حيرة الريحاني بين المسرح والسينما

حيرة الريحاني بين المسرح والسينما

العدد 825 صدر بتاريخ 19يونيو2023

ما زال الريحاني يكتب مذكراته وينشرها في مجلة «الاثنين والدنيا» عام 1937، قائلاً: وعُدنا بعد ذلك إلى افتتاح الموسم التالي بالقاهرة وأعددت مع بديع أيضاً رواية «الشايب لما يتدلع» ثم «الدنيا جرى فيها إيه». وقد نجحنا نجاحاً ما يزال ماثلاً في إلحاح الجمهور بإعادة هذه الروايات، وفي إقباله على مشاهدتها كلما هيأت الظروف لنا أمر عرضها.
وفي هذا الوقت تقدم إليّ بعض الممولين السينمائيين وطلبوا الاتفاق معي على إخراج فيلم «بـسلامته عاوز يتجوز» وعرضوا أن أتقاضى منهم ثمانمائة جنيه مصري وخمسة في المائة من الإيراد. وشاورت عقلي .. فاتضح لي أن هذه الجنيهات الثمانمائة مبلغ لا يُستهان به .. خصوصاً في وقت أنا فيه بحاجة إلى .. إلى إيه .. إلى مائة فقط!! ومن ناحية أخرى فإنني ذهبت إلى أن إخراج الفيلم الجديد قد يعوضني ما فات في سابقه «ياقوت» لا سيما وأن مدير الإنتاج قد أظهر لي منتهى الاستعداد في أن يدع لي جميع المهام الفنية التي يقتضيها إظهار الفيلم في مظهر لائق.
وجاء المدير المالي بشخص وفد من بلاد المجر وقال لي إنه شقيق السينمائي الشهير «فاركاتش» الذي اقترن اسمه باسم فيلم «الموقعة» الذي مثل فيه «شارل بواييه» .. وأنه .. وأنه .. إلخ. فقلت له إنني لا أطمئن لمخرج أجنبي حتى ولو كان من الذين أشرفوا على أفلام «جريتا جاربو» و«مارلين ديتريش» وبقية الشلة المحترمة من آل «تلال بيفرلي» لأنه لن يصل إلى حقيقة أخلاقنا وباطن عاداتنا. قلت هذا قبل أن أرى المخرج المذكور أو أختلط به، فلما تم ذلك زدت يقيناً بما أدليت واعتقدت إنني سائر بالفيلم الجديد في نفس الطريق الذي رسم في رصيفه القديم وأن «شهاب الدين» لا يزال يسعى وراءنا مطالباً بأخيه!! وحاول المنتج أن يزيل مخاوفي فطمأنني بأنه سيتركني أفعل ما بدا لي ثم أفهمني أن مخرجه هذا سبق له أن أخرج فيلماً مصرياً للأستاذ علي الكسار اسمه «بواب العمارة» وأنه فيلم هايل .. بل في منتهى الهيلولة، وسيعرض عما قريب، ولكي يطمئن قلبي طلب من المنتج الله يمسيه بالخير .. أن أذهب لمشاهدته يوم عرضه. ونزلت على هذه النصيحة فانتظرت اليوم الموعود بفارغ الصبر، وما أن عُرض «بواب العمارة» حتى كنت أول من اقتحم باب السينما .. ويا لهول النكبة!! فقد كنت كذلك أول من غادرها!!
وفي صباح اليوم التالي أخذت طريقي إلى مكتب المنتج وفي جيبي العقد الموقع بيننا وفي الجيب الآخر العربون وهو مائتا جنيه مصري. وقد أفرغت الجيبين على مكتبه وقلت له بصريح العبارة: «بقى شوف يا ابن الناس .. حرام عليّ أغشك وحرام تضيع فلوسك .. وتضيع معها اسمي كمان .. وأحسن نصيحة أنك تاخدها من قصيرها .. لأن «العينة» بينة يا حبيبي». ولكن صاحبنا صم آذانه عن قبول النصيحة وعاد فأفهمني بأن حَبل المخرج في بواب العمارة كان على غاربه، أما في فيلمنا فسنستولى على عنانه ونقبض بيد من حديد على إرادته!! واستسلمت لذلك الرأي وبدأنا الفيلم .. بل وقطعنا في العمل شوطاً جيداً، كانت الحزازات أثناءه بيني وبين المخرج تزداد ضراماً، لأنني كنت أشاهد بعيني منه عكس ما أريد فقد كانت إرشاداته للممثلين في المواقف الفكاهية باعثة على البكاء لا على الضحك. وصممت على الإضراب عن العمل مع هذا المخرج .. ولكني عدت فرضخت لحكم الواقع لأن المبلغ الذي تقاضيته إلى هذه اللحظة بلغ أربعمائة جنيه صرفتها عن آخرها، فكيف يتسنى لي أن أردها؟ ومن أين آتي بها؟ وبالاختصار قضيت في العمل شهرين كانا عذاباً في عذاب .. وكلما حاولت أن أقنع المنتج بجهل المخرج أراه منضماً لصفه هو دوني فأسلم أمري إلى الله وأغض الطرف على ما أرى من أخطاء وأغلاط لأن المخرج هو كل شيء، وهو الرئيس الأعلى .. غصب عن عيني وعين اللي خلفوني كمان.
وانتهى العمل فتنفست الصعداء .. ولعله من المضحك أن أذكر بأن الميزانية المقررة لهذا الفيلم كانت أربعة آلاف جنيه .. ولكن المخرج بسلامته رفع هذا الرقم بتصرفه إلى الضعف، الضعف تماماً والله أي ثمانية آلاف. ودعيت لمشاهدة الفيلم قبل عرضه على الجمهور فلبيت الدعوة وذهبت وأنا أتوقع رؤية «كرب أزلي» لأنني عرفت النتيجة منذ البداية، وقد كان. وكانت صدمة شديدة لا لي أنا .. بل للمنتج الذي همس في أذني في تلك اللحظة معترفاً أنني كنت على حق في اعتراضاتي؟ ولكن بعد إيه يا حظ!
وعُرض الفيلم على المتفرجين وكنت بين المتفرجين بالإكراه. وأصارحك أيها القارئ العزيز بأنني حين رأيت نفسي على الشاشة لم أكن أتصور أنني بمثل هذه الفظاعة المؤلمة وأنني من السخافة على مثل هذه الدرجة التي ابتدعها المخرج من «صبيان» أفكاره النايحة. حتى لقد كان يتراءى لي - كمتفرج - أنني لو لقيت نجيب الريحاني عند الباب أثناء خروجي لخلعت - يكرم من سمع - ونزلت ترقيع في أصداغه إلى أن أوصله بيته العامر! وقد ذكرت إذ ذاك ما نقله لي بعضهم من أن المخرج أثناء العمل كان في جمع من أصحابه يتناولون الشاي فأمسك بطبق في يده وألقاه أرضاً، فلما تكسر نظر إلى من حوله وقال لهم بنفس اللهجة التي استعملها نابليون في مثل هذا الموقف، قال: «سأدشدش» الريحاني في هذا الفيلم كما «دشدشت» هذا الطبق. ويسرني أن أعترف بأن «الدشدشة» حصلت حقاً ولكن للمخرج نفسه لا لي. فإن المنتج بعد أن رأى ما رأى وخسر من أمواله ما خسر عمد إلى محاربة المخرج ولم تهدأ له ثائرة حتى نجح في نفيه من مصر نهائياً وعلى نفسها جنت براقش!
في هذا الوقت كان حظي في المسرح «ضارب» نار وكأنني كنت انتقم من خذلاني في السينماـ فقد شفيت غليلي ومعي بديع زميلي ووضعنا كل همنا في إخراج رواية كاملة المعاني، وكان التوفيق رائدنا بعون واحد أحد، فأتممنا تأليف رواية «حكم قراقوش». ويمكنني أن أطلق عليها التعبير الذي يطلقه الفرنسيون وهو «حصان الموقعة الفاصلة». نعم فقد جاءت هذه الرواية بدعة من حيث الوضع والتنسيق ومن ناحية وجود الفكاهة العذبة والتسلية اللذيذة في سرد حوادثها وفي رسم شخصياتها. فلما رأيت نجاحها حمدت الله الذي أعاضني عن السينما بهذا النجاح المسرحي الهائل، ولهذا عقدت نيتي من ذاك الحين على أن أهجر الشاشة بتاتاً وفي خشبة المسرح متسع لي وإطفاء لشهوتي الفنية وغذاء لروحي المتلهفة إلى الوصول إلى الكمال بقدر الإمكان، ومن ثم رفضت جميع العروض السينمائية التي تقدم إليّ بها كثيرون من الماليين ومن رجال الفن العديدين.
وبعد حكم قراقوش أخرجت «مين يعاند ست» فكانت هي الأخرى انتصاراً لي، فمع أنها كوميديا من النوع «الناعم» إلا أن المتفرج تقبلها بقبول حسن. وحل الصيف فتأبطت ذراع زميلي بديع وقصدنا إلى جزيرة قبرص وهناك هيأت لنا الظروