الفنانة نادرة عمران تتساءل: لماذا نحطم الثوابت؟

الفنانة نادرة عمران تتساءل: لماذا نحطم الثوابت؟

العدد 611 صدر بتاريخ 13مايو2019

دائما أشعر بالحرج، والارتباك حين يُطلب مني أن أقدم شهادة إبداعية، لأن هذا يعني بشكل أو بآخر التطرق للتجربة الشغفية “الذاتية”، وهذا دلال لا أطيقه من جهة. ومن جهة أخرى، فإن تجربتي بالمحصلة كبقية التجارب مرت بعراقيل وفرص، بخسارات ومكاسب، ومرت بكل ذبذبات الحياة. ويبقى أن نؤكد أن جميع الذين مررت بهم، أو تعاملت معهم، أو قرأت عنهم في عملي، قد أثروا كثيرا على فهمي، وعلى نتائج تجربتي، ولا أبالغ إذا قلت إن من اختلفت معهم، كانوا الأكثر تأثيرا، الأكثر إيجابية على تجربتي.
اسمحوا لي أن أضع بعض الملاحظات التي أراها ضرورية الآن، أولها هذا التصنيف الذي أصبح ملازما للمهرجانات والعروض المسرحية، بل وحتى أغلب النشاطات الثقافية والفنية، والذي تُقتطع من خلالة حصة “للنسوة”، ففي المسرح مثلا درج ما يسمى بـ”المسرح النسوي”، وأعتقد أن هذا تصغير لحجم وقيمة نتاج المرأة الإبداعي.
ومن جهة أخرى، أعتقد أن هذا التصنيف هو ديكور بُني على أساس «المحاصصة»، التي أصبحت للأسف سمة دارجة في حياتنا وأفكارنا، وقد تفرخت من هذا العنوان، «المسرح النسوي»، فراخ كثيرة، منها «الإبداع النسوي، النقد النسوي، الرؤية النسوية.. إلخ» من مشتقات النسوي، وهنا أسأل:
لماذا هذا التصنيف؟ وما جدواه؟ وهل هذا نتيجة إملاءات تجانب خطابات العولمة وشعاراتها المزيفة عن حقوق الإنسان؟ وكيف استغل هذا الشعار من قبل بعض المتسلقين ومن قبل بعض النسوة؟ والأهم: أين تكمن الخصوصية فيه؟ فهل المقصود به المسرح القائم على المرأة؟ أم المسرح الموجه للمرأة؟ أم المعني بمشكلات وقضايا المرأة؟
أعتقد أن هذا من العبث الذي لا نحتاج إلى الدخول فيه، سيما وأنه من المحال تجزئة أو استثناء وجود المرأة في أي قضية أو أي فكرة.. تعني الحياة، وذلك ببساطة لأن المرأة نصف الحياة، وأي فصل أو تجزئة لصنّاع الحياة «البشر»، على أساس «الجندر»، أو غيره، هو إفقار وتبسيط لقضايا الإنسان. وفي الفن، والمسرح بالتحديد، يكون الفصل تحديدا لشمولية الفن وحريته ونبله.
فكيف نقبل أن يُعزز فن على أساس أنه من امرأة دون التعرض لأهميته وقيمته الإبداعية الخالصة، وكلنا أصبح يعلم أن هذا التصنيف قد فتح الباب لاجترار الخوض في مشكلات بعينها تخص لهاث المرأة وعلاقتها بالرجل «الذكر»، هذا غير ظهور معارك جديدة وسطحية، ولدتّها حيل وأساليب خاصة بالمرأة لاعتلاء منصات الحضور بغض النظر عن قيمة وجدوى ما تسعى إليه.
ومن باب أهم.. فإن أعظم دور للمرأة هو أنها أم، وصاحبة الدور الكبير في تشكيل الإنسان الذي يضطهدها، ويمشي أمامها، أو الذي يحترمها ويمشي معها، وأعتقد أن أي إهمال لهذا الدور العظيم ستكون نتائجه مأساوية، ليس عليها وحدها بل على الحياة بأسرها.
أما الملاحظة الثانية، فهي هذا التوهان فيما نراه في معظم المسرحيات، أو فيما نسمعه من تنظير بالمسرح، الذي لا ينفصل إطلاقا عن آلية المأساوي الذي نحياه في واقعنا العربي، فيبدو أن شعار «التجريب»، في المسرح، بدلا من أن يفتح المجال لطيران المعرفة، فتح الفضاء لطيران الجهالة.
فمعظم الحاصل في مسارحنا الآن، قد تخطى كثيرا طبيعة “خصوصية” المسرح، التي تقوم على أن المسرح فعل طازج وحي، يتلقاه المتفرج مباشرة وبزمن حدوثه نفسه، ويأتي “المجربون”، ويكون شغلهم الشاغل، تغليب الفعل على المسرح، وبعثه للجمهور.. ليس مباشرة، بل بوسائل «تكنولوجية»، هذا عدا أن الفعل بمعظم الأحيان أصبح رسميا مجانيا، ولا يستدعي وجود شخصيات، وبالتالي تغييب الممثلين، وإبدالهم بلاعبين أو مغنين أو حتى دمى وألعاب كومبيوتر.. حسب المستورد.
وفي الجانب الآخر يستمر الجدال نظريا حول الأفكار المستوردة “مسرح الحداثة”، و”ما بعد الحداثة”، وصولا لمسرح “اللامسرح”.. ثم المفاجآت الغريبة.
فأين المسرح في كل هذا؟ ولماذا الإصرار على تحطيم الثوابت الثمينة المؤسسية لحضور عظمة الإنسان؟ حيث يكثر الداعمون والأوصياء لتقوية وتغليب هذا العبث، لتمكين الضياع.. وفي هذا الوقت بالذات؟ فأي ترف مصطنع لتمكين هذه الثرثرات، ونحن نعيش في خراب كبير؟ فكل ما نملك في واقعنا الآن أصبح برسم البيع «البشر.. الأوطان.. التاريخ.. الآثار.. المبادئ.. الأخلاق.. الأديان.. الثروات» حتى الآلام والأمراض، وحتى الموت.. كل شيء برسم البيع.
والمثقفون، ومنهم المسرحيون، يخوضون في شكليات عجيبة.. لا تسمن ولا تغني من جوع.
إذن.. هو إصرار ممنهج على تلبيسنا بالغربة.. والغريب يعيش فقط على الانتظار.. فهل يكون قدرنا الآن هو الانتظار؟؟؟؟ ألا تتفقون معي.. أن الانتظار قد طال؟؟؟


نادرة عمران