آليات فهم الأداء المسرحي (1)

آليات فهم الأداء المسرحي (1)

العدد 683 صدر بتاريخ 28سبتمبر2020

المشكلة: 
 تحتاج العروض المسرحية إلى الزمن لتقديمها، وتحتاج الزمن لتلقيها . والزمن الذي يتلقى فيه المشاهدون العرض المسرحي هو نفس زمن تقديمه . 
 وتتكون العروض المسرحية من أحداث مرتبة في تتابع . ولا داعي لأن يكون تتابع الأحداث في عرض أداء معين لمسرحية هو نفس التتابع في كل عرض . ويمكننا أن نتخيل عرضا يتم فيه ترقيم الأحداث، وعند الوصول إلى ليلة العرض الأول، تستقر الفرقة علي ترتيب المشاهد وتسحب الرقم المطابق للمشهد من مجموعة الأرقام . بوضوح، يمكن أن تكون كل ليلة أداء للعرض مختلفة عن كل ليالي الأداء الأخرى . وبنفس الوضوح رغم ذلك، سوف يتم ترتيبها ومعايشتها بواسطة المشاهدين بذلك الترتيب فقط، حتى ولو كان ذلك الترتيب بشكل عشوائي. وربما نريد أن نقول أنه يتم اختيار الأداء بشكل عشوائي عموما . 
 وإذا لم يرتكب المؤدي خطئا، فان المشاهدون يعايشون العروض المسرحية بنفس نظام ترتيب مشاهدها. علاوة علي ذلك، يعايش المشاهدون الأحداث تقريبا بنفس وتيرة السرعة التي رتبها بها الفنانون . وقد تكون التعريفات مطلوبة بشكل عفوي أو نموذجي، لأن المؤدين، لأسباب متنوعة، يؤدون تتابع الأحداث بشكل كلي أو جزئي، وبشكل أسرع أو أبطأ مما خططوا له . 
 في كل هذه الاعتبارات ربما يقال إن الأداء المسرحي شكلا فنيا زمنيا . وهناك شيء آخر، اللحظات الفردية في الأداء المسرحي، وهي « شرائح المدى الزمني صفر zero-duration-time-slices “، إن جاز التعبير، إذ لا تعد شيئا في معايشة الأحداث التي يتكون منها الأداء المسرحي . إذ يمكن تصوير الأداء المسرحي سينمائيا نتيجة للحظات معينة في المشاهد الفردية يمكن إخراجها لتأملها بدقة وتذوقها كصور في ذاتها . ولكن هذه الصور يمكن أن تكون إطارات جامدة من فيلم الأداء، وليست أجزاء موسعة غير مؤقتة للأداء لكي تُشاهد في ذاتها، لأنه لا يوجد شيء في الأداء المسرحي يتطابق مع هذا الوصف . وهذا لا يعني أن ننكر أن المؤدين يمكن أن يوقفوا الحدث في المسرحية ويسمحون، عن طريق لحظة متوقفة، لشيء أن ينتظم مع المشاهدين . ومثل هذه الأطر الجامدة، إن كان هذا ما نريد أن نسميها به، ليست فقط ممكنة، فربما تكون أجزاء مؤثرة جدا من المسرح. ولكنها ليس مقدمة أو معاشة كلحظات لابد أن تفهم في ذاتها بمعزل عن باقي تتابع الأحداث التي تضم الأداء . بالطبع، سوف تٌعاش قيمتها كأجزاء من المسرح بالتحديد بسبب ارتباطها مع وتباينها مع التذكير بالأحداث . 
 وهناك ميزتان أخرتان من مميزات الأداء المسرحي تتبعان تلك المميزات المذكورة حتى الآن . أولا، لا يوجد تراجع في الأداء المسرحي وأن نأخذه ككل في مشاهدة واحدة . ثانيا، لا يوجد أيضا رجوع إلي الخلف أو تقدم إلى الأمام خلال الأداء لكي للتحقق إذا كنا علي صواب في المرة الأولى، لكي تذكرنا من هي الشخصية التي تقدم لنا فعلا أو أن نكتشف ما سيحدث لها فيما بعد . 
