«بأم عيني 1948».. بشارة أمل من الأرض المحتلة يزفها غنام من «المنصورة»

«بأم عيني 1948»..  بشارة أمل من الأرض المحتلة يزفها غنام من «المنصورة»

العدد 815 صدر بتاريخ 10أبريل2023

في إحدى قاعات قصر ثقافة المنصورة وضمن عروض الدورة الثانية لمهرجان المنصورة المسرحي الإقليمي، الذي ضم خمس فرق عربية، وإحدى عشرة فرقة من مصر، واختتمت فعالياته منتصف فبراير الماضي، قدم الفنان الفلسطيني غنّام غنّام عرضه الجديد (بأم عيني 1948).
العرض كسابقه (سأموت في المنفى) يقدمه الفنان منفردًا، ضمن مشروعه الذي يعمل عليه منذ عدة سنوات، والذي يجمع بين مسرح الممثل الواحد، كونه يقدمه منفردًا، ومسرح الحلقة وميراث الحكواتي الشعبي كونه قد اختار أن يقدمه في جمع من الناس يتحلقون حوله، في أي فضاء يمكن تهيئته لذلك، بعيدًا عن العلبة الإيطالية التي من شأنها إقامة حاجز بين المؤدي والجمهور. 
(بأم عيني 1948) مروية فلسطينية تشكلت في وعي وقلب راويها وصانع فُرجتها الأوحد غنام غنام، أثناء زيارة له قام بها إلى أرضه المحتلة في 1948؛ حيث استطاع بمعونة بعض أصدقائه ومعارفه وحيلتهم الدخول إليها، متسللا، عام 2017، وقد خرج من تلك الزيارة أكثر إيمانًا بقدرة شعبه على تحرير الأرض، وهزيمة الاحتلال، بعدما شاهد «بأم عينه» كيف يمارس هذا الشعب حياته اليومية، ورأى منه ما اعتبره انتصارات صغيرة، ولكنها دالة على قدرته المتجددة على المقاومة، وامتلاكه للحيلة الواسعة التي تؤهله، طال الوقت أو قصر، لأن يحرر الأرض، ما دفعه لصياغة مرويته تلك في عرض جديد، يبث فيه البشرى، ويبعث الأمل مجددًا في نفوس من لم يطلعوا بأنفسهم، بعد، على المعدن الصلب والنفيس للشعب الفلسطيني، ومن أحبطتهم خطب الزعماء وتواطؤات المجتمع الدولي.
على مستوى الأداء، لا يمكنني القول إن (غنام) كان ممثلًا في هذا العرض، وإن ما قدمه كان تمثيلًا، فهو لم يلعب دورًا، لم يقطع تلك المسافة التي يقطعها الممثل في طريقه إلى الشخصية -ليركبها، كما يقولون- لم يتقمص شخصية، لم يدرس سلوكها ويحلل دوافعها، لم يحاول ملامسة ملامحها النفسية الداخلية، ليصبها بعد ذلك في ملامح خارجية تعكسها وتجسدها، وتتحرك بها، وتحقق بها الإيهام، فلا شخصية هناك، ولا إيهام، ولا دراما منفصلة يمثلها، إنما هو الراوي ذاته، يحكي تجربة ذاتية مر بها، وانخرط في مشاهدها ورآها «بأم عينه» فجاء ليرويها مدفوعًا بشحنة الحماس التي زودته بها، وبجرعة اليقين التي دعته لأن يبشّر بها، لذلك أيضًا أحسب أن العرض لا يندرج تحت مفهوم (المونودراما) حيث لا يعني وجود مؤدٍ واحد على خشبة المسرح أو ما يعادلها من فضاءات بديلة، بالضرورة، أنه يقدم عرضًا مونودراميًّا، وتاريخ الأشكال الشعبية الفرجوية شاهد على ذلك.
لم يكن (غنام) ممثلًا، إنما يمكن القول إنه استعار مهارات الممثل -تلك التي يمتلكها بغير شك- لتعينه على تقديم حكايته، هو الحكّاء الذي لا تعدو مهارات الممثل لديه كونها محض أداة واحدة ضمن أدواته الكثيرة التي يمتلكها ويصدر عنها، ويشكل بها ومنها روايته. نعم يشكل بها ومنها؛ حيث لا تنفصل لديه الرواية عن الراوي بشحمه ولحمه. هي أداة من أدواته، تمنحه وحده سرها، وتحمِّله بما يلزم من انفعالات، ما يجعله أكثر حماسة لروايتها، ومن ثم أكثر قدرة على التأثير بها. 
يصدر غنّام غنّام في عرضه، أو لنقل في حكايته، عن ذاكرة شخصية غنائية منفعلة، مسكونة بالإعجاب بما رأى وما سمع، وبالاعتداد بما عاشه في تلك الأيام التي أقامها في بلده المحتل. هي ذاكرته التي تمتلئ بالوقائع والأحداث، ذات الدلالة الخاصة بالنسبة إليه، كما تمتلئ بالأدوات والحيل التي لا تعدو مهارات التمثيل كونها محض أداة منها، على الرغم من أهميتها القصوى، فإلى جانب تلك الأداة المهمة التي يستدعيها بوصفه راويًا لتشخيص بعض المواقف التي مر بها، وتقريب الملامح النفسية والجسمانية لبعض شخصيات روايته، فإنها تتضمن أيضا مهارات الراوي الشعبي وأدواته المختلفة؛ من قدرة على إثارة انتباه الجمهور، وتحفيزه لأن يتحلق حوله، إلى مهارة تطوير البناء السردي وتلوينه بواسطة الارتجال، فضلًا عن هندسة وقفاته ولزماته المحسوبة، بما يدفع الجمهور إلى المشاركة الفعالة في الرواية والانخراط فيها طوال مدة العرض، وهو ما نجح فيه (غنام) بشكل لافت.    
 لم يقدم حكَّاء ( بأم عيني1948) قصصًا بطولية ملحمية عن أبطال خارقين، بعيدين في المكان والزمان، يستعيدهم بالحكي، لم يلوِّن أبطاله بالخيال كما يفعل الرواة الشعبيون، لم يكن حكواتيًا شعبيًا تقليديًا، وإن قامت صناعته على الحكي، إنما هو راوٍ فرد، راوٍ حديث، يستثمر خصوصية تجربته  ليحكي رؤيته هو لواقع ربما يحمل معنى»البطولة» نفسه الذي تحمله سير الأبطال الشعبية، غير أن أحداثه حقيقية، عاشها ورآها «بأم عينه» ما يمنحه مصداقية شاهد العيان، لا سيما وهو يحكي حكاية لا تخصه وحده، إنما تخص جمهوره أيضًا، تخصه تمامًا، هنا والآن، وهذا أول شروط إقامة تواصل ناجح مع الجمهور. هكذا لا يستثمر (غنام) خصوصية تجربته فحسب، إنما يستثمر عدالة قضيته وعموميتها أيضا.

