فنان تونس «الفاضل الجعايبي»: أكره الجمهور القطيع وأصنع مسرحا نخبويا للجميع

فنان تونس «الفاضل الجعايبي»: أكره الجمهور القطيع وأصنع مسرحا نخبويا للجميع

العدد 750 صدر بتاريخ 10يناير2022

 بعد نهاية الحرب العالمية بأسابيع معدودة وتحديدا في 10 ديسمبر 1945 ولد الفنان المسرحي التونسي «الفاضل الجعايبي» مدير المسرح الوطني ببلاده بين يوليو 2014 ويوليو 2021،وذلك في «أريانة» على مقربة من العاصمة. وعند مؤرخي المسرح العالمي كانت فواجع الحرب العظمى من أسباب بزوغ اتجاهات جديدة على مسارح القارة الأوروبية مع عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.  وسرعان ما اجتاحت صيحات التجديد مسارحنا العربية عابرة البحر المتوسط إلى شواطئه وحواضره الجنوبية. كما ظهرت ترجمات إلى  العربية لنصوص لافته تؤرخ لمسرح يتمرد على الوحدات الأرسطية الثلاث: الزمان والمكان والحدث، وكما جاءت في كتاب «فن الشعر». وهكذا عرفت مسارحنا «أنظر وراءك في غضب» لجون أوسبورن و«كراسي» يوجين يونسكو و«مهاجر برسبان» لجورج شحاده، وغيرهم من أعلام مسرح العبث أو اللامعقول. كما أعاد المسرحيون العرب مع العالم اكتشاف تراث «برتولت بريشت» في المسرح الملحمي بتوجهاته التقدمية وتميزه الإبداعي الطليعي.
 غادر «الجعايبي» بلاده إلى باريس العام 1967 لدراسة المسرح، وتفتحت حواسه على الجديد فوق خشبات فرنسا وعموم القارة الأوروبية. كما عاش أجواء ثورة الطلبة والشباب الفرنسي 1968، قبل أن يعود إلى تونس العام 1972. وعندما التقيته قبل جائحة كورونا  في قاعة «الفن الرابع» التابعة للمسرح الوطني بشارع باريس في قلب العاصمة تونس ـ تلك التي شاهدت على خشبتها العديد من العروض المسرحية بين أعوام 2017 و2019 وبينها اثنتان تنتسبان إليه «العنف» و«الخوف» ـ بادرته بالسؤال عن تأثيرات «البرشتيز» ومسرح اللا معقول ـ بما في ذلك تعبيرات افتقاد المعنى والتواصل وتفكيك اللغة واغترابها ـ على مسيرته الفنية وأعماله، فأجاب: «جئت إلى الدنيا العام 45، لكنني ولدت مسرحيا في باريس نهاية عقد الستينيات من القرن العشرين. كنت أول طالب تونسي يدرس المسرح ترسل به وزارة الثقافة، التي كان على رأسها حينها الشاذلي القليبي (الأمين العام للجامعة العربية لاحقا). وتعلمت في «السوربون» وتدربت تطبيقيا في الجامعة  الدولية للمسرح بباريس.  وبفضل الثورة البيضاء 1968 عشت حياة حافلة مع مسارح باريس قبلة الفنون، ومن خلال المهرجانات الكبرى للعديد من المدن الفرنسية الأخرى كـ ( أفنيون) متفرجا شابا جاء من تونس يكتشف أهم المسرحيات. وعلى خشبات هذه المسارح  الفرنسية تفرجت على تيارات مختلفة للمسرح العالمي المعاصر وعروض متنوعة من أوروبا كلها، ومن اليابان  والهند والأمريكيتين اللاتينية والشمالية. وبالنسبة لي كانت هذه السنوات بمثابة تجربة تأسيسية كمسرحي وكمفكر أصبو إلى الكتابة والإخراج. وعدت إلى تونس ولم اعد. وهذا لأنني لم انقطع عن العودة إلى باريس وأوروبا أبدا، وإلى اليوم». 

