العدد 723 صدر بتاريخ 5يوليو2021
بدأت رحلة الكاتب المسرحي (علي سالم) 1936 - 2015 مع الإبداع المسرحي منذ بداية الستينيات بمسرحية أعدها عن نص أجنبي بعنوان «حدث في عزبة الورد» 1960، وبعدها لم يتوقف عن (الإعداد المسرحي) للنصوص الكوميدية فقدم «طبيخ الملايكة» 1968، «مدرسة المشاغبين» 1967، «عالم كداب كداب» 1972، ومن قبلها «حب لا ينتهي» 1969، العيال الطيبين 1972، «روعة الحب» 1972، في عروض تجارية.. لكنة في نفس الوقت كتب للمسرح أعمالا إبداعية بدأها بـ«الناس اللي في السما الثامنة» 1965، وفي نفس العام «ولا العفاريت الزرق» 1965، أنت اللي قتلت الوحش - أو كوميديا أديب» 1970، «عفاريت مصر الجديدة»1971، «الملوك يدخلون القرية» 1971، «عملية نوح» 1974، «بكالوريوس في حكم الشعوب» 1975، «الكلاب وصلت المطار»،1985، «خشب الورد» 1986، «سهرة مع الضحك» 1983، «البترول طلع في بيتنا» 1991، وبعدها كف عن الكتابة للمسرح، عندما قام بزيارته المشؤومة إلي الكيان الصهيوني عام 1996 بعد رحلة السادات إلي إسرائيل في 17 نوفمبر عام 1977 ثم حصل على منحة علمية في بعثة إلي أمريكيا، وبعدها لم يقدم للمسرح حتى عام وفاته (2015) على مدى تسعة عشر عاما من زيارته للكيان الصهيوني، وكان قد قدم كتابا بعنوان «رحلة إلي إسرائيل» عام 1996 ومنحته جامعة بن جوريون الدكتوارة الفخرية.
ولنتساءل الآن – (ما الذي يجعلنا نتذكر (علي سالم) الآن – بعد أن زادت موجة التطبيع وارتفعت بين البلاد العربية والكيان الصهيوني، وبعد أن حكم علي نفسه بالانتحار بذهابه إلي الكيان الصهيوني بعد وفاته الآن بست سنوات وطواه النسيان؟ ليكون أول كاتبا فرد شهد تأسيس أول اتحاد للكتاب في مصر - الذي ما زالوا علي إيمانهم برفض وإدانة التطبيع مع هذا الكيان الإجرامي الذي ما زال يحتل وطننا فلسطين، ولكي لا نكون مثل بالغزالة التي تدفن رأسها فندفن علي سألم وكأنه لم يكن يعيش بيننا وقدم أعمالا أدبية ساهمت في الحركة الثقافية في مصر!! رغم سقطته أو خيانته للضمير الأدبي!!، ومن منطلق رفض هذه الزيارة المشؤومة فإن الواجب يحملنا مسئولية الحفاظ علي ذاكرتنا وهي الأهم لكي لا ننسي .. فأمة بلا ذاكرة لا مستقبل لها فهل لدينا الشجاعة لموجهة تاريخنا بما فيه من سلبيات لا نخجل منها وإيجابيات نفخر بها لكي لا نكون أمه بلا وعي أو ذاكرة!! بما لا يعرضنا للمهاترات والانقسامات .. لان علي سالم ارتكب جريمة لا تغتفر مهما كابد أو وادعي؟ .. فليس عيبا أن نذكر الخيانات التي ارتكبها البعض كما نذكر من شرفوا هذه الأمة بما حققوه من إنجازات نفخر بها.
وعندما نستعرض أعماله الإبداعية نلمح لجوءه إلي (الفانتازيا) في أغلب أعمالة ليكشف الواقع الذي عاشه الكاتب حيث كان الاعتماد على (الفانتازيا) لغزو الواقع المصري في تلك الفترة - مُكرسا أعمالة لقضايا الحرية والديمقراطية، وما يقابلهما من نزعات التسلط والاستبداد لدي الإنسان، وكذا قضية الإمراض الاجتماعية والأخلاقية، والإقطاع البيروقراطي، وتشخيص عيوبه بكافة أشكاله، ومحنة الإبداع الفردي، وكذلك إبراز التقسيم الطبقي الجديد في المجتمع المصري وعلاقته بالإنتاج والإبداع على مدى مسرحياته السبعة عشر منها (7) (مسرحيات ذات فصل واحد) وهي «بير الفتح» 1968، «البوفية» 1968، «أغنية علي الممر» 1968 و»الملاحظ والمهندس» 1967، «شهر العسل المر» 1967، «الكاتب والشحات» 1979، «المتفائل» 1980.