أين هو الاحتلال! 
لم يكن ذلك سؤالًا أقام حوله الراوي حكايته، إنما كان هو الهاجس الذي يشرق في رأسه، بشكل متكرر، ويردده في نفسه متعجبًا، كلما مر به الوقت في أرضه المحتلة، ورأى ما رأى من قدرة شعبه العظيمة على هندسة حياته، وصناعة أفراحه ومسراته رغم أنف المحتل، متجاوزًا بحضوره الفاعل على الأرض وبحيلته الواسعة واقع الاحتلال البغيض، ونافيًا له، فأين هو الاحتلال وقد عرف (سمير) ذلك الشاب (الداهية!) متى وكيف يمكن أن يخرج أو يدخل من وإلى الأرض المحتلة مستغفلًا نقاط التفتيش الصهيونية، الأمر الذي مكَّنه من العبور بالراوي إلى الداخل الفلسطيني، ليحتضن ابنتيه وأحفاده، ويعيش أيامًا على أرضه وبين ناسه وذكرياته، وقد رتَّب سمير كل شيء بمهارة وشجاعة نادرتين! أين هو الاحتلال وقد رتب الأصدقاء أيضًا كل شيء ليزور الراوي كل الأماكن العزيزة المحفورة في قلبه وذاكرته؛ ويتجول فيها؛ بحر حيفا، أسوار عكا، شوارع الناصرة، البيت الذي ولد وعاش فيه غسان كنفاني ولم يزل البسطاء يحتفظون له باسم غسان، فهو منزل غسان، كما يحفظون تاريخ مولده رغم الاحتلال، أضرحة الشهداء التي وكأنها بنيت بالأمس، يقوم عليها البسطاء ويعيدون بناءها وتجديدها، كأنما هي إعلان على استمرارية المقاومة وتجددها، ورفعها كشعار، الكتابات على الجدران التي تعلن أن الأرض عربية، والاحتلال إلى زوال، (جبل القفز التاريخي) الذي رغم مرور السنوات لم يزل القفز من فوقه لعبة حصرية للفلسطينيين، لم يحاولها أبدًا عناصر المحتل، محل الشاورما القديم، الفنادق، أماكن السهر والقهوة والغناء الشجي بصحبة الأصدقاء وصوت عبد الوهاب»كل ده كان ليه»! أين هو الاحتلال والأصدقاء لا يزالون يحولون بيوتهم إلى مسارح وصالات تدريب والفتيات يذهبن لتلقي ورش الحكي، والكل منخرط في الحياة، مقبل عليها، والحفيدة الصغيرة تصرخ في وجه المحتل وتسخر منه لا يرهبها طوله ولا عرضه، يقدم الراوي عرضه السابق (سأموت في المنفى) على أرضه، وسط جمع كبير من الناس احتشد لرؤيته والاحتفال به، كما يقيم ورشة حكي. أين هو الاحتلال إذن ولا تزال تلك الروح قادرة على صنع الحياة وتحقيق الانتصارات وإن كانت صغيرة. ذلك هو سؤال العرض ورهانه وبشارته: أين هو الاحتلال!