الشاب في باريس
واكتشاف مسرح بديل مشاكس
 إذن غادر «الجعايبي» تونس إلى باريس لدراسة المسرح عندما كان عمره نحو 21 سنة، فكيف كانت علاقته بالمسرح قبلها؟. يقول: «كنت في المسرح المدرسي لمدة قصيرة. ومثلت أدوارا في المرحلة الثانوية. والحقيقة كنت مغرما حينها بالسينما أكثر من المسرح، واعتزمت الذهاب إلى براغ (عاصمة تشيكوسلوفاكيا حينها) لهذا. ولأسباب يطول شرحها تحولت لدراسة المسرح بباريس مبكرا». ولعل هذا الانجذاب القديم إلى السينما دفعه إلى تحويل عدد من مسرحياته وعلى فترات متباعده إلى أفلام كـ«العرس» 1979 و«العرب» 1988 و«جنون» 2004، ناهيك عن إخراجه لفيلم «شيشخان» عام  1990. لكن على أي شاكله كان وعيه بالمسرح التونسي في تلك اللحظة؟، هنا يجيب: «مبكرا كنت اعتبر المسرح في تونس هاويا بالأساس. ولعل التجربة المهنية الكبرى في رأيي كانت حينها لعلى بن عياد (على خشبة المسرح البلدي بالعاصمة بالأساس)، وإن كنت أنظر لها نقديا».
ويضيف: «حقيقة من البداية كنت في قطيعة مع المسرح التقليدي وإعادة النصوص العالمية القديمة (الريبورتوار) كما هو حال المسرح التونسي حينها، وكذا مع المسرح المصري كما كان حاضرا بقوة هنا. وبالطبع في قطيعة أيضا مع (الكوميدي فرانسيز). وحقيقة كنت في شبابي أتطلع إلى شئ آخر .. إلى أشياء متجدده. وكنت بفطرتي واعيا بهذا. اشعر بالكبت والنقصان في مكونات ومتممات العرض المسرحي بتونس من الكتابة إلى الإخراج. ووجدت ما يشفي غليلي في فرنسا. وهذا مع تعدد التجارب التي عشتها كطالب في باريس. وانفتحت على تيارات ومدارس مسرحية مختلفة. حينها كنت كالشفاف أتلقي الضوء من هنا وهناك. ولم تكن في البداية عندي طموحات واضحة.  فقط أمتلئ بكل ما يجرى اقتراحه علي. وفي فترة متقدمة من هذه المرحلة الباريسية اكتشفت أشياء شدتني ومستني أكثر من غيرها. وهذا مع  أعمال كبيرة لكل من (جان فيلار) الفرنسي و(بيكولو تياترو) الإيطالي  و(جروتوفسكي) البولندي ومسرح الدمى الأمريكي و(التياترو كومبوزيتو)» وغيرها. وشيئا فشيئا جاء الانحياز إلى مسرح بديل غير أكاديمي أو تقليدي». 
 وأشاكسه بأن أطرح عليه ما يقوله نقاد بأنه تأثر كثيرا وبخاصة في أعماله الأولى بالألماني «بيرتولد بريشت». 
فيهز رأسه موافقا. ثم يجيب ضاحكا قبل أن يعود إلى طابعه الجاد: «من يقول هذا: النقاد أم المشعوذون؟.أنا لم أذكر لك بريشت لأني اضعه حقا في مرتبه استثنائية». 
ويضيف: «أسعدني الحظ في شبابي أن أتفرج على مسرحية (الأم شجاعة وأبنائها) لبريشت من إخراجه، وكما مثلتها زوجته ورفيقة دربه (هلينا فايجل). وحينها راجعت كل ما درست عنه من الناحية النظرية في السربون. في تلك اللحظة اكتشفت مسرحا حيا بديلا مشاكسا سياسيا لا مثيل له. هذه الفرجة / اللحظة / الاكتشاف أظنها كانت بين عامي 69 و1970. وهكذا اعتنقت نظريته. لم أكن شيوعيا، ولم أنتم يوما إلى حزب سياسي أبدا. لكن ميولي منذ الشباب وإلى اليوم ما زالت يسارية. وأنا سعيد بهذا. أكره الظلم وأحب العدالة والحريات والتعددية بمختلف أنواعها».