ومن خلال قراءة أولية لنصوصه وقف (علي سالم ) من (أبطال) مسرحياته موقفا متخاذلا وهم: (ميدو) بمسرحية «الناس اللي في السما التامنة»، و(عطية مبروك) في «ولا العفاريت الزرق»، و(بهجت) في «الراجل اللي ضحك على الملايكة»، و(عم حسين) في «بير القمح»، و(أوديب) في «كوميديا أوديب»، و(إبراهيم) في «عفاريت مصري الجديدة»، و(عزت الأمير) في «الملوك يدخلون القرية»، و(نوح) في «عملية نوح»، و(عصمت) في «أولادنا في لندن»، و(طارق) في «بكالوريوس في حكم الشعوب»، إذ صورهم المؤلف بصورة باهتة ولم يبرز ملامحهم بشكل قوي ومتكامل، واثر ذلك على نموهم الدرامي كأبطال للنصوص، وكشف أعماق شخصياتهم، ولم يتح لهم عرض قضاياهم بشكل تفصيلي - مما جعلهم في كثير من الأحيان نقطة الضعف في العمل المسرحي، ولم يراعي أنهم جميعا أبطال محبطون ومقهورون، وهو في نفس الوقت قد عمد إلي إتاحة الظروف الملائمة (لإبطال الضد) الذين بدوا (أكثر فعالية)، وكفل لهم ظروف النمو الدرامي الطبيعي - بحيث تنضج وتتطور بشكل جلي- مما أتاح لها اكتساح هذه الشخصيات وقهرها.
تنبع الكوميديا في مسرح (علي سالم) من روح الفكاهة والسخرية التي يتمتع بها، ومن حذقة في استخدام الحوار الذكي واصطياد القفشة، وهو ينطلق من موقف فانتازى مُفترض يتبعه بالتالى عدة مواقف قائمة على الموقف الخيالى الذى ينطلق منه.. حتي يصل بالمسرحية إلي نهايتها، ويعتمد «علي سالم» في فانتازياته على الموضوعات الشعبية والتصوير الكاريكاتورى والتعليقات اللاذعة والحية التى تتابع أحانا الأحداث اليومية، وأحيانا أخرى على الخيال العلمي وقد استفاد كثيرا من رصيد الكوميديا المصرية وخاصة (الريحاني) وان لم يسقط ضحية لموضوعاتها المستهلكة، فهو قد استطاع «التعبير عن قضايانا الاجتماعية المعاصرة بمزيج من الخيال الخصب والروح التعليمية غير المتعالية كما أشار (أمير اسكندر) إلي أعماله وكما الناقد الكبير .. وكما يرى الناقد الكبير فؤاد دواره في (حواره ذكاء وشاعريه، تصل إلي مستوى الغنائية فى مواضع غير قليلة بحيث تصلح مسرحياته لكى تُعاد صياغتها في شكل أوبريت.. واستفاد (علي سالم) كمخرج عرائس فكتب كل أعماله المسرحية وكأنه يكتبها لمسرح العرائس فمصير أبطاله معلق بخيال يتلاعب بها كيفما يشاء، وهذه السرعة في الإيقاع والحركة والرسم الكاريكاتيرى وأحيانا الحيل الساذجة فى تطوير أحداث العمل الدرامي مثل ضربة على الرأس تتسبب في انتقال (المهلب) إلى عالم آخر في مسرحية «الراجل اللي ضحك علي الملايكة» 1996 أو «الصعود بصاروخ إلى عالم، الناس اللى في السما الثامنة» 1964، أو ذلك الجرسون الذي يبحث عن (قَمَاشات) القدماء المصريين في الصحراء، فى «بير القمح» 1968، أو ظاهرة اختفاء الناس عند إطفاء النور في «عفاريت مصر الجديدة» 1972، أو التصدى لذلك الوحش الخرافي الذى يهدد طيبه في «كوميديا أوديب» 1970، أو ذلك البروفسير المجنون الذي يبحث عن البترول في الصحراء الغربية (بواسطة جهاز يشبه الكلب هول) يشم البترول تحت الأرض في «الملوك يدخلون القرية» 1971، أو خطة نوح لإنقاذ مصر بواسطة ثلاث سفن في عرض البحر ترسل إنذارها بعد الطوفان لإنقاذ أفضل العناصر في مصر للبحث بعد دلتا جديدة فى مسرحية «عملية نوح» 1974، أو تلك الدولة التي يحكمها طلية السنة الأولى في مدرسة عسكرية وأقنعة الاستعمار الجديدة العديدة المبتكرة.. وهو أيضا في مسرحيات الفصل الواحد يقدم لنا درامات صامته في قضاياها أكثر تجريدا وذهنية «فالمتفائل» يحدث