 والإشارة إلى هذه الممارسات والطاقات، المميزة لما يمكن أن نفعله مع الأفلام والروايات ربما تكون مفيدة لتمييز الأداء المسرحي عن أشكال الفن الأخرى . ولن أقدم رأيا فيما يتعلق بذلك . وأقدمها هنا لكي أطرح سؤالا مختلفا، وهو تحديدا، ما معنى أن نفهم الأداء المسرحي تسليما بأن له هذه الخصائص المؤقتة ؟ .
 الإجابة الواضحة والبسيطة التي سوف أقدمها هي أننا لكي نفهم أداء مسرحيا يعني أن نفهم ما يحدث في تتابع الأحداث التي تقدم كما تحدث . وتحتاج هذه الإجابة البسيطة والواضحة إلى شروط ولها تضمينات عميقة ومثيرة . تتمثل المهام التي سوف نضطلع بها في هذه الدراسة هي تحقيق هذه الرؤية بالتفصيل ودراسة تضميناتها . 
نموذج مفيد :
 سوف أركز في هذه الدراسة علي فهم المسرحيات، والتي أعني بها العروض المسرحية السردية ( بمعنى التي تتضمن قصة ) . فليست كل العروض المسرحية مبنية بطريقة سردية . وهذا يعني أن كل العرض المسرحية التي تهدف إلى حكي القصص، التي من المتوقع أن تحكيها، أو يتم تناولها كما لو كانت تحكي قصصا . وأفترض عادة أننا مازلنا نسمي العروض المسرحية غير السردية « مسرحيات « . ولكني سوف أستخدم كلمة « مسرحيات» للإشارة إلى نصوص من أجل العروض المسرحية السردية . وعندما أتحدث عن نصوص الأداء سوف أستخدم كلمة scripts. 
 ربما يبدو تضييق المجال بهذه الطريقة تمييزا غير مبرر للمسرح السردي علي النماذج والأساليب الأخرى . وهذه المسألة بعيدة عن قصدي . فأحد أسباب معالجة العروض المسرحية السردية هو أنها من المحتمل أن تكون الأسلوب الأكثر ألفة لقراء الفلسفة . ولكن هناك سبب آخر، سبب أكثر موضوعية لكي أبدأ بالعروض المسرحية السردية . فإذا بدا أن هناك أي شكل للمسرح من المرجح أن يمثل اعتماد فن المسرح علي الفنون الأدبية و يخضع لها، فهو الأداء المسرحي السردي، فهو شكل الأداء الذي لا تتجاوز قيمته عند تناوله في كثير من الأحيان تلك الأعمال الأدبية التي تعتبر أكثر من مجرد تفسير أو توضيح لهذه الأعمال الأدبية في وسيط الأداء . والرؤية التي أقترحها لفهم الأداء المسرحي السردي تضعف رؤية أن المسرح يعتمد علي الأدب . علاوة علي ذلك، أعتقد، إذا كانت الرؤية التي أطورها هي الرأي الصحيح في المسرح، كما أقترح، فسوف يسهل توضيح كيفية تعميم التفسير لمساعدتنا لإحكام قبضتنا علي ما يحدث عندما نفهم العروض المسرحية غير السردية . ورؤية فهم المسرحيات التي سوف أقدمها تم تصميمها جزئيا بشكل مبدئي علي اعتبار ما تم تطويره وتعريفه بواسطة (جيرولد ليفنسون Jerrold Levinson) لكيف نفهم الأداء الموسيقي . ولعل تأمل الفهم الموسيقي هو المكان الطبيعي الذي نبدأ منه دراستنا لأنه يبدو من الواضح أن ما يحدث في الاستماع إلى الموسيقى مع الفهم يجب أن يكون مشابها في بعض النواحي لما يحدث عندما نشاهد مسرحية مع الفهم . يؤسس ( ليفنسون) ترتيبه التسلسلي لما هو معنى أن تستمتع بموسيقي ( ادموند جورني Edmund Gurney) وتفهمها . ويقول (ليفنسون) إن الترتيب التسلسلي في أجرأ صوره هو دمج لأربعة افتراضات . 