لماذا يهزموننا؟ 
لماذا يهزموننا؟ سؤال ثان، اختتم به الراوي حلقته، ولكنه لم يكن يردده بينه وبين نفسه هذه المرة متعجبًا، إنما اختار أن يوجهه لجمهوره، وقد أدرك وهو الكاتب المثقف أن بنية خطابه تقود إليه وتطرحه كهاجس: فإذا كان الشعب بهذه الصلابة واتساع الحيلة والقدرة على المقاومة وإيقاع الهزائم اليومية بالمحتل.. فلماذا يهزموننا؟ الإجابة تركها الراوي معلقة، مكتفيًا بالإجابة عن نصفها الأول وتاركًا جمهوره يحملق في نصفها الثاني، علَّه يصل بنفسه إلى ما يرمي إليه العرض وهو القول: ليس الشعب بالتأكيد هو سبب الهزيمة، إنما هم من يتصدرون المشهد بوصفهم زعماء وقادة دون أن يكونوا أهلًا لتمثيل إرادة الشعب، وقدرته الفذة على ممارسة الحيلة والمقاومة.     
لم تكن الحكاية وحدها هي البطل في (بأم عيني 1948 ) على الرغم من جدارتها بأن تستقل بدور البطولة، لما تحتوي عليه من مواقف ولحظات ومعانٍ كاشفة عن بطولة الحيلة الشعبية، فضلًا عن أهمية القضية التي تطرحها، إنما كان الراوي شريكًا أيضًا في هذه البطولة، فلا رواية دون راوٍ، وقد أجاد غنام غنام نسج حكايته، مستثمرًا في ذلك قدرته اللافتة على صناعة فضاء متعدد، وقد انفتح بروايته على عناصر لغوية متعددة، ينتقل بينها بسلاسة؛ ففضلاً عن الفصحى التي يقدمها ببساطة،   نراه ينتقل بين أكثر من لغة محكية بالسلاسة نفسها، كما يستعين بالشعر فيستدعي أشعارًا لمحمود درويش وتوفيق زياد وغيرهما، كما ينفتح بنصه على الغناء فمن محمد عبد الوهاب إلى فيروز ووديع الصافي وغيرهم، مع استيعاب مداخلات الجمهور، في أداء متدفق وقدرة على إدارة الرواية وتوجيهها بحيث تستوعب التعدد، وتتفهم طبيعة اللقاء الحي بالجمهور بعيدًا عن النص المحفوظ والخشبة المغلقة. 

مهارة أساسية
في استهلاله لمرويته، قدم غنّام التحية لجمهور عرضه من أهل المنصورة، كما أهدى العرض إلى رموز النضال الشعبي ضد الاحتلال الفرنسي في محافظتي الدقهلية ودمياط، وذكر منهم الشهيدين علي العديسي والأمير مصطفى، وأكد أن حبلًا سُريًا يجمع حكاية مسرحيته بالتاريخ النضالي المشرِّف للمنصورة، هو ذاته الذي يجمع فلسطين بمصر؛ إنه البحث عن الحرية. وقال: في المنصورة سوف نرفع نشيدنا من أجل عزتنا وحريتنا. وهو استهلال ناجح، بغير شك، ويعد واحدًا من المهارات الأساسية التي تميز الراوي الشعبي، راوي الحلقة، لأن من شأنه أن يستميل الجمهور إليه وإلى قضيته، ما يحفزه إلى الجلوس والاستماع إلى الحكاية، والتفاعل معها، كما ذكر غنام في استهلال مرويته أيضا إن عنوان العرض هو نفسه عنوان كتاب المحامية اليهودية «فيليتسيا لانغر» الناشطة الحقوقية المعادية للصهيونية والمدافعة عن حقوق الأسرى الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال، وقد سجلت فيه شهادتها على الانتهاكات التي يرتكبها الاحتلال في حقهم.    
إن التحرر الذي يبشر به العرض ويدفع باتجاه الإيمان به، هو نفسه الذي فعّله غنام غنام على مستوى الشكل، وقد اختار أن يقدم رسالته مستعينًا بميراث الفرجة الشعبية العربية، في بساطة أدواته وقدرته على التلاحم مع الجمهور والتفاعل معه، فلم يحتج الفنان غير مكان خالٍ، وإضاءة، ومجموعة قليلة من الإكسسوارات التي حملها في حقيبة يده إلى قاعة العرض.       


محمود الحلواني