نفسه طوال الوقت إلى أن يموت، و«المهندس» يصل إلى موقف التخشب والجمود ويصبح دمية مضحكة مبكية فى «الملاحظ والمهندس» والكاتب الذي يصبح أراجوز أقنعة في «الكاتب والشحات، والبوفيه» أما «أغنية علي الممر» بتعدد شخصياتها وواقعيتهم القادرة علي الإقناع جعلتها دون سائر فانتازياته تقف وحيدة مع مسرحية «أولادنا في لندن» والتي حاول فيها المؤلف أن يحفر فى حجر الواقع والتشكيل فيه بكل ما يملك من أدوات .. وفى تصورى انه لم يوفق كثيرا في أغنية على الممر التي بدت كمسرحية مناسبات حتي أن المؤلف نفسه اعتبرها خطابا شخصيا منه إلى شهداء حرب 1967، وفي مسرحية أولادنا فى لندن التي سماها المؤلف (تراجيديا بلا دموع) فهى عمل ممزق الأوصال عبارة عن ريبورتاجات مع نماذج من المصريين الباحثين عن عمل في لندن انزلق فيها أحيانا إلي شكل (الفارس) بلا ملامح من مسرحيته المُعدة «مدرسة المشاغبين» - والتي تبتعد عن خط المؤلف الفكرى .. كذلك نجد شخصياتها بلا ملامح بما فيهم أبطالها ( عصمت وسعيد وأمال وماجدة).
وقد نجح على سالم في بداية حياته المسرحية المبشرة فى أن يتخذ أسلوبا يجمع بين مرارة الواقع وشطحات الفانتازيا وكاريكاتير (الفارس)، وان يكون مسرحة كما يقول الناقد الكبير فؤاد دواره (مسرحا فكاهيا يستخدم الخيال والخرافة والفانتازيا والكاريكاتير دون أن ينفصل عن الواقع، بل كوسائل فنية لنقد هذا الواقع نقدا لاذعا مريرا فماذا صنع علي سالم بوسائل التقنية تلك؟ وان كان لي أن أضيف أسلوب العبث في بعض أعمالة)، وقد تنبأ الناقد محمد بركات (مجلة الإذاعة في 29 نوفمبر 1966) وكان أكثر النقاد وعيا بمسرح علي سالم – فخاطب المؤلف قائلا (كتبت حتى الآن ثلاث مسرحيات اتخذت من الفانتازيا إطارا لها.. إذ تعتبر هذه المسرحيات الثلاث مرحلة انتهت على طريقك الطويل ليبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة - إذا أرادت أن يكون أكثر تأثيرا- لأن الفانتازيا بطبيعتها لا تستطيع أن تقوم بأكثر من السخرية من الأوضاع ولكنها تقف عاجزة تماما عن القدرة بضرورة إصلاحها أو تغيرها؟ ويري أن هذا النتاج الفني يكفي هذه المرحلة . فإذا أراد (علي سالم) أن يكون مجرد مصور لطبقة مسيئة فليستمر، أو ساخرا من وضع منحرف فليستمر - أما إذا أراد أن يصبح محركا لقضية ومغيرا لوضع فليبدأ مرحلة جديدة بمسرحيته القادمة «بير القمح»، ويطالبه (بأن عليه أن يجد له رؤساء إذا أراد أن يبقي وإلا انتهي فنه بانتهاء الظواهر التي يعبر عنها، ولأصبح كاتب (ريبرتاجات ) مسرحية.. إذا صح التعبير) .
ولكن الذى حدث بعد ذلك أن (علي سالم) استمر على إخلاصه وولائه لهذا الشكل، ويدا أنه لن يستطيع الخروج من الفانتازيا، فقد أصبح متجهه الفكرى يسير باستمرار فى هذا الاتجاه، بل انه في تصورى يحول – أليا- كل فكرة إبداع تلح عليه إلى هذا الشكل الذى يستهويه .. بل أبالغ وأقول انه أصبح أسيرا له، ولم يلق بالا لتحذير (محمد بركات) لكن المحه بات يتخفف من هذا الشكل، وبدا ذلك بوضوح في مسرحيتي «الملاحظ والمهندس» و»المتفائل» وبدا وكأنه يتخلى عن الفانتازيا الخالصة ليحفر في الواقع أكثر وان كان من الصعب عليه أن يتخلى عنها مره واحدة، ولكن هل وقع (علي سالم) فيما كان يخاف عليه منه (محمد بركات) وهو مجرد السخرية من الأوضاع والعجز عن إصلاحها وتغييرها، وأن عليه إذا أراد أن يكون محركا لقضية ومغيرا لوضع يبدأ مرحلة جديدة وان يجد له رؤيا وإلا انتهي فنه بانتهاء الظواهر التي يعبر عنها .