 يسحب بقوة دخانا من سيجاره الرفيع وهو يرتدي ملابس تجعله في هيئة أقرب إلى «ماو» الصيني. ويضيف «الفاضل الجعايبي» الذي ارتبطت مسيرة حياته وفنه بزوجته الكاتبة والممثلة التونسية البارزة «جليلة بكار» وعلى مدى أكثر من أربعين عاما: «هذا العمل الوحيد الذي حضرته لـ(هلينا فايجل) دفعني لأن أفهم علاقة بريشت بزوجته الفنانة. هو يتعامل معها كممثلة استثنائية.  وحقيقة لم ولا أدرى من أخذ من الآخر أكثر. هل أخذت هي منه أكثر مما اخذ منها، أم العكس؟. ونحن نقول وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة. وهذا ما شعرت به حينها عندما تفرجت على هذا العمل في برلين، وحيث ذهبت خصيصا للفرجة على العديد من أعمال بريشت، وتعلقت بمنهجيته وبطروحاته المسرحية أكثر من أسلوبه وأشكاله. فأنا بريشتي وستانسلافسكي وجروتوفسكي معا. وأنا هو أنا».وكررها: «أنا أنا». 

ذاكرة مسرح الجنوب بقفصة
 يمر «الفاضل الجعايبي» سريعا على أول عمل مسرحي له عندما كان في فرنسا وعمره نحو 25 سنة «ثلج في الصيف» للكاتب الصيني «جوان هان تشينج». كما يقفز خلال حوارنا متخطيا إخراج مسرحيتين تحملان عنواني «مواقف صامته» (تأليف جماعي) و«السيد ميم» عن «بيتر فايس» في المرحلة التأسيسية لفرقة «الكاف» شمال غربي تونس تحت قيادة الفنان المسرحي البارز»المنصف السويسي» بين 70 و1972.  و«الفاضل» يعتبر أن انطلاقته الأولى كفنان مسرحي تونسي جاءت مع تجربة «قفصة» وتأسيس فرقتها برعاية وزارة الشئون الثقافية العام 1972. وتقع قفصة على بعد نحو 350 كيلوا مترا جنوب غربي العاصمة.  وفرقتها المسرحية هي الثانية بعد «الكاف «في مخطط اللامركزية المسرحية الذي رعته  الدولة التونسية انطلاقا من الستينيات، وقد واصبحت اليوم مراكزة وفرقه تنتشر في ولايات الجمهورية الأربع والعشرين. 
  وبالأصل منحت قفصة الثقافة العربية والإنسانية العلامة «إبن منظور» صاحب «لسان العرب».وعندما قمت بزيارتها ربيع 2017 لاحظت أن مكتبه صغيرة لبيع الأدوات المدرسية وقليل من الكتب العامة بوسط وسوق المدينة تحمل اسمه. كما تبينت كيف ترك المستعمرون الفرنسيون من مستغلي الفوسفات بحلول نهاية القرن التاسع عشر وبدايات العشرين في مدن الإنتاج الصغيرة المسماة بمنطقة «الحوض المنجمي» آثارا لعمارة أوروبية عملية متقشفة متميزة بأسقفها ( الجمالون) الحمراء القرميدية،وبينها دور سينما أصبحت مهجورة كالكنائس. وهذا على خلاف شبكة السكك الحديدية الحية، التي تحمل إلى اليوم الفوسفات إلى الموانئ بقابس وصفاقس. 
 يعود «الجعايبي» بذاكرته إلى قفصة مطلع السبعينيات، فيخبرني ويحكي بحماس وتدفق. لكنه بداية ينبه إلى وعيه بفعل الذاكرة، قائلا: «هي تغربل. تأخذ وتترك. وأنا أخذت ما أردت أن آخذه معي إلى قفصة في تجربتي بها لنحو أربع سنوات. نحن نختزل ونترك أشياء ونتمسك بأخرى. وهذا بحكم عديد من الاعتبارات  الفكرية والفلسفية والوجودية والمادية الحياتية وبالاحتكاك مع عوالم متعددة وأناس آخرين». ويوضح: «كان تكويني الأساسي العملي مسرحيا بقفصة السبعينيات. وهناك أهم خبرة أخذتها واحتفظت بها هي هذا التفاعل مع عمال المناجم وأناسها العاديين ومثقفيها. كان من المفترض أن أعود إلى السربون بباريس لاستكمال الدكتوراه التي قطعت في مشوار دراستها عاما كاملا،  لكنني بقيت هناك في قفصة ونسيت الدراسة الأكاديمية وطموح استكمالها. وكنا مجموعة من الشباب المولع والدارس للمسرح تشكلت خبراتنا إلى جانب فرنسا في إيطاليا وبولندا وبريطانيا. اجتمعنا وقررنا أن نؤسس (مسرح الجنوب) بمساعدة وزارة الثقافة. ففي قفصة المنجمية الحية الزاخرة بالكفاءات والتراث الشعري والأدبي حياة نضالية اجتماعية كبرى. وهناك اشتغلت على مسرح بديل مع عمال المناجم. وبالفعل كانت نسبتهم عند تأسيس الفرقة نحو 70 في المائة من كوادرها، والبقية جاءت من تلاميذ المدراس الثانوي وهواة المسرح هناك». 
