«مترو» محاكاة لمسرح العبث ورؤية جديدة للانتظار!

«مترو»  محاكاة لمسرح العبث ورؤية جديدة للانتظار!

العدد 588 صدر بتاريخ 1ديسمبر2018

لعل ما مرّ وما يمر بالوطن العربي من أحداث يجعل من مسرح اللامعقول وسيطا جيدا للتعبير عن طبيعة المرحلة، فقد ظهر مسرح اللامعقول كنتيجة للحربين العالميتين الأولى والثانية وما تبعهما من ظروف وأزمات اجتماعية واقتصادية ونفسية، توغلت في عمق الشعور الإنساني وفجرت أزمة الوجود وصعوبة التعامل معه، مما تطلب من مفكري هذه المرحلة أن يتمردوا على معظم البديهيات المعروفة، وأن يفكروا بالتالي في صيغ جديدة تمكنهم من التواصل معه وللتعبير عن لا معقولية الوضع الإنساني، وعن مأزق الفرد وعزلته وانهيار القيم الإنسانية؛ ولذا كانت مسرحية «في انتظار جودو» En attendant Godot التي كتبها في 1949 أحد رواد مسرح العبث الكاتب الآيرلندي صامويل بيكيت (1906 - 1989) Samuel Beckett، وترجمها بنفسه إلى الإنجليزية بعنوان «Waiting for Godot» الانطلاقة الحقيقية لمسرح العبث في العالم كله، وقد بنى بكيت مسرحه على ثنائية العزلة والانتظار، وبنفس الثنائية تحاكي مسرحية «مترو» من إخراج عادل رأفت وتأليف محمد فضل مسرحية بكيت حيث يلقي المؤلف بشخصيات المسرحية في محطة مترو مجهولة، تعزلهم عن العالم عزلة شبه تامّة ليجعلهم في هذه المرة ينتظرون المترو ولا ينتظرون جودو، فإن«يحيى» الذي يعمل بالدعاية لإحدى شركات الأغذية، توقعه الصدفة في هذه المحطة لينقطع اتصاله بالعالم الخارجي ولا سبيل أمامه للخروج إلا بالمترو المنتظر الذي سيوصله إلى عمله في موعده، وينقذه من شرور مديره المتسلط، فهو يعمل كمندوب تسويق يعلن عن عروض وهمية لفترة محدودة ويوزع إعلانه على الجمهور(عرض خاص لفترة محدودة: أربع كافرات شكل واحد أربع بوكسرات شكل واحد.. السعر قبل الخصم 100ج وبعد الخصم 100ج) كعلامة هامة على لامعقولية ما يمارسه من عمل ومع ذلك يشكل جزءا رئيسيا من حياته المفروضة عليه ولا ينتمي لها فهو كان يعشق المسرح ويحب التمثيل ولكنه لا يعمل في هذا المجال الذي يحبه ويلتقي بفتاة تجلس وحيدة ويبدو عليها التوتر والقلق وتمسك في يدها ورقة وقلم وبمنتهى الاضطراب تكتب وتقطع ما تكتب وقد كانت في البداية قلقة منه لكنها بعد قليل سرعان ما توددت إليه، وحكت له عن رباط حذائها المفكوك وفقدها لتذكرة المترو الخاصة بها مما جعلها سجينة لهذه المحطة المجهولة حيث اللازمان واللإمكان ولا يمكنك التواصل فيها سواء بالاتصال المباشر مع الأشخاص الموجودة أو بالاتصال غير المباشر عبر الهاتف المحمول، وأثناء حوارهما تنبه الإذاعة الداخلية للمترو الركاب وتعتذر لهم عن التأخير وتطالبهم بالانتظار، لكن (يحيى) ملّ كل هذا التأخير فسأل الركاب عن طريق الخروج ولم يجد ردا لسؤاله، فجمعيهم صم بكم مجرد تماثيل منهم من يضع سماعات في أذنيه ومنهم من يقرأ جريدة، وليس عندهم القدرة على التواصل، وكل منهم في عزلة عن الآخر على الرغم من أنهم متقاربون في هذا الفضاء ويعانون من نفس الأزمة، لكن لا أحد منهم يتحدث مع الآخر وكل واحد مغرق في شأنه ومشغول