1- لا يتضمن الفهم الموسيقي فهما سمعيا مركزيا لمقدار كبير من الموسيقى ككل، ولا يتضمن أيضا فهما فكريا لعلاقات واسعة النطاق بين الأجزاء ؛ فالفهم الموسيقي أمر مركزي في فهم أجزاء الموسيقى المستقلة والتقدم الفوري من جزء إلى جزء . 
2- تتحقق المتعة الموسيقية في الأجزاء المتتالية للقطع الموسيقية فقط، وليس في مجملها، أو في علاقات الأجزاء المنفصلة في الزمن علي نطاق واسع . 
3- الشكل الموسيقي هو مركزيا مسألة قدرة التتابع علي الإقناع، من لحظة إلى لحظة، ومن جزء إلى جزء . 
4- تعتمد القيمة الموسيقية كلية علي انطباعية الأجزاء المستقلة وقوة الإقناع بينهما ولا تعتمد علي ملامح المجال الواسع في ذاته، إذ ترجع جدارة الموسيقي مباشرة إلى ما يسبقها . 
تفسير ( ليفنسون ) تفسير ثري ومتنوع، وتيم تطويره وصقله بتفصيل كبير علي مدار كتابه . وللأغراض الحالية يكفي أن نركز علي ملامح معينة يناقشها فيما يتعلق بالاقتراحين الأول والثالث من هذه الاقتراحات . 
 يقدم (ليفنسون) تفسيره لكي يتفاعل مع وجهة نظر بديلة سائدة تدرك أن فهم العمل الموسيقي، عندما نسمعه فقط، هو مسألة استيعاب لشكله علي نطاق واسع عن طريق فهم مقدار كبير من شكله عن طريق سماع جانب كبير من الموسيقى وسماع مقدار كبير من العلاقات بين الأجزاء . يتمثل جزء من الحجة ضد هذه النظرة البديلة في تحديد ما يلزم أننا نستمع بفهم . يقدم (ليفنسون) اقتراحا غير مثير للجدل مفاده أنه “ إذا كان المستمع قادرا علي تتبع مقطوعة موسيقية سماعيا من البداية الي النهاية فيمكن، كما يقال إن لها معنى مهما كان تقويمه لهذا المعنى . ثم يجادل بأن كل ما هو مطلوب للمستمع لتتبع مقطوعة موسيقية – من جانب المستمع في المعادلة، إن جاز التعبير – هو أن يكون المستمع مركزا علي الأجزاء المستقلة عند حدوثها وعلي علاقات هذه الأجزاء بالأجزاء السابقة واللاحقة . ويطور (ليفنسون) التفسير من خلال وضع مجموعة متنوعة من علامات الفهم الموسيقي الأساسي حيث تكون هذه العلامات مؤشرات أو دليل علي أن الفهم الموسيقي بالمعنى الأساسي الموضح حتى الآن يحدث أو ربما قد حدث . 
 (هذه هي علامات الفهم الموسيقي الأساسي : استغراق الحضور المتمركز في التدفق الموسيقي ؛ والمتابعة الفعالة للتتابع الموسيقي ؛ وإعارة الداخل للحركة الموسيقية ؛ والحساسية للتغيرات الموسيقية، والقدرة التوليدية، والقدرة علي الاستمرارية، وفهم التعبير العاطفي .. . (التي يمكن إضافتها) إلى المتعة في الاستماع، علي الأقل عندما تواكب تلك المتعة الشيء الصحيح، وهو تحديدا جودة المادة الموسيقية المسموعة بكل خصوصيتها ) .