 وأسأله: هل إلى قفصة ومبكرا يعود أسلوبك الجماعي التفاعلي في الإخراج مع فريق المسرحية ؟وهل ترجمته مع عملك الأول بقفصة «جحا والشرق الحائر»؟، فيجيب: «في البداية كان بيننا كاتب نصوص مسرحية. وهو أول مدير للفرقة (محمد رجاء فرحات). وانطلقنا معا من اقتباسات ومعالجات لنصوص من المسرح الأوروبي، بما في ذلك مسرحية (جحا والشرق الحائر) التي كتبها فرحات انطلاقا من نص لـ(جولدوني). كما كتب مسرحية عن القائد النقابي العمالي التونسي (محمد على الحامي) وباسمه. ولقد قمت بإخراجه بأسلوب ملحمي تأثرا بـ(بريشت). حقا في البدايات بقفصة لجأنا إلى استعادة نصوص عالمية (ريبورتوار) ومعالجتها. لكن شيئا فشيئا إتجهنا إلى الآن وهنا. أي من الواقع القفصي مباشرة بمشاغله ومشاكله وأحلامه وتناقضاته. انطلقنا من اهتمامات وهواجس المضطهدين في قفصة ومن تاريخهم وذاكرتهم. وهكذا مع هذا الاختيار جاء الاقتناع بأن النص يخرج من الارتجال على الركح (الخشبة) والانطلاق من فكرة أو هاجس أو مشكل أو موضوع أو حادثه، ثم يتناوله الممثلون على الركح بصورة جدلية تفاعليه.  وهو جدل وتفاعل يتطور عبر الأعين الخارجية للكاتب والمخرج والسينوغراف، ومن خلال طاقات متكاملة متناقضة آتية من معاناة الممثل العفوي». 

غادر كالمطرود إلى مسئولية بالعاصمة!
  واستنادا إلى ما لمسته عند زيارتي قفصة من احتقان بين العمال والأهالى من جهة وإدارة شركة الفوسفات وسلطة الدولة بقفصة من جهة أخرى، سألت عن كيف يتذكر العلاقة مع الرقابة حينها، فأجاب: «كنا مطاردون من اليوم الأول. ولقد اعتبر الرقباء أنهم مسئولون عن السلامة الفكرية والاجتماعية والفنية لهؤلاء المسرحيين المشاكسين القادمين من أوروبا. حقا كنا تحت الرقابة إلى أن طردونا من قفصة، أو اضطررنا لمغادرتها. وكنا في البداية قد تمكنا من أن نعرض هناك في الساحات العامة والسجون والمستشفيات.  وسرعان ما منعوا العديد من العروض، بما في ذلك مسرحية (جحا والشرق الحائر). وجئنا بالعمل نفسه إلى تونس العاصمة فمنعوا عرضه بها. ثم جرى إطلاق سراحه بعد فترة، وسجله التلفزيون الوطني بالأبيض والأسود. لكن استمرت المطاردات بأساليب مختلفة وفي وقائع متعدده. وأصابنا الشك بجدوى نضالنا المسرحي في قفصة وعواقبه ولما يجرى من جانب الرقابة البوليسية والمسرحية. وقلنا ربما تكون الطرق مفتوحة أكثر في العاصمة تونس، فجئناها وكأننا مطرودون. والطريف أن الروائي والكاتب الكبير (محمود المسعدي) وكان وزيرا للثقافة طلب مني أن أدير المركز الوطني للمسرح بالعاصمة قبل أن يصبح المعهد العالي للفن المسرحي، فاستجبت وقمت بإدارته بين عامي 74 و1978 بعد تجربة قفصة مباشرة، ومع نفس المجموعة تقريبا التي كانت قد أسست معها هذه التجربة».