بالتأكيد لم يحدث ذلك حتي ذلك الوقت (1976) نظرا للتواصل الفكرى الذي يربط مسرحياته وهو مازال إلى الآن كما يقول الناقد (عادل الدهيبي) (ينزل إلى الساحة في جو مليء بالخرائب والإنقاض يحمل شعلة الضوء الوحيدة التي قد تقتحم جفون من قام تجذب من يوارى.. ).. إذ ما زلنا نضحك مع (علي سالم) في مرارة .. وكذلك نفكر .. كم سخرنا معه من رجال قصر إمبراطور «الناس اللى فى السما الثامنة» وضيق أفقهم، ومن الفساد المتفشي في حياتنا الفنية حيث تسيطر العلاقات الشخصية وتبادل المصالح والصفقات علي كيان أجهزة الإنتاج الفني وأدواته بصورة تخنق كل موهبة أصيلة فقد أمامه كل المنافذ فى «أولاد العفاريت الزرق»، وكرر معالجة هذه المشكلة بصور أخرى في شخصية (حمدى) مدرس الموسيقي في مسرحية «أغنية على الممر» الذى يؤلف ألحانا لا يسمعها أحد وكذلك في حرمان (عم حسين) فى «بير القمح» وكذلك ضحكنا من (المهلب) و«الهباش» لصوص المال العام في «الراجل اللي ضحك على الملايكه» وأمثالهما فى «كوميديا أوديب»، وبـ«بكالوريوس» ومن النظم القهرية التى تدمر وتفسد تماما الطاقات المبدعة، والثراء الروحى في «البوفيه» و«المتفائل» مثلا. ومن منطق (أوالح) فى «كوميديا أوديب» القائم على القهر لحفظ النظام، ومن أحلام (عزت الأمير) و«البروفسير عبده فى الثراء الكاذب، وتزداد مرارة الضحك إلي جو البكاء في ظاهرة الاختفاء وانعدام الامان في «عفاريت مصر الجديدة»، وجو الكارثة والغرق في «عملية نوح»، ومن انتحار الشحات فى «الكاتب والشحات» وفيه وصلت إليه حال دول العالم الثالث من فقدان الوعي بالمخاطر التي تهددها، ومن المهندس المتخشب الذى يصبح مجرد دمية أو أراجوز .. ونبكي بكاء مرا علي المفكر المتفائل المسكين الذى يموت بلا سبب.
وقد حدث في فبراير 1970 أن عرضت كوميدياه العبثية المميزة «كوميديا أوديب»، وكانت حدثا فنيا وسياسيا كبيرا لأنها المرة الأولي في ظل حكم عبد الناصر تهاجم القمع والكبت ومصادرة الحريات وحتي يشير عرضها دفاع المؤلف عن (أوديب) الحاكم (المدان) لكنه لم يفعل في النص المنشور، وخيرا فعل لانه لو كان قد فعل لهدم عمله الفني من أساسه ولخان فكرة ورؤاه واتهمناه بالمشاركة في تضليل الجماهير، وكان قد كتب قبلها مسرحية «عفاريت مصر الجديدة» التي صادرتها الرقابة ومنعت عرضها، والتي كانت تمهيدا جيدا «لكوميديا أوديب» فهي تسير في نفس الخط الفكري بشكل جديد وطريف وتدخل في دائرة عبثية «البوفيه» و«المتفائل» ثم تخطي العبثية تتناول قضايا أكثر واقعية والتصاقا في (بكالوريوس) .. وفي «الملاحظ والمهندس» ورأي الدكتور (على الراعي) أن (علي سالم) منذ «كوميديا أوديب» بدأ يهتم بدور الفرد في التاريخ لأنه مهما كانت قدراته - غير قادر علي إنقاذ الشعوب في عصر الشعوب.. بل وحتي على إنقاذ نفسه.. بمفردة.. لان البطل لا يمكن أن يقوم إلا إذا نبع من أمة .. وكانت هذه الأمة ذاتها تتمتع بالبطولة، وهو لا يصدق أن (علي سالم) لم يقصد أن يستخرج الضحك من الأفواه كما قال (تيريزياس) في نهاية «كوميديا أوديب» لأنه استخدم كل ما تعلمه في حياته المسرحية من أجل ذلك، وهو ممارسته العقلية لفن المسرح علي الخشبة واستخدامه للتقدم التكنيكي الذي حققته التجارب المسرحية المعاصرة خاصة في تشيكوسلوفاكيا من اجل بث حركة سريعة نابضة في أرجاء المسرحية، واستخدامه للمشاهد السريعة المتلاحقة، وأسلوب المفارقة الكاريكاتيرية بين الماضي والحاضر .. بالإضافة إلى قدراته وهي (الوعي المعاصر والقدرة علي التجرد والجرأة في علاج المقدسات الفنية والتاريخية إذ لزم الأمر) لكنه يقرر في مقدمة مسرحيته «الملوك يدخلون القرية» أن المسرحية ليست مأساة إنسان ومأساة مجتمع .. والمؤلف عندما يمرح يمنع عن نفسه ضرورة البكاء.. كذلك سمي مسرحيته «كوميديا أوديب» المسرحية الفكرية بلا دموع، ويري انه لو نجحت هذه المسرحيات في الوصول إلى الناس علي حقيقتها – (كوميديا جادة مرة المذاق) يكون (علي سالم) قد نقل الكوميديا المصرية نقلة أخري في الاتجاه الذي ارئتاه نجيب الريحاني ).
ظاهرة أخري تميز مسرح (علي سالم) هي أن (أبطال الضد) أو (البطل الشرير) أو (الخصم) يبدو اكثر فعالية وحركة ويطمس ملامح بطل المسرحية فيبدو باهتا وضامرا وغير متكامل وهذا يبدو في قوة تأثير رجال البلاط في «الناس اللي في السما الثامنة»، وشخصية (عبد الرحمن المهلب) في «الراجل اللي ضحك على الملايكة» الذي يكتسح كل شيء امامة حتى الملايكة .. أما عن «عفاريت مصر الجديدة» فالبطل الضد هناك نوع طريف من الأبطال.. بطل لا يظهر أبدا على خشبة المسرح ويؤثر في جميع الأحداث، وتنعكس أفعالة على جميع الشخصيات لا يظهر أبدا.. لكنه مؤثر في نفس الوقت وما يحدث علي المسرح ليس إلا ردود أفعال لما يقوم به وهم رجال المجلس الشعبي، وكاتب «الكاتب والشحات» الذي يزداد غني بينما يذهب الآخرون إلى السجون، والمسرحية في اعتقادي معايشة عسيرة يجربها الكاتب مع نفسة ومع الأخرين، وأظنه قد وفق في صنع كوميديا سوداء بل مأساة متميزة تتسم بهذا اللون العبثي الرمادي البارد والمؤثر في نفس الوقت .. والبطل الضد هو أيضا الاستعمار الجديد الذي يتمثل في شخصية عدنان البندقي تاجر السلاح وممثل الاحتكارات الأجنبية، وهو أيضا خبير الإنسان الآلي المتخصص في الجاسوسية والحروب النفسية، وهو جورج الخادم والعميل ذو الوجهين، وكذلك رفاق (طارق الريس) الفاسدين الذين يشبهون (أوالح) وهم اونح وحور محب وجوكستا أما البطل الضد في «المتفائل» فيبدو أكثر بشاعة وهولا فالسكرتيرة الخرساء والمكتب الخاوي سوي الجدران والأرض والسقف هم جماد لا يمكن الإمساك به أو التغلب عليه فالعدو هنا مراوغ ومتربص إلي أن يفتك بضحيته.
