عبد القادر علولة.. تعاونيات وهران ومسرح الحلقة

عبد القادر علولة..   تعاونيات وهران ومسرح الحلقة

العدد 765 صدر بتاريخ 25أبريل2022

عبد القادر علولة – شهيد المسرح الجزائري – أحد الأسماء البارزة في تاريخ المسرح العربي المعاصر، فهو فنان شامل.
ولد «علولة» عام 1929 في مدينة «الغزوات» بمحافظة «تلمسان» في غرب الجزائر، درس الدراما في فرنسا، وفور عودته من بعثته الدراسية انضم إلى المسرح الوطني الجزائري وكان من المساهمين في إنشائه عام 1963، بعد الاستقلال مباشرة.
وقد تميزت كتاباته المسرحية بأن بعضها كتب باللغة العامية الجزائرية وبعضها بالفصحى ومنها مسرحيات «القوال» 1980، و «الأجواد» 1985، و «الشام» 1989، و «التفاح» 1993، و «أرلوكان خادم السيدين» 1993، وكان قبل مقتله في يناير 1994 يتهيأ لكتابة مسرحية جديدة بعنوان «العملاق» ولكن يد الإرهاب الأعمى كانت أسرع فاغتالته في 10 مارس 1994.
وقد اهتم الفنان الراحل بمسرح «الحلقة»، وقدم كثيرا من عروضه من خلال تقنياته المتنوعة.
وتعد مسرحيته «المائدة» من أشهر أعماله التي كتبها لفرقة «وهران» المسرحية بمشاركة جماعية، وتدور أحداثها حول مجموعة من الطلبة الذين تطوعوا إبان الثورة الزراعية للنزول إلى الفلاحين في قراهم لشرح أهداف الثورة وفوائدها بالنسبة لصغار الفلاحين.
وقد بدأ الطلبة بقرية «المائدة» فذهب بعضهم إليها واتفق مع السلطات أن يأتوا في الأسبوع القادم بكل قوتهم لعقد لقاءات مع الفلاحين كما طلبوا من السلطات عدم تحمل أي نفقات ولا حتى الطعام لأنهم متطوعون. وحين عاد الطلبة في الأسبوع التالي كان مسئولو القرية في انتظارهم وقد أعدوا لهم نزهة خلابة في الجبال استهلكت معظم النهار تقريبا ثم أعقبها حفل عشاء فاخر تشوى فيه عجول كاملة.
تنبه الطلبة للمخطط فتسلل بعضهم خلسة إلى القرية، واجتمعوا مع بعض الفلاحين فوجدوهم لا يعلمون عنهم سوى أنهم بعض المسئولين في زيارة للقرية وقد جاءوا للتنزه، أمال اللقاء الذي رتبته السلطات فقد كان مع إقطاعي القرية. وقد كان هؤلاء هم الإقطاعيون المتضررون من الثورة الزراعية، وقدموا أنفسهم بوصفهم فلاحين فقراء، فعاد الطلبة إلى المدينة وكتبوا تقريرا رفعوه للمسئولين، وقد أطلع «علولة» وزملائه على هذا التقرير فكتب نص مسرحية «المائدة» والتي كانت البداية الحقيقية لعروضه «الاحتفالية» التي استلهم فيها روح المسرح الشعبي، فانطلق هو وفرقته في القرى المختلفة حتى بلغ عدد العروض التي قدمها في هذا الإطار أربعين عرضا. وكان جمهورها من الفلاحين البسطاء، الذين شاركوا في العرض بالتمثيل والمناقشة،، حيث كان يجلس فلاحو القرية على شكل حلقة دائرية كأنها حلقة سمر. ثم تطورت الفكرة فأنشأ «علولة» ورفاقه فرقة مسرحية تحت اسم «تعاونية أول مايو» والتي قدمت في إطار العمل الجماعي في الفترة مابين 1985 وحتى 1994 عشرات الأعمال التي استلهمت الموروث الشعبي في سياق الواقع الراهن.
وهذا ما أشار إليه «علولة» في محاضرة ألقاها في برلين سنة 1987، في المؤتمر العاشر للجمعية الدولية لنقاد المسرح، تحدث فيها عن الطريق الذي قاده إلى اكتشاف «مسرح الحلقة» وبالتحديد عن طريق احتكاكه بالواقع الحي حين كان يتنقل بفرقته في جولات فنية لتقديم العروض خارج صالات العرض التقليدية في الحرم الجامعي أو مع عمال الورش والمصانع أو مع الفلاحين في الحقول فيقول: وفي خضم هذا الحماس، وهذا التوجه العارم نحو الجماهير الكادحة، والفئات الشعبية، أظهر نشاطنا المسرحي ذو النسق الأرسطي محدوديته، فقد كانت للجماهير الريفية أو ذات الجذور الريفية تصرفات ثقافية خاصة بها تجاه العرض المسرحي، فكان المتفرجون يجلسون على الأرض، ويكونون حلقة حول المسرح، وفي تلك الحالة كان الأداء يتغير، وحتى الإخراج المسرحي الخاص بالقاعات المغلقة ومتفرجيها الجالسين إزاء الخشبة، كان من الواجب تحويره، كان يجب إعادة النظر في كل العرض المسرحي جملة وتفصيلا».
وأمام هذا الوضع وجد «علولة» وزملاؤه في الفرقة أنفسهم مرغمين على إدخال بعض التعديلات، فألغوا في البداية جزءا من الديكور، لكنهم تدريجيا تخلو عنه نهائيا، ولم يبق في الفضاء المسرحي سوى بعض الاكسسورات ذات الضرورة القصوى، وقد أعقب هذا التعديل في السنوغرافيا تعديلا أكثر حيوية في الأداء التمثيلي، نظرا لأن رد الفعل عند هذا الجمهور النوعي (من العمال والفلاحين) يختلف جذريا عن رد الفعل عند جمهور المسرح العادي.