بما يخصه، ربما موجود جسديا، لكنه في الحقيقة غائب بذهنه وبفكره، ما يولد حالة غريبة عبثية تماما، تضطر (يحيى) أن يثور ويحاول الخروج خوفا على مستقبله لكن دون جدوى فكلما خرج من باب يجد نفسه عائدا إلى المكان ذاته, هذه المتاهة التي يعاني منها دائما أبطال مسرح العبث، فدائما لا مفرَ من الخروج، ويزيد الأمر تعقيدا أنه عندما بحث عن تذكرته اكتشف أنه فقدها وفي نفس اللحظة تجدها الفتاة، فيحدث صراع بينهما ينتهي بتمزيق التذكرة؛ فيتيقن أنه فقدَ جواز خروجه من هذا العالم وتحزن الفتاة كذلك، وتبتعد عنه باكية، وهنا يأتي دور من يَقْرَأن الجريدة الذين ظلا منذ بداية العرض منهمكين في حل الكلمات المتقاطعة حتى إننا لم نر وجهيهما وكانا طوال الوقت يجلسان على مقعد في عمق المسرح وأحيانا كانا يلوحان بالجريدة وهما شخصيتان يشبهان شخصية (بوزو ولاكي) في مسرحية نهاية اللعبة لبيكت - فأحدهما يستطيع الكلام والثاني أخرس ويدور حوار بين الأول ويحيى يفلح فيه بأن يقنعه بأنه لا داع لصراع على تذكرة، ويصلح له ساعته وهاتفه المحمول، ويخبره بأن (علينا الخروج من داخلنا كي يعود لنا طعم الضحكة في قلوبنا ولا يهم إن كان المترو سيأتي أم لا فالمهم أن نرفض فكرة الانتظار والعزلة ونثور عليها) ويسترجع معه الحوار الذي يحبه من مسرحية كاليجولا الذي حاول أن يمثله للفتاة لكنها لم تفهمه - ويغرق خشبة المسرح/ محطة المترو بالتذاكر ويستطيع بقدرته السحرية أن يحرك تمثالين أحدهما لعازف كمان وآخر لمطربة وتعود ساعة المحطة إلى العمل, كما ينجح في أن يقنعه أيضا أن الزمن توقف بداخل الركاب وأن الزحمة الحقيقية والفشل والضياع والغربة والانطواء وهمٌ داخل النفس البشرية وكل واحد كان صاحب القرار في سجن نفسه وانعزاله عن الآخرين، والآن قد حان الوقت للخروج من هذا النفق الذي صنعناه بأنفسنا. وينتهي العرض باستعراض راقص على موسيقى أغنية ليلى مراد (أما أنا مهما جرى حأفضل أصون عهد الهوى وإن غبت يوم ولا سنة حأفضل أنا برضه أنا) كلمات الشاعر حسين السيد وألحان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب.
ثم يعود الزمن للتوقف مرة أخرى مع فتاة وشاب آخرين لتبدأ أزمة جديدة سيحلها بالطبع الرجل العارف بخبايا الأمور ودهاليز النفس البشرية.
إن الخطاب المسرحي المعبر عن هذه الرؤية قد اعتمد على بعض العلامات البصرية والسمعية لإنتاج دلالته المرجوة كتذكرة المترو التي يعطيها للجمهور قبل الدخول لصالة المسرح والقضبان الحديدية في الصالة أمام المتفرجين على الأرض أسفل الخشبة, واللمبات النيون المعلقة، وساعة كبيرة بدون عقارب، واسم لمحطة ممحو والرسم على الحوائط يمين ويسار المسرح, وإذاعة داخلية قد حولت المسرح إلى محطة انتظار وأصبح الجميع - الجمهور والممثلون - منتظرا لهذا المترو المنقذ لهم وقد خيمت أجواء المسرح العبثي البكيتي المعتاد رؤيتها على مفرادات العرض فالشخصيات هم إما مجرد تماثيل أو شخصيات تعاني من الضياع والغربة والانطواء والبؤس والوحدة والعجز عن فهم الحياة التي تعيش فيها من غير أن تتمكّن من التحكّم بسيرورتها، أو حتى إيقاعها.