وكذلك يغلب علي أبطاله صفة السذاجة والتعميم فهم شخوص تكاد تحلو من الأبعاد حتي أن الكاتب (صالح مرسي) علق علي مسرحيته «الراجل اللى ضحك علي الملايكة» بأن العيب الوحيد في هذه المسرحية هو أنك تخرج منها بلا بطلة .. بلا إنسان محدد الملامح .. وانك تعيش في القضية بلا تفاصيل الحياة الصغيرة .. فالجانب الفكري يسلب شخصياته بشريتها من اللحم والدم إلى حد كبير (فهو مثلا ينزع سلبياته ويلقي بها عارية أمامنا بشكل مباشر . كما يقول الكاتب اليساري (فتحي خليل) وإذ قد يحدث أن يخلق المؤلف موقفا مثل ذلك الانتقال بين الواقع ووعي (المهلب)، وتحدث الأشياء بعد ذلك الانتقال حيث لا يتم حساب الملائكة وعودته المفاجئة إلى مراكز السلطة.. أو لجوء (طارق الريس) إلي أكاديمية حكم الشعوب بلا ضرورة إنسانية . فمسرحياته دائما قضايا مثل تصوير محنة المبدعين عندما يتعرضون للتخريب الناتج عن النمو السرطاني البيروقراطي كما يقول (ريموند وليام بكر) في كتابة «الثورة المهتزة في ظل عبد الناصر والسادات» عن «بير القمح» أو وقوعهم في شرك النظم القائمة علي الكبت في «البوفية» أو الخوف وانتقاد الإنسان في «عفاريت، وأوديب)، وأن السلام وقضاياه لا يقوم ما لم تدعمه القوة وتحميه، وبناء المصانع والمدارس والمعامل ينبغي أن يصحبه بناء الناس .. أو تتيح أحداث هزيمة 67 وحرب الاستنزاف والتمهيد للعبور في «اغني علي الممر» و«الملوك يدخلون القرية»، «عملية نوح» أو تصوير جهل المثقف بواقع بلده وأنانيته فى «الملاحظ والمهندس» أو محنة المفكر المحب لبلده والواعى بواقع مشاكلها تطيح به الجهالة والغباء فى «المتفائل» وان كنا لا نعدم أن يبث (على سالم) في بعض شخصياته ـ الأفكار لمسات ساخنة فتجرى فيها الدماء الحارة فتنطلق بشرا نكاد نلمسها ونعايشها.
إذن فإن (علي سالم) لا يغير كثيرا من منطلقاته الفكرية.. إذ تظل مراكز الثقل في تفكيره الدرامي ثابته لا تتحول.. لاهيا بشخصياته النماذج بلا أبعاد كالعرائس الخشبية أو الرسوم الكاريكاتيرية بأسوأ صورة بشرية، وهذه النبرة الفكرية العالية والناضجة من خلال ضحكات قارئة من منابع ذكية ومتوهجة تحدث عنها الناقد (عدلى الدهيبي) في مجلة (المسرح والسينما) قائلا (.. وذلك لأن حملاتنا لا تأتي إلا كنتيجة طبيعية لصدمات إدراكية تتوالى وتتراكم فيزداد تراكم وعينا لفداحة ولا معقولية ما يحدث تحت أسماعنا وأبصارنا من هراء) .. وهو أحيانا ينزلق إلي (الفارس)، وسرعان ما ينتشل نفسه ويعود لينهل من الكوميديا الراقية وومضاتها الجادة فالضحك لديه ينبع من منطلق واحد في الحوار الذي يعتمد على المفارقة وإعادة النظر فى تفاصيل الحياة اليومية بمنطق جديد).
وقد أعرب الدكتور (علي الراعي) عام 1976 قبل ظهور مسرحيات بكالوريوس، والملاحظ والمهندس والمتفائل) عن مخاوفه علي مستقبل (على سالم) ككاتب مسرحي وهي أن يقنع بما يملك - من وعي معاصر، وقدرة علي التجرد، وجرأة في علاج المقدسات الفنية والتاريخية- إذا لزم الأمر – أن يستسلم للقناعة، ويرى الدكتور الراعى أن (علي سالم ) يحتاج إلي كثير من الدعم الفنى والفكرى.. فإن موهبته المسرحية تستطيع أن تستوعب الكثير وتشجعه أن يغلق كتبه ويضع قلمه ويرحل إلي بعض العواصم المسرحية ليستزيد من الخير، وليرى تجارب جديدة في المسرح ثم ليعود لنا بزاد كثير وهو لا يخشي أن يعود (متخوجا) أو أن ينساه الناس أو متأستذا .. لكنه يخشي كما سبق القول أن يقنع بما لدية أو يستسلم للقناعة).
