية من لوحات تشكيلية  تتصف بالرعب والوحشية، دلالة على ما ارتكبه الجانى فى حقها من انكسارات داخلية وتدمير ذاتى لأحلامها، وقد وضح على هايدى من خلال أدائها لتلك الشخصية مدى ما بذلته من جهد ودراسة للإدراك بكل بواطن الشخصية ودلالالتها وما تحمله من غل وتركيبات نفسية معقدة،  فجاء أداؤها لها بمنتهى العبقرية التى تحسب لها.
وأخيرا جاءت شخصية الميكانيكى الذى قام بأدائها عمر صلاح الدين والذى يقوم بإرشاد المتهم إلى المنزل الذى يستضيفه بعد تعطل سيارته فى منطقة نائية، وعمد المخرج أن يجعل من تلك الشخصية متنفسا للجمهور قبل بداية الملحمة التمثيلية الدسمة للأربع شخصيات الرئيسية للمسرحية، فكتب لها كوميديا موقف راقية استطاع صلاح الدين أن يكون جديرا بها نتيجة لما يتسم به من خفة ظل، ونجاحه فى انتزاع ضحكات الجمهور ليتهيأ بعدها لاستقبال الدراما الفلسفية بتركيز وتشويق، نتيجة لبراعة الاستهلال الموفقة فى افتتاحية المسرحية، فقط كنت أفضل أن يقوم المخرج بإسناد شخصية المدير لممثل آخر جديد غير عمر صلاح الدين، والتى قام بتجسيدها رمزيا فقط على الشاشة السينمائية، حتى لا يصاب جمهور المتلقى هنا بالتشويش ما بين شخصيتى المدير والميكانيكى، حيث ليس هناك أى مبرر درامى أو منطقى أو فلسفى لقيام ممثل واحد بتلك الشخصيتين اللتين لا تربطهما أى علاقة درامية أو شرطية.
كانت هناك دلالات أيضا من المخرج المعد فى اختياره لأسماء شخصيات المسرحية، فكل شخصية يرمز اسمها إلى صفاتها كما رأينا من خلال سرد تاريخ كل منهم . 
الديكور لأحمد أمين عبارة عن تصميم  لفيلا تقليدية ذات سلالم داخلية تؤدى إلى غرف علوية كل غرفة منها ترمز لدلالة معينة بالمسرحية، وثلاث بانوهات متصاعدة بمحاذاة السلم استخدمت كشاشة عرض سينمائية لتخدم الرؤية الإخراجية  فى مشهد الفلاش باك واعتراف المتهم، وقد جاء التصميم حقيقة مناسبا لفكر المخرج الإبداعى، مما يستدل منه أن مصمم الديكور استمع جيدا إلى رؤية فؤاد الإخراجية أولا وليس العكس، ولكن هناك بعض الموتيفات استخدمت كدلالات رمزية غاية فى الأهمية والتى أضافها المصمم بذكاء على الديكور مما دعم بها  فلسفة العرض، مثل لوحة الغراب أسفل السلم حيث أن الغراب هنا يرمز تاريخيا إلى أول جريمة فى البشرية دلالة على طبيعة الإنسان الدموية، كما رأينا أيضا بنفس المكان ساعة حائط على هيئة حصان دلالة على فراسة ممثل الادعاء وسرعته فى كشف الجريمة، إضافة إلى اللوحات التشكيلية لمديرة المنزل التى ترمز إلى وحشية المتهم مع ضحاياه من الفتيات وفساده بشكل عام، أما الأزياء لنور سمير فقد اتسمت بالطابع الكلاسيكى القديم من أجل جذب الانتباه والمساعدة على التركيز، مع الحرص على اختيار الألوان الهادئة التى تعبر ببراعة عن فلسفة النص والحكمة والدهاء الذى يتصف به جميع شخصيات العرض الرئيسية، مع تخصيص اللون الأسود فقط لملابس المتهم دلالة على الأناقة التى تخفى من ورائها أمراضا نفسية، كانت الإضاءة لأبو بكر الشريف مكملا لإبراز جماليات الديكور والأزياء وواحدة من العناصر التى أسهمت فى نجاح العرض المسرحى، بما أضافه من رموز ودلالات عميقة من خلال الضوء والألوان فى مشاهد عديدة مؤثرة سواء كانت مسرحية أو سينمائية، برزت أهمها حينما صمم الشريف شبكة عنكبوتية حمراء على الجدارن بإضاءته المعبرة، دلالة على المصيدة التى كان ينصبها المتهم دوما للإيقاع بضحاياه بما يضمر لهم من شرور، كما رأينا نفس الشبكة أيضا خلف المتهم وهو وراء قفص الاتهام الوهمى كما نرى ببعض الأفلام السينمائية، دلالة على الضغوط والخناق الذى حاوط به ممثل الادعاء المتهم فلم يجد أمامها أى خلاص سوى الاعتراف بجريمته، واكتملت الرهبة والغموض التى تحاوط كل عناصر العرض المسرحى بالموسيقى المحفزة للتركيز والتأمل، والتى قام بتلحينها المتألق محمود أبو زيد بحيث تنفذ إلى أوصال المتلقى بشكل لاشعورى مما تساعده على الانتباه والتركيز مع التمثيل فى كل لحظات السكون أو الحوار، استطاع أحمد فؤاد أن يقدم نقطة مضيئة ومبصرة  للمسرح المصرى، بكل أدواته الإبداعية كمخرج متفرد له شخصيته. 
المستقلة إخراجيا ومدرسته القائمة على مستويات الإدراك المتعددة والدلالات الثرية، من خلال إخراج محكم الإيقاع ومنضبط حركيا وفكريا، وإعداد جيد لمحاكمة خيالية داخل النفس البشرية يسودها الصراع ما بين الضمير والعقل، يتوجه بعدها المتهم من تلقاء نفسه إلى حبل المشنقة حيث تنفيذ العقاب فى مشهد بديع  للعدالة المقدسة، ودلالة رمزية قوية  لضرورة محاسبة ذواتنا قبل محاسبة الآخرين لها، مع دعوة لكل متلقى لكشف النقطة العميا بداخله من أجل التطهير وإبصار الحقيقة. 


أشرف فؤاد