مسرح يوسف العاني .. جسر بين الواقع والتراث

مسرح يوسف العاني ..  جسر بين الواقع والتراث

العدد 840 صدر بتاريخ 2أكتوبر2023

رحلة الكاتب المسرحي العراقي يوسف العاني (1927- 2016م) مع المسرح تمتد لأكثر من ستين عاماأ أسس خلالها لذائقة مسرحية جديدة، حيث اعتبره الكثيرون أبا للمسرح العراقي الحديث، واتسمت تجربته المسرحية عبر مراحل تاريخه الفني بالابتكار والتجديد، والبحث عن صيغ تجريبية تجعل  الخطاب المسرحي أكثر إثارة لخيال المشاهد، وأقرب لواقعه وأكثر اتصاقا مع قضاياه اليومية.
في عام 1951 كانت البداية الحقيقية ليوسف العاني مع المسرح من خلال مسرحيته «رأس الشليلة» والتي استفاد فيها من تقنيات الكتابة الإذاعية، وفي هذا النص حاول «العاني» كشف أنماط الفساد في بعض الدوائر الحكومية، عن طريق كشف الإهمال والتسيب الوظيفي، لكن الجديد في هذا النص أن «العاني» جمع بين خاصيتين فنيتين هما «الواقعية»- والتي كانت قرينة للنصوص المسرحية العربية في نلك الفترة- وبين خاصية ذات طابع تجريبي وهي «التصوير».
وهذه الخاصية سنجدها تيمة حاكمة في كل نصوص «العاني» التالية، وإن كان هناك تأثر واضح بمسرح بريخت الملحمي والذي نجد له انعكاسات واضحة في نصوص «العاني»، كما استفاد كذلك من تجارب المسرح الغنائي.
ومن بريخت تعلم «يوسف العاني» أن المسرح بالضرورة لابد أن يثير الرغبة في المشاهدين من أجل أن يتعرفوا على الواقع المحيط بهم، وبالتالي عليهم أن يعملوا على المشاركة الفعالة فيه. كما استفاد العاني كذل من «بريخت» فكرة الحبكات المتعددة، فبريخت لم تتخذ الحكاية عنده معنى محددا لأنه لم يقم بطرحها على شكل قصة مسلسلة، وإنما كان يأتي بها مثل قصة مسلسلة على شكل حدث متقطع يرى المتفرج أجزاء منه.
في مسرحية «ستة دراهم» والتي وظف فيها «العاني» المخيال الشعبي حيث استعار صورة «الشاطر الشعبي» لبطل المسرحية الذي لا يملك إلا عاطفته في مواجهة الطبيب المتسلط صاحب النفوذ.
وعلى نفس النمط جاءت مسرحيات «جحا والحمامة» و» وهي نوع من البانتومايم وقدمت على مسرح ستانسلافسكي في مدينة موسكو، ضمن مهرجان الشبيبة في الاتحاد السوفيتي عام 1957م.
أما مسرحية «المفتاح» والتي كتبها «العاني» في مرحلة مفصلية من تاريخ الوطن العربي عام 1967، فنراه فيها مشغولا بفكرة تقدمية الفكر، في مواجهة الأوهام التي أودت بالإنسان العربي وقتها إلى الهزيمة في نكسة يونيو 1967، بطلا المسرحية هما «حيران» و»حيرى» اللذان يخرجان في رحلة بحث عن الذات ومعهما رفيق ثالث هو «نوار»، لكنهما أثناء الرحلة يدركان أنهما يطاردان الأوهام، ويصلان في النهاية إلى نتيجة مفادها أنه ليس بالمجهود –فقط- الذي يبذله الإنسان يحصل على مايريد ولكن بالهدف الذي يضعه لنفسه من البداية والذي يسعى – بعد ذلك- لتحقيقه.
وهذا النص يمكن اعتباره حالة خاصة في الكتابة المسرحية العراقية، نظرا لأنه غير من مسار تطور الكتابة المسرحية في بلاد الرافدين، حيث المزج بين الحكايات الشفاهية المتداولة وتجسيدها على خشبة المسرح، وبين احتوائه على مضامين ذات طابع تنويري وفكري عميق في مواجهة كل الخرافات التي كانت تحاول السيطرة على المجتمع في ذلك الوقت.
يقول صلاح خالص في مقدمته لمسرحيات العاني: «سعى العاني في جل كتاباته لإبراز جوانب النفس البشرية. مصدرها الحياة والشارع العراقي بكل ما يحمله من تناقضات. يجلب لنا صورا منها ويقدمها بشكل تهكمي ساخر. مثير للضحك. هذه الروحية في الكتابة جعلته يتغلغل في الحياة العراقية وينتزع منها صورا رائعة قوية مظهرا تناقضاتها الغريبة بشكل قوي ومؤثر».