فهل قنع (علي سالم) أو استسلم للقناعة؟ وهل أضيف إلي قدراته التي كان أبرزها الوعي المعاصر والقدرة علي التجرد والجرأة فى علاج المقدسات الفنية والتاريخية إذا لزم الأمر؟ .. في أكتوبر 1978 أفرجت لجنة الرقابة عن مسرحية «بكالوريوس» والتي تتناول موضوعا ليس غريبا علينا فطلبه السنة الأولى في الدراسة العسكرية بإحدى دول العالم الثالث بقيادة (طارق الريس) الرومانسي الحسن النية ينجحون في القيام بانقلاب عسكري في بلده ويستولون علي السلطة .. وهو انقلاب أتاح له الاستعمار العالمي فرصة نجاحه حين هيأ المناخ للتناحر بين طلبة السنوات الأولي، وبعد الانقلاب يفاجأ (طارق) بان زملاءه قد جعلوا من جهاز الدولة نظاما بوليسيا يخنق الأنفاس، ووجدوها فرصة لاستغلال النفوذ والإثراء وكذلك نجد الكذب والنفاق وتزييف الحقائق، واخطر من هذا يواجه الاستعمار الجديد بأساليبه الشيطانية الحديثة، ويشعر (طارق) بأن كيانه الخاص يمكن أن يحب ويحقق أحلامه في حكم ديمقراطي عادل يحقق الأمن والرخاء لمواطنيه .. مهددان بالانهيار.. فيظل إلى قرب النهاية واثقا بأن معجزة يمكن أن تحدث ويحقق أحلامه فيلتحق بأكاديمية حكم الشعوب لأنه أدرك أن المحنة تكمن في غيبة الديمقراطية، ويكتشف أن هذه الأكاديمية ليست إلا مسخا لفقة الاستعمار كشرك دعائي، وان جوهر الديمقراطية هو ممارسة السلوك الديمقراطي وان يتخل العسكريون عن أطماعهم فى الحكم - وفي الأكاديمية يقابل (جورج) الجاهز خادم وعميل ذو وجهين وممثل لقوى الاستعمار الخبيثة، وهو نفسه (عدنان البندقي) خبير وتاجر سلاح وممثل الاحتكارات الأجنبية، وهو أيضا الإنسان المتخصص في الجاسوسية والتخريب المعنوي، ويلتقي طارق بالحكام العسكريين الآخرين ويعرف بأي أساليب منحطة وصلوا إلي كراسيهم، ويدرك زين اللعبة في شكلية المناهج وأساليب التدريب والامتحانات والنتائج، وأن عليه أن ينفض يديه من هذا العبث ويعلن للعالم ما انكشف له من خفايا هذه المهزليات ولا يبقي له سوي حبيبته (عايدة).
وقد قصدت بتلخيص تفاصيل هذه المسرحية أن أشير إلي أن (على سالم) كان ما يزال يقدم موضوعاته القديمة ولكن في شكل جديد، وأن محنة ( طارق الريس) هي محنة أبطاله القدامي المحبطين الذين يسعون لسعادة البشرية، دون جدوى، ويفشلون أمام قوى الشر هي نفس النماذج ونفس العرائس الخشبية والرسوم الكاريكاتيرية .. لكني تصورت أن (علي سالم) لم يقنع بما لديه أو يستسلم للقناعة لأنه يحاول فى مسرحيه من الفصل الواحد التي اتخذها مجالا لمغامراته الدرامية منذ بداياته وهي «الملاحظ والمهندس» سبتمبر 1979 فيقدم الشخصية المأساوية التي تفجر الدموع من خلال الضحكات المبتورة .. فيقدم لنا مهندسا تجاوز الأربعين وموسوس ومهتم بذاته ومتمركز حولها.. لا يريد أن يفهم أو يتجاوب مع الواقع الذي يتعامل معه - والملاحظ – زميلة في استراحة العزاب بإحدى الشركات في منطقة الصعيد يتعامل ببساطة وفهم ومرونة ويزود (المهندس) حجرتهما بأحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا . ويسبب جهاز التكييف الذي رطب جو الحجرة تخرج عقربة يقتلها الملاحظ بشبشب، ويصاب المهندس بالذكر- هذا الذعر الذي يكشف عن خواء المهندس وتهاويه، وينزل الستار وقد امسك المهندس بمسدسه في يد ومدفع رشاش وشبشب في اليد الأخري يرقب المكان في تشنج .. بينما يغط الملاحظ في نومه ويعلو شخيره .. ولا شك أننا في النهاية نشعر بالخوف والشفقة على المهندس الضيق الأفق .. ضحية هذا العصر المجنون ليصير في النهاية بطلا تراجيديا رغما عن أنوفنا .