 فرقة المسرح الجديد تبدأ بـ«العرس»
 يتوقف «الفاضل الجعايبي» بتقييم إيجابي عن دوره التعليمي والتكويني (التدريبي) بشأن تدريس المسرح بالعاصمة، فيقول: «هنا علمت وأيضا تعلمت المسرح ومارسته. غيرنا أساليب التدريس بالمركز / المعهد ومادته ومناهجه. كانت عملية ثورية بحق عل مستوي المنهجيات وتناول اللعبة المسرحية، وبشأن طرح أسئلة: ماهو الفعل المسرحي ؟ وماهي غايته؟، هل هو ترفيهي؟، هل هو يضحك ويبكي ليس إلا؟. أم أن له غاية أنبل من أجل الارتقاء بالوعي والذوق؟.  وأجبنا على أسئلة، لكن بقيت أسئلة أخرى لاتنتهى. وكنا نشتغل على التدريس والتكوين (التدريب) وفي الوقت نفسه على  الإنتاج.  لكن حدث ملل من مطاردات الرقابة البوليسية والإدارية،  فقررنا الخروج إلى تأسيس ( فرقة المسرح الجديد) اعتبارا من العام 1976. وهذه اعتبرها أول فرقة مسرحية مستقلة، وإن كان الاستقلال ليس تاما وبالكامل. وهذا لأن سلطة الرقابة تظل قائمة، حتى لو اتجهنا إلى الاستقلال المالي عن الدولة». 
   لقد بحثت فرقة المسرح الجديد ـ التي أسسها مع «جليلة بكار» وفنانين آخرين ـ عن مكان للعرض، ووجدت ضالتها في فضاء بالمدينة العربية العتيقة بالعاصمة. لكنه ها هو يعود مجددا «برشتيا» مع الانطلاق من ومع مسرحية «العرس» وهكذا يعود «الجعايبي» ليتقاطع مع «بريشت» مرة أخرى. وهنا يقول: «اشتغلنا عليها، ومسرحيتنا تبدأ من حيث ينتهى النص. أي عندما يغادر الضيوف ويبقي العريس والعروس وجها لوجه. وحقا  أنا اعتبر هذه المسرحية بمثابة تأسيس لمسرح بديل وجديد في خطوطه الكبرى. ونجحت عروض المسرحية نجاحا كبيرا. وبالطبع لاحقتها المطاردات. وناضلنا في التصدي للرقابة وضد محاولات حذف عبارة أو كلمة أو حرف. لكن حقا كان هناك مسئولون سياسيون أذكياء. وهم عرفوا كيف يتأقلمون مع الفنان التونسي الشاب. وهذا مع أن الأغلبية رفعت علينا العصا». 
  يتوقف قليلا ليتأمل أو كأنه يريد أن يؤكد على أمر ما أو يستدعى المزيد من الذاكرة. ويقول: «أنا اعتقد وما زلت أن لا مكان للمسرح إلا إذا كان سياسيا مشاكسا يواجه الإعلام الرسمي والمنظومة التربوية والثقافية السائدة». ويضيف: واصلنا طريقنا مع فرقة (المسرح الجديد)، وقدمنا مسرحيات ( غسالة النوادر) و(تحقيق) و(لام) و( عرب). والأخيرة اعتبرها بمثابة تكثيف واختزال لتجربتنا الفنية في فرقة المسرح الجديد، والتي استمرت لنحو 18 عاما. وعلى أنقاض هذه التجربة اتفقنا واختلفنا وافترقنا. لكن بقيت نواة ليس فيها إلا جليلة بكار وأنا «. 