وهنا يتساءل علولة: «ما العمل عندما يكون المتفرج أمامك ووراءك؟ لقد وجب إذن إعادة النظر فيما كان عليه أداء الممثل؟» .
ويؤكد «علولة» على مجموعة من النتائج التي استخلصها من التجربة قائلا: «عن طريق هذه التجربة التي استدرجتنا إلى مراجعة تصورنا للفن المسرحي، اكتشفنا من جديد _ حتى وإن بدال هذا ضربا من المفارقة _ الرموز العريقة للعرض المسرحي الشعبي، المتمثل في الحلقة، إذ لم يبق أي معنى لدخول الممثلين وخروجهم، كل شيء كان يجري بالضرورة داخل الدائرة المغلقة، ولم تبق هناك كواليس، وكان يجري تغيير الملابس على مرآي من المتفرجين، وغالبا ما كان الممثل يجلس وسط المتفرجين بين فترتي أداء لتدخين سيجارة، دون أن يعجب من ذلك أحد» .
وبعروضه المختلفة استطاع «علولة» تجاوز المألوف المسرحي بتحطيمه للأشكال التقليدية وحقق معادلة التجريب التي قال عنها «سعد الله ونوس»: «إذا كان التجريب في أوروبا محاولة لإنقاذ المسرح الذي يموت، أوهو محاولة الخروج من الباب المسدود الذي يواجه الثقافة البرجوازية، فإن التجريب بالنسبة لنا كعرب يعني البحث عن مسرح أو خلق مسرح أصيل وفعال في المناخ الاجتماعي والسياسي الراهن».
وعلى حد تعبير الناقدة «حورية غجاتي» فإن تجربة عبد القادر علولة انطلقت من شكل موجود من أشكال الفرجة المسرحية، ثم تجاوزه بتطوير آلياته الدرامية، الأمر الذي جعله يحوز بجدارة عن مسرحية «الأجواد» على الجائزة الكبرى في مهرجان قرطاج الدولي في تونس عام 1985، تلك التحولات في الرؤية التي فال عنها «علولة»: 
«نبهتنا تجربة عرض مسرحية «المائدة» سنة 1972 ‘لى وجود ثقافة شعبية تتعامل مع تراثها وتطالب ببناء مسرحية أخرى، لقد انطلقنا بالمسرحية بديكور ضخم وعرضناها في مختلف التعاونيات الزراعية ولاحظنا أن الجمهور يحيط بفضاء العرض ويكون حلقة بصفة طبيعية ورويدا رويدا بدأنا في حذف أجزاء الديكور حتى يتسنى للمتفرجين مشاهدة العرض، مما أدى إلى تغيير شكل اللعب والتمثيل نظرا لوجود فضاء جديد، هناك طاقات سمع حية وذاكرة شفوية, ولما خضنا تجربة اللاديكور وجدنا المتفرج يدير ظهره ويسمع النص أكثر مما يشاهده. ولما حللنا التجربة تأكدنا من ضرورة البحث عن بنية مسرحية و أشكال تستجيب للثقافة الشعبية والخيال والمكونات الموجودة لدى الجمهور».
ومن هذا نرى أن تجربة التعاونية «كانت تهدف إلى تحرير الفن والفنان من القيود والأشكال التنظيمية الكلاسيكية فالعلاقة بين الجميع ديمقراطية, وإذا أراد كاتب أو مخرج من التعاونية تقديم عمل فعليه أن يقدم النص إلى مكتب التعاونية الذي يطرحه بدوره على جميع الأعضاء, وعلى الفنان مقدم العمل أن يناقش عمله في ندوة أو ندوات مع أعضاء التعاونية تعقد خصيصا لهذا ، فقد كشفت لهم الدراسات العميقة للمسرح الشعبي أنه مسرح كامل يعتمد على الطاقات السمعية أكثر من اعتماده على الطاقات البصرية.» 
كذلك «لم يقف «علولة وفريقه مبهورا ومنزعجا أمام التجربة المسرحية الأوروبية، بل درسها شأنها شأن أي تجربة ثقافية أسيوية أو أفريقية... ولم يشعره الهجوم الفرانكفوني بالدونية كما لم يدفعه الابتزاز الأصولي إلى الانغلاق أو النظرة الضيقة أو رفض التحديث كما يفعل  بعض المتحدثين باسم الدين.. بل مارس في ميدانه تحديثا أصيلا غير مقطوع الجذور بثقافته وشعبه في آن واحد وكان يقدم شخصه وتجربته وروحه العربية الفياضة التقدمية ردا عمليا على النزعتين الثقافيتين المتصارعتين والأعلى صوتا في الجزائر.. الفرانكفونية والأصولية وهما وجهان لعملة واحدة اسمها مأزق الرأسمالية التابعة في الوطن العربي وفي الجزائر خاصة» .
ولم تقتصر تجربة «عبد القادر علولة» على الكتابة المسرحية والإخراج المسرحي بل شارك كممثل في عدة أفلام سينمائية جزائرية من بينها «الكلاب» 1969 و «الطرفة» 1971 من إخراج شريف الهاشمي، كما أخرج «علولة» مجموعة متن الأعمال المسرحية لمؤلفين معاصرين مثل توفيق الحكيم ولوركا و بريخت ومكسيم جوركي وغيرهم.


عيد عبد الحليم