يحرص ( ليفنسون) علي ملاحظة ثلاثة قيود علي قابلية تطبيق فكرة الفهم الموسيقي الأساسي هذه، إذ يقول (أ) يتم توجيه هذا الفهم في معظمه بواسطة مثاليات أو معايير الاستمرارية والتتابع والتطور والتنامي و الاتجاهية ؛ (ب) لا تمنع هذه النظرة مفاهيم الفهم الأكثر ثراء حيث قد يتفوق هذا الفهم في مناسبة فهم الاستماع ؛ وفي النهاية (ج) هذه الفكرة تنشئ بصدق فهما لتلك الموسيقي إذا حدثت مستمع ملم ولديه خلفية ملائمة فيما يتعلق بطبيعة المقطوعة التي يستمع إليها، علي سبيل المثال، عصرها ونوعها الفني، وآلاتها الموسيقية . 
 وكخطوة أخيرة في وصف تفسير (ليفنسون) للفهم الموسيقي الأساسي، دعونا ننتقل إلى ما يقوله عن موضوعات ذلك الفهم . يقول ( ليفنسنون ) انه لا حاجة إلى إدراك واع للعلاقات الشكلية التي تظهر فيها القطع والانتقالات لكي يدرك المستمع قوة الحجة في داخل الأجزاء وفيما بينها . ويقول «سوف يتم استنفاد الشكل الحقيقي للمقطوعة الموسيقية فعليا من خلال تكوين أصغر الوحدات المستقلة، أي العبارات والألحان، من عناصر بلا شكل، والطريقة الخاصة التي تؤدي بها كل وحدة مستقلة إلى التالية» . ليس هناك بأي معنى مهم شكل عام للمقطوعة الموسيقية الممتدة، ولا يوجد سوى تشابه من القواسم داخل الأجزاء المفهومة بشكل متتابع وفيما بينها . وفي النهاية، تؤدي قوى إقناع التتابع إلى التتابع التالي ....وهو كل جزء – سواء كان دافعا أو عبارة أو فقرة – وكل نتيجة تظهر، تصبح عند التآلف معها طبيعية، حتى الاستمرار الذي لا مفر منه لكل ما سبقها . “
 ويقول ( ليفنسون ) إن ذلك الجزء مما يعد خلفية بالشكل الملائم بالمعنى المطلوب للفهم الموسيقي الأساسي، ربما يكون في « وضع قواعد داخلية لأجزاء من أنواع معينة « بحيث نكون قادرين مثلا علي أن نسمعها دائما باعتبار أنها سوناتا ( في مقابل أن نسمعها فكريا باعتبارها سوناتا ) . ويقترح أن هذا الإعداد التأسيسي للفهم الموسيقي يٌفهم علي أساس التناظر مع معرفة التضاريس في موقع معين . وبعد ذلك يجادل بأنه علي الرغم من أن خلفية تأمل الظواهر علي نطاق واسع قد يكون مفيدا للفهم الموسيقي، فلا يجب أن نخلط بينه وبين الفهم نفسه . « يمكن لنا أن نجد حالات ... حيث من المحتمل أن يٌعتقد أن التأمل واسع النطاق يعزز تحقيق الهم الموسيقي الأساسي، أو التركيب السمعي في جوهره « . 
الشكوك الأولية حول تطبيق النموذج علي الفهم المسرحي:
تشتمل المسرحيات علي الكلام البشري ومثيله البدني توضيح الأفعال بطريقة لا تشتمل عليها الموسيقى . والتعرف علي التبادلات والأفعال مسألة تختلف التعرف علي أنماط الصوت . ولكن يبدو أن هذا لا يمثل مشكلة خطيرة لوجهة النظر التسلسلية في فهم العروض المسرحية القصصية . فالمهم في كلتا الحالتين، في العروض المسرحية والموسيقية، هو أن ما يجب أن يٌفهم هو تتابع الأجزاء، سواء كانت أجزاء من نماذج صوتية أو أجزاء من حوارات وأفعال . ووجهة النظر التسلسلية هي أن فهم التتابعات لا يحتاج أكثر من الاهتمام بالأجزاء نفسها والانتقالات فيما بينها من جانب مستمعين ذوي خلفية ملائمة . 