من «فاميليا» إلى المسرح الوطني
  لعل هذه النواة العائلية هي التي دفعت إلى تسمية فرقته التالية «فاميليا» التي أسسها بدوره قبل منتصف التسعينيات، ودامت بدورها لنحو عشرين سنة. وخلالها قدمت «يحيى يعيش» التي قال النقاد أنها تنبؤ بالثورة التونسية 2011 من خلال تراجيديا مسئول سابق بعد إقالته، و«تسونامي» التي توقعت  ـ برأي النقاد أيضا ـ بصعود التطرف والإرهاب الديني وانقسام المجتمع على أساس الهوية في تونس. ومن خلال المزيد من الممارسة المسرحية والاحتكاك مع المسارح العربية خارج تونس، ترسخت لدى «الفاضل الجعايبي» مفاهيمه التي يعتبرها بديلة. وعندما اسأله اليوم عن أبرز ما أصبحت عليه مفاهيمه النقدية للمسرح التونسي والعربي، يجيب قائلا: «كنت اشك في فكرة أن المسرح نص أو لا يكون. ومع مزيد الممارسة أظن أن المسرح فن يشمل النص وقد يستغني عنه. ولقد كنت في حاجة لأن انطلق من الآن وهنا. وهذا ما فعلت وأفعل. وتحررت أكثر من (الريبرتوار). وكنت قد اكتشفت وتيقنت بأن المسرح العربي متقهقر وأكاديمي وسخيف منمط لأنه تحت الرقابة. وهو يهرب منها فيلجأ إلى النصوص العالمية الكبرى. وأنا اعتقد بأن القضايا الصغرى هي التي تصنع كل كبير إذا ما عالجناها بروح جديدة وأشكال متجددة. كما اعتقد بأننا بحاجة إلى التخلص من الاقتباس والإسقاط. وهذا لأنه لا يساعدنا في فهم الحاضر والمستقبل أو حتى الماضي».
  ويضيف: «أنظر المسرح في الغرب سبقنا بآلاف السنين. فقط نحن عمر مسرحنا قرن ونيف،وكأننا بقينا وأبقينا على أشكال وأنماط تجاوزها الزمن. وأنا اعتقد أن هناك إمكانات وآفاق لتطور المسرح في الجزائر وتونس والمغرب أكثر من مصر ولبنان اليوم. ولعلنا هنا أكثر انفتاحا. ولعل متفرجينا أكثر فرجة على تجارب متنوعة متقدمة».  

«العنف» و«الخوف»
 كان آخر ما قدمه مسرح «الفاضل الجعايبي» قبل إجراء هذا الحوار مسرحيتي: «العنف» و«الخوف». وكنت قد شاهدت «الخوف» في مطلع 2018 على خشبة «الفن الرابع» بتونس فلاحظت ـ كما بشأن «العنف» التي شاهدتها من قبل على ذات الخشبة وبعدها بالمسرح القومي بالقاهرة ـ الاقتصاد في الحوار والديكور وقوة أداء الممثلين، تتقدمهم جليلة بكار (في «العنف») ناهيك عن الفنانة «فاطمة سعيدان» وآخرين. كما لاحظت التوظيف الإبداعي للإضاءة في العملين وسطوة الصوت (عواصف ورعود) في «الخوف» على نحو خاص. وثمة في العملين «العنف» و«الخوف»، اللذين انتجهما المسرح الوطني بتونس عامي 2015 و2018 على التوالي، إيقاع تشاؤم تعززه مساحات  صمت وإعتام لافته. 
   وأسأل مخرجهما «الجعايبي» عن كل هذا، فيقول: «طبيعي أن التقشف الذي لاحظت. هو بالنسبة لي  درب من دروب السهل الممتنع. اشتغلت وجليلة بكار والممثلون على كتابه تنطلق من  الخشبة وليس النص. وهكذا تصل إلى جملة واحدة تختصر أربع جمل، أو إلى مجرد إيماءة أو حركه تلخص ما قد  يحتاج إلى نصوص تطول. نحن نبتعد عن الثرثرة في الصورة والكلمة والحركة والهذيان الأدبي والكلام الرنان والتركيبة الشعرية أو النثرية. فالمسرح كما أراه ينطلق من الواقع، لكنه يختلف عنه. هو يبسط الأشياء و(يؤسلبها) على طريقته وبجمالياته هو».