كأنّ الإنسان يولد لينتظر مصيرا في نفق لا مهرب منه ينعدم فيه الزمن الذي قد يكون ساعة أو منبه فالمهم أن يتعطّل الزمن ويتوقف العقرب ويختفي تماما. لكن في الحقيقية، إن اللغة المنطوقة التي صاغت هذا العالم لم تكن تنتمي إلى دراما العبث التي تعتمد على موت اللغة وتشظي أنظمتها وتعطيل وظائفها المنطقية فتتمرّد على وظيفتها الأولى؛ ليحل الصمت بدلا من الكلام، والانعزال بدلا من التواصل، والهدم بدلا من البناء كونها تتحوّل من أداة تواصل إلى انفصال يُعمّق عزلة الشخصيات داخل عالمها المُغلق المتمثل في محطة المترو، لكن لغته جاءت منطقية ووظيفية، فهي لغة تتناسب مع المألوف والسائد ولا تتناسب مع تناول قضايا وجودية آثر المؤلف أن يعالجها بشكل سطحي يمزج ما بين الأزمات الوجودية كالضياع والغربة والانتظار وبين أزمات حياتية كالازدحام والوظائف غير المناسبة - كوظيفة (يحيى) ومشكلته معها وعلاقته بمديره والرغبة في تحقيق الأحلام بسرعة دون تمهل وانتظار وصرح بأن كل المشكلات التي طرحتها الشخصيات إنما هي أوهام بداخلهم فقط فحوّل كل ما هو ملموس ومادي إلى أفكار مجردة ووهم وألقى باللوم على شخصياته حيث إنهم ليسوا في حاجة إلى تذاكر أو مترو لكي يصلوا إلى أحلامهم (أصل العمر بيتعاش ما بيتعدش، خلي بالك أحسن عمرك يضيع وانت بتستنى المترو) فلا داع للانتظار وعلينا أن نحل أزماتنا لأنها بداخلنا فقط لكن (يحيى) لم يحل أزمته بنفسه وإنما بمساعدة هذا الرجل القادر على إحياء التماثيل لتعزف وتغني والذي يعرف كل شيء - دون أن نعرف مبرر امتلاكه لهذه القدرة وينتظر مع تابعه كل من يأتي إلى المحطة ليعيد ما فعله مع يحيى ويخرجه, ولكنه لا يستطيع إخراج نفسه كما أن الكاتب والمخرج لم يبذلا جهدا في أن يبتكرا علامات جديدة للتعبير عن رؤيتهما إنما أعادا إنتاج نفس العلامات التقليدية المتعارف عليها في مسرح العبث (المكان المغلق، المتاهة، الساعة..)، واللغة المنطوقة الدرامية لم تكن لغة عبثية بمنطق هذا المسرح كما أنها لم تكن لغة الحياة اليومية القادرة على تصعيد حدث درامي بالمفهوم التقليدي، وقد آثرا أن يجعلا نهاية مسرحيتهما نهاية سعيدة بشكل ميكانيكي حتى يرضيا الجمهور ولا يجعلاه غاضبا، فكان من الضروري أن يلتقي يحيى مع فتاته ويرقصا معا، ولا مانع أيضا من أن يصنعا نهاية تكون بداية جديدة لقصة فتاة وشاب جديدين والحل أصبح معروفا سيعطي الرجل السحري الخلطة السحرية لهما وسيخرجان من النفق.
والجدير بالذكر أن الأداء التمثيلي في هذا العرض هو الذي بعث الحياة فيه وأظهر إبداعا ملحوظا لممثلين موهوبين (أحمد خالد في دور يحيى, وشريهان قطب في دور الفتاة، خالد الشرشابي في دور قارئ الجريدة، أحمد عمار في دور تابعه الأخرس، سلمى عصام المطربة, وعازف الكمان مصطفى رضا) فجميعهم يقفون بثبات على تجربة احترافية، متمكنين من أدواتهم الأدائية، ينتقلون بين التجسيد والتعبير بأداء صوتي وجسدي وحركي متناغم ومتمكن، وذلك ما جعل الصالة منتبهة لهم طوال الوقت وقد تمكنوا من ملء الفضاء المسرحي والإمساك بإيقاعه، كذلك الأمر بالنسبة للأزياء التي صممتها (شاهندا أحمد) كانت مناسبة لطبيعة الشخصيات، وإضاءة (أبو بكر الشريف) والمؤثرات الموسيقية والصوتية لمحطة المترو (لمحمد خالد), وديكور (محمد السيد)، كل هذه المفردات جسدت الحالة الأكثر قربا من الخطاب المسرحي كما تصوره المخرج.


محمد زناتي