 أما المرحلة التالية في مسرح «العاني» فتأتي من خلال  مسرحيته «الخرابة» والتي زاوج فيها بين المسرح الواقعي والمسرح الشعبي، ومسرح العرائس، وكذلك استخدام تقنية «المسرح داخل المسرح»، فالعرض يدور في مكان متخيل من خلال مجموعة من الأشخاص، يقف كل منهم في حالة اعتراف، وهو ملزم أن يكون صادقا فيما يقول، وإن لم يفعل يسري عليه قانون المكان وهو عدم الخروج من «الخرابة» إذا لم يقل الصدق.
ونجد في النص حالات أشبه بالمحاكمات الذاتية للنفس من خلال استخدام تقنيات المسرح الشعبي مثل «الحكي» و»الراوي»، وتعدد الأدوار لنفس الشخصية، كما أن الخطاب المسرحي في كثير من المقاطع نراه يتوجه إلى  الجمهور من مثل قول مجموعة الممثلين:
سنعيد الجدار الرابع
لكنه لن يحجب الحقيقة
الحقيقة أقوى منكم. أخلد منكم
الحقيقة لا تقف عند حد.
وهنا تأخذ المسرحية مسارا حماسيا حيث يدعو الممثلون الجمهور لمشاهدة الصور الوثائقية في مدخل المسرح والتي تصور وتعكس المأساة الفلسطينية وما تفعله المخططات الدولية للسيطرة على مقدرات العالم.
ومن الخصائص المهمة لمسرح «يوسف العاني» هو الربط بين الحدث الصغير الذي تدور من خلاله أحداث المسرحية وبين الحدث العام الذي قد يتعدى الحدود الجغرافية ليصل إلى تخوم إنسانية ممتدة لا تحدها الخرائط.
نرى ذلك في مسرحية «الخان وأحوال ذلك الزمان» والتي ربط فيها بين ما يحدث في الخان الصغير وبين المصائر الشائكة لفكرة القومية العربية ما بعد ظهور عصر الانفتاح، خاصة وأن هذه المسرحية صدرت في طبعتها الأولى عام 1976.
وتدور أحداث المسرحية في حي شعبي من خلال مجموعة من الشخصيات الشعبية التي تشكل في تجمعها صورة للمواطن العربي في تلك الفترة، والذين يشغلهم سؤال وجودي مهم عن المصير المشترك، لإنهم جميعا يؤمنون بإنسانية الإنسان.
وهذه الشخصيات تقف كذلك في مواجهة بعض الشخصيات النفعية التي تعمل لذاتها دون عمل أى حساب للشرفاء من أهل الخان.
كما يتسم مسرح يوسف العاني بالرمزية الشديدة المبني على صورة جزئية تنبثق منها صور أكثر اتساعا وعمومية عند تفعيل عنصر التأويل من قبل المشاهد، وهو في ذلك يستعين بعناصر مساعدة متعددة منهاى الألوان والإضاءة، كما في مسرحية «الغرفة الحمراء» التي وظف فيها الإضاءة باللون الأحمر لخلق شعور بالخطر والتشويق لدى المشاهد، وكذلك نفس الأمر في نص «الغرفة الزرقاء».
وهو هنا يلعب على خاصية مهمة من خلال مشاكسة التجربة العاطفية للجمهور لخلق حالة من التعايش مع العرض المسرحي، وذلك لأن مسرح «العاني» يعمل –دائما- على استكشاف العلاقات الإنسانية ووضعها في حيز المناقشة.
وهذا ما أشار إليه العاني في إحدى شهادته الإبداعية حول مصادر تجربته المسرحية حيث يقول: «تعلمت فلسفة الحياة من أكثر من مصدر ومرجع: فلسفة الناس الذين تربيت معهم والذين علموني كيف أشق طريقي في الحياة، النظرة إلى الناس، احترام الآخرين. عدم الخضوع لمن يريد إخضاعك قسرا. التراجع عن الخطأ فضيلة، التوسل بالمناقشة والبحث والمنطق، كل ما تعلمته صار فلسفة في مسرحي».
وقد صدق د. علي الراعي حين وصف «العاني» بالريادة قائلا: «مثل هذا الكاتب يكون دائما البشير بقيام حركة مسرحية نابضة في بلاده. في مصر، قد كان هذا الكاتب هو توفيق الحكيم، الذي تمتع بالموهبة والاستمرار معا. وفي العراق كان يوسف العاني، الذي ضمن لنفسه شرطي توفيق الحكيم: الموهبة والاستمرار، وزاد عليهما شيئا آخرا مهما وهو معاناة التجربة المسرحية من زوايا أخرى غير التأليف، وأهمها التمثيل. فهو أقرب من غيره إلى مفهوم رجل المسرح، إذ يجمع بين ركنين من أهم أركان العملية المسرحية: التأليف والتمثيل» (علي الراعي: المسرح في العالم العربي- عالم المعرفة- الكويت أغسطس 199- ص318).


عيد عبد الحليم