   وأسأله عما قد ينتقل إلى المتفرج من تشاؤم عن هكذا معالجة في «العنف» عبر خمس حوادث قتل اعتباطي وفي «الخوف» لمجموعة من الكشافة متنافرة تسودها علاقات التسلط والقهر وهي بالأصل تائهة في مستشفى مهجور تضربه العواصف، فيجيب: «قناعتي أن الإنسان كائن يسكنه وحش نائم، عندما يستيقظ يأتى على الأخضر واليابس.  ومع هذا فكلما أظلمت الأمور وتوحش الإنسان ونزل إلى سافل وحشيته من قتل وتدمير يبقي بصيص من أمل. وعندما أقدم العنف والخوف على المسرح فإنني أحدث رجة في نفس الإنسان المتفرج ووعيه وذاكرته كي يرد الفعل. وكي نذهب إلى التذكر والاستفاقة. وبهذا فإن وراء كل عنف وخوف بصيص أمل. ولنستفق حتى نبلغ هذا البصيص». ويضيف: «أنظر صباح كل يوم يجرى قتل آلاف الناس في أنحاء العالم ظلما وقهرا، فلابد أن نستفق. وفي  مسرحية مقبلة تتمم مسرحيتي «العنف» و«الخوف» لتصبح ثلاثية ـ مسرحية بعنوان «الحلم» (**) ـ  هناك أيضا أجواء كابوسية، لكن مع هذه الازدواجية داخل الإنسان. فهو يحلم ويتوق إلى الأفضل، فتخرج الضغوط اليومية والمشاكل المتفاقمة الوحش الكامن بداخله. وهنا الصراع الذي يجعلني أتحدث بشأن هذه المسرحية عن (التشاؤل) على غرار ما نحت المصطلح الأديب الفلسطيني الراحل إميل حبيبي».

صراع مع رقابة الجمهور والذات
   يبلغني «الجعايبي» أن المسرحية الواحدة يتطلب إعدادها تفاعلا مع الممثلين وعناصر العمل شهورا ممتدة. ويضرب أمثلة لمسرحيات له استغرق إعدادها نحو العامين. وأسأله عن الاختلاف بين عرضي «العنف» اللذين شاهدتهما بتونس والقاهرة مع فارق زمني نحو العامين، فيجيب: «تستمر المغامرة الإبداعية. نقدم مسرحيات بمتوسط 120 إلى 150 عرضا، وأحيانا تصل إلى خمسمائة.  ونحن نقاوم أن يكون المسرح فن بال ينتهي مع ختام العرض. وأنا أرى أن فكر الجمهور ووعيه تفاعلا مع المسرحية يتطور من عرض لآخر. وهكذا تستمر المغامرة مع نفس المجموعة من الممثلين التي  تقدم المسرحية من عرض لآخر. ونحن معا نتحاور يوميا. ولذا فعرض( العنف) الذي شاهدته في القاهرة خريف 2018 يختلف كثيرا عما كان في تونس قبلها. لا أقول يختلف جذريا.. بل كثيرا. وهنا نحن نستغل خاصية أن المسرح فن حي يتغير كل يوم ومع كل عرض وإلى أقصى حد. وهذا على عكس الشريط السينمائي واللوحة الزيتيه والقطعة الموسيقية. فالمسرح لابد أن يتغير ويتقدم. والمفترض أن نطور المسرحية ونفاجئ بها المتفرج من يوم لآخر، ودون أن نحرفها أو نخونها أو ننمطها. وهذا لأن الجمهور خطير ..هو أخطر من الرقابة».
  وأسأله عن رقابة الجمهور وعن الرقابة الذاتية كما يراهما، فيقول: «عشنا فترات كانت رقابة السلطة لا تطاق.  لكنني أصبحت اعتقد بأن رقابة  المتفرج أخطر ومعها  الرقابة الذاتية. وهذا لأن  المتفرج جرى تنميطه، ولأن رقابة هذا المتفرج مستمرة إلى يومنا هذا وستستمر. والأدهى هي الرقابة الأخلاقية الدينية والاجتماعية والسياسية. وحقا فإن التلفزيون يقوم على هذا التنميط  وتغذية هذه الرقابة وماهو هابط، علاوة على انحدار مستوى التعليم والثقافة في العالم العربي. وأنا اشدد على التلفزيون لأنه لا يعرض إلا المسموح به «. وأعود لأسأله بشكل مباشر عما إذا كان هو نفسه قد يقع في الرقابة الذاتية، فيجيب: « لست متأكدا. وهذا لأنها تذهب إلى الوعي السفلي. ربما تأتي رغم أنفي. وطبعا أنا في حالة صراع دائم معها، وأحاول قدر المستطاع مواجهتها. وأتمنى أن يكون حجمها وضغطها قليلا بالنسبة لي. فأنا لا أريد أن اخون انتظارات المتفرج».   