ويخطو (علي سالم) خطوة أخرى في هذا السبيل حين يقدم في بداية عام 1980 مسرحيته الأخيرة ذات الفصل الواحد «المتفائل» بطلها مفكر متفائل لدية حلول لكل مشاكل الإنسان ومصمم على مقابلة المسئول الكبير في غرفة انتظار ليس بها سوي مكتب فوتيه وعدد كبير من التليفونات وسكرتيرة لا تفعل شيئا سوي أن تنظر في الأوراق التي أمامها أو تنهض لتدخل حجرة المسئول الكبير لتعود بعد قليل .. يبدي المفكر استعداده لتحمل كل المشاق ليقدم حلوله.. يلفت نظرة عربة سوداء أمام المبني تشبه عربة نقل الموتي يجلس أمامها اثنان علي (دكة ) شكلها غريب فهما إما مجندين أو حانوتية جاؤوا ليحملوا جثه صديق يعرفه، ويحكي قصة هذه الصديق وهو انه كان شابا فقيرا متفائلا تخرج في الجامعة. وسجن في حريق القاهرة. وأسر في حرب 1956، وعمل في سوريا أيام الوحدة، وحارب في اليمن، وفي 1967، وعندما كان يشجعه على الحرب كان يتهمه بلطف بالنصب .. ثم اشترك في عبور 1973 وحارب ببسالة، وبعد الحرب لم يسترح إلى أن مات .. يعرض المفكر علي السكرتيرة الزواج فلربما سمحت له بمقابلة المسئول.. ثم يحدثها عن أنها تعاني من ما يسمي (بإجهاد السلطة) ويكتشف أن لديهم ملفا كبيرا عن كل شيء في حياته .. ويعترف بأنه فكر أحيانا في أخطاء هذا المسئول أو في بعض الإجراءات، وعندما يكتشف عدم إمكانية مقابلته للمسئول يثور ويخلع ملابسة، وبعد طول انتظار يقرر الدخول دون استئذان رغم عدم رضاء عن هذا السلوك، وسرعان ما يعود ضائعا منهارا ومفزوعا وجريحا لأنه لم يجد شيئا سوي الجدران.. فجلس علي مقعد والقي برأسه إلي الخلف وعيناه مفتوحتان فتقترب منه (السكرتيرة) تغمض عينية ثم تسوي شعرها. وتضغط علي زر فيدخل الرجلان الغريبان اللذان وضعهما المفكر أمام العربة السوداء فيحملانه ويخرجان، وعندما يظلم المسرح تظل لمبة المسئول الحمراء مضاءه .. وهذا بطل تراجيدي آخر كان عليه أن يدرك منذ البداية أن يكلم نفسه فهو يتكلم ويتكلم ولم ترد عليه السكرتيرة الحسناء وكانه يصرخ في البرية ثم يسقط ضحية لعدو قدري خفي لا يمكن الإمساك به أو التغلب عليه ولا مكان له .. بل ربما لا وجود له أصلا.
وبعد .. فهذا كان كاتبا لدية حساسية فائقة بما يجيش في أفئدة الناس .. وظني انه كان قادرا علي أن يحمل لنا الكثير من المفاجئات.. ولكن للأسف فقد كان الكاتب يتنبأ بهذه الزيارة التعيسة المشؤومة كما يري المخرج والناقد الكبير د.عمرو دوارة في مجلة «الكواكب» في عدد يناير 1996 حين أشار في هذه المسرحيات الأخيرة الثلاث «خشب الورد»، «الكلاب وصلت المطار»، «والبترول طلع في بيتنا» وفي قراءة واعيه عندما أشار إلى توقع الأسطي (عبده) النجار علي صبية (محمود) - الذي كان يتميز بالرسم علي خشب الورد إلي انحرافه بعد تهجير سكان مدن القناة.. بأنه لن يستطيع الرسم علي خشب الورد الذي اشتهر به.. بعد أن انزلق إلي تهريب البضائع من سوق المدينة الحرة بورسعيد إلى خارجها، كذلك يشير إلي انحراف أصيب به وفقد نزاهته وأمانته وكرامته في (البترول طلع في بتنا) حين انتابت تنتاب المهندس (إبراهيم) حالة من الطمع والجشع، والتخلي عن مبادئه السابقة عندما يطمع في بترول يسيل علي حوائط منزله، ويحلم برفاهية الغني والثراء ليستمتع بمباهج وملذات الحياة .. دون مراعاة لأي مبدأ،وفي إصابة مأمور الجمرك النزية بالكلبية والجشع بعد أن يأس من إصلاح الأمور في «الكلاب وصلت المطار. وهي نهايات مؤسفة لأبطاله الثلاث، وهي قراءة (متنبئة) لتلك النهاية التعيسة للكاتب وزيارته المشؤومة إلى الكيان الصهيوني