 يبدو أن بعض ملامح ما يجب فهمه عند استيعاب المسرحية يتطلب مصادر أكثر مما يمكن أن يوفرها التسلسل . فربما توظف القصص، سواء كانت أدبية، أو سينمائية، أو مسرحية نقلات في الزمن إلى الخلف والى الأمام بطريقة ليس لها نظير واضح في الموسيقى . وتفهم هذه النقلات والصيغ القصصية الأخرى بواسطة الجمهور، وإذا كان تفسيرنا هو الفاعل، فلا بد له أن يشرح كيفية فهم هذه الظواهر. ورغم ذلك، مرة أخرى، من السهل أن نرى كيف يمكن أن تعمل الرؤية التسلسلية هنا . ما دمنا ندرك أن الاعتبار التسلسلي يمكن أن يتضمن إشارات إلى ذاكرة الجمهور للأجزاء التي سبقت، والأجزاء التي تتضمن علي سبيل المثال علامات للوقت من أي نوع، عندئذ لا نحتاج أن ننسب الى هذا الجمهور فهما كاملا أو حتى فهما لمقدار كبير لهذه الصيغ ومغزاها في اللحظة التي تحدث فيها في القصة . 
 وقد نصر علي أن المسألة هي كيف نفهم أحيانا الامتدادات الطويلة في الأداء، ومن ضمنها أشياء مثل الروابط بين جزء من الفعل في المشهد الأول وجزء من الحوار في المشهد الأخير . ويمكن أن نعتقد حقيقة أن فهم هذه الأنواع من الأشياء توحي بأن فهم المسرحية لا يتطلب شكلها الواسع النطاق الذي يحضر في الذهن أثناء عملية الفهم . 
 ولكن هذا هو بالتحديد المكان الذي تظهر فيه ملامح العروض المسرحية . فلا يوجد شيء اسمه «الابتعاد» عن العروض الموسيقية أو المسرحية من أجل الحصول علي كل شيء بالتركيز علي النحو الذي يحدث في حالة مشاهدة اللوحات أو المباني. وهذا بالطبع لا يمكن أن يميز تجربة الموسيقى أو المسرح عن تجربة الأفلام أو الروايات . ولكن أيضا هناك حقيقة مفادها أن هذا التقدم الي الأمام والتراجع الي الخلف بالطريقة التي يوجد بها في الروايات والقصائد ليس متاحا بشكل نموذجي في العروض المسرحية والموسيقية . 
 ربما تؤخذ هذه الملاحظة لكي توحي بأن لدي في ذهني مجرد قيود تقنية للأداء الحي(9) . والفكرة أنه ليس من الصعب أن نعرض أنواع الرجوع الى الخلف أو المشاعر الداخلية التي يمكن انجازها في الروايات والأفلام بسهولة . انني في الواقع لم أفكر في أن ذلك صعبا علي الإطلاق . الفكرة هي أن هناك أنماطا مميزة لتلقينا للموسيقي والأفلام والروايات والقصائد والمسرحيات . ومن بين هذه الأنماط حقيقة أن الرجوع الي الخلف والتقدم الى الأمام تحت سيطرة القارئ بشكل نموذجي فيما يتعلق بالروايات والقصائد، وأن هذه خاصية مميزة لكيفية قراءة القارئ الجيد للروايات والقصائد . والرجوع إلى الخلف والتقدم إلى الأمام ليس تحت سيطرة المستمع بشكل نموذجي فيما يتعلق بالموسيقي والأفلام والروايات، وهذه خاصية مميزة لتوقعات مستمع الموسيقى ومشاهد الأفلام والمسرحيات ذوي الخبرة . ومهما كان السبب الذي نقدمه لما نستوعبه عندما نفهم الامتدادات الطويلة والصلات عبر الزمن، فإننا مدفوعين في اتجاه الرؤية التسلسلية لكيفية الحصول علي هذا الاستيعاب . 