 ويضيف: «عبر الأجيال تقلصت قيمة المعرفة والإدراك والوعي الأعلى. تقهقرت النخبة والمثقفين. هي ظاهرة عالمية، لكنها عربية أكيدة. وهذا التقهقر هو الذي أبعد الناس عن الفرجة المسرحية التي تتطلب المعرفة وبذل الجهد والتركيز. وأصبح الناس والفنانون يذهبون إلى الترفيه السهل. وأنا بالأصل لست ضد الترفيه. لكنني ضد الترفيه الهابط واستسهال الفن والكلاشيهات، وما يطمئن ولا يقلق. وأنا أكره القطيع، وأدعى أنني اصنع مسرحا نخبويا للجميع».
     
«الفاضلان»  الرفيقان يعودان
  افترق «الجعايبي» مع نهاية تجربة فرقة «المسرح الجديد» عن رفاق عديدين من بينهم «الفاضل الجزيري». لكن هاهو الرفيق يعود، ويلتقيان في المسرح الوطني. فبحلول خريف 2019 احتضنت «قاعة الفن الرابع» التي تتبع هذا المسرح وتسع 375 مقعدا مسرحية «كاليجولا» البير كامو من إخراج «الجزيري». وهذا بعد تولي «الجعايبي» مسئولية إدارة المسرح الوطني التونسي بنحو خمس سنوات ( اعتبارا من يوليو 2014) .وكانت قد قدمت قبلها  ـ وفق قائمة حصلت عليها ـ سبعة أعمال، من بينها ثلاثة عروض تقوم على الرقص والكورجرافي هي: «الهاكم التكاثر» و«نشوة الأعماق» و«أنا سمعت أنا شفت»(*). يخبرني «الفاضل الجعايبي» عن تفاؤله بمصالحة المتفرجين على المسرح الوطني التونسي . ولأنه أيضا مؤسسة تعليمية تكوينية (تدريبه) فهو كما يقول استطاع تخريج نحو 80 شابا وشابه من «مدرسته للممثل» عبر دارسة وتدريب وتجريب لعامين إثنين. 
  وأعود وأسأله عن المسرحية الأحدث التي شاهدتها على خشبة الفن الرابع «كاليجولا» وعما لاحظت من تشابه أسلوب «الجزيري» مع ملامح مسرحه هو وعن ابتعاد ما شاهدت على الركح/الخشبة كثيرا عن نص «كامو»، فتأتي إجابته مبتسما: «لا غرابة، فأنا والجزيري رفقاء درب. أرسينا معا (المسرح الجديد) وافترقنا في (فاميليا)، لكن علاقتنا لم تنقطع. نحن ننتمي إلى نفس العوالم والقناعات الجمالية والسياسية. وكاليجولا هذه تتبعه هو مع أن صاحب عنوانها أصلا (كامو) . هذه (كاليجولا) تنطلق من الخشبة وليس من النص. وهذه هي مدرستنا كلانا». 

هوامش
(*) عروض الرقص والكروغرافي هي على التوالي من إخراج وسينوغرافيا «نجيب خلف الله» و«إيمان السماوي» و«حمدي الدريدي» إنتاج أعوام 16 و17 و2018 . أما الأعمال المسرحية الدرامية الأربعة الأخرى قبل عرض «كاليجولا» فهي: «العنف» لجليلة بكار والفاضل الجعايبي 2015 و«حين رأيتك «لصالح فالح 2017 و«الخوف» لبكار والجعايبي و«قزح» لأيمن الماجري 2018 .وقد تأسس المسرح الوطني بتونس  عام 1983.
(**) لم تخرج هذه المسرحية للنور بعد وإن كان الفاضل الجعايبي قد قدم مطلع العام في تونس مسرحية بعنوان «مارتير».. أي «شهيد».


حاوره في تونس: كارم يحيى