 ففي كل من الموسيقي والمسرح هناك إمكانية التأمل قبل وبعد سماع الأداء، وهناك ممارسات لاستخدام السجلات والنصوص للمساعدة في دراسة الأشكال واسعة النطاق . ولن أصدر حكما علي مدي صحة زعم ( ليفنسون) بأن مثل هذا التأمل يمكن أن ييسر الفهم الموسيقي فقط في هذه اللحظة وأنه ليس مطلبا أساسيا أو شرطا أساسيا للتركيب السمعي . فأنا أشك أن هذا الملمح في وجهة نظره سوف يبقى من أجل تفسير الفهم المسرحي . 
 ويتعزز هذا الشك من خلال النظر فيما يمكن اعتباره علامات محددة لأن شخصا ما قد فهم أو يفهم الأداء المسرحي . ويمكن أن تضم المجموعة الجزئية للعلامات الأولية بأن شخصا قد فهم المسرحية قدرته علي حكي القصة التي سمعها، ويتكلم بشكل مقنع مع الآخرين عن الأفراد الذين تشكل حياتهم أجزاء القصة، وأن يتذكر السطور وطريقة أدائها الخاصة ( ويبدي فهما للعمق السيكولوجي للأحداث والشخصيات، ان كانوا موجودين، في العرض ) . والعلامة المهمة علي أنه يفهم أن ما يدور أثناء مشاهدة المسرحية هو ما إذا كان مستعدا لاستيعاب الأحداث فورا أو حتى يتوقعها أن تحدث وتتضح، علي سبيل المثال بطريقة تجعله في حالة عدم ارتياح أو ربما يميل إلى الأمام قبل وقوع مجموعة الأحداث التي يراها قادمة . 
 ليس مقصودا أن تكون هذه العلامات شاملة . فمن المهم أن نعترف بأن أي من هذه العلامات قابلة للمراجعة كعلامة للفهم . فمثلا، ربما يكون المستمع قادر علي أن يحكي القصة، ولكنه يفتقد حقيقة أن المسرحية في مجملها هزلية . 
 علي الرغم من هذه العلامات غير كاملة جماعيا وغير قابلة للتجزئة فرديا، فمن الصعب أن نرى كيف يمكنها أن تفشل في تحديد فهما مسرحيا وجيها علي الأقل . ولا يتطلب أي منها حتى الآن فهم بنية المسرحية ككل أو مقدار كبير من ملامحها . وربما يلزم معرفة مسبقة لبعض الصيغ المحددة للنوع الفني، وقد يكون امتلاك بعضا من هذه المعرفة هو جزء من أن يكون المتلقي لديه خلفية بشكل ملائم. حتى في هذا الحدث، لا يبدو أن فهم خصوصية صياغة النوع الفني تتطلب أكثر من مجرد الإلمام بالتقاليد والتركيز علي المشهد الفوري وعلي المشهد الحالي وعلي الانتقالات من المشاهد السابقة إلى المشاهد اللاحقة . 
 ما وصفته بأنه العلامات النموذجية للفهم المسرحي الأساسي، لا يتطلب فهما شاملا للبنيات واسعة النطاق وملامح المسرحية ككل . ولكنه يشير إلى فرق أساسي بين الفهم المسرحي الأساسي والفهم الموسيقي الأساسي . ففي نهاية المقطوعة الموسيقية لا نملك توقعا بعينه لفهم المستمع، ولا نتوقع أن يستطيع فهم المستمع أن يفعل ذلك . ولاسيما أنه لا داعي أن يكون لديه قصة ليحكيها عن كيف أن قصته تتلاءم مع كل ما شاهدناه معا . ومع ذلك فان أول هذه الملامح علي الأقل هي أحد العلامات الرئيسية للفهم المسرحي الأساسي . 
.......................................................................................
هذه المقالة تمثل الفصل الحادي عشر من كتاب « فلسفة العرض المسرحي : تقاطعات المسرح والأداء والفلسفة Staging Philosophy : Intersections of theater، performance and Philosophy” الصادر عن مطبوعات University of Mitchigan Press 2009 . 


ترجمة أحمد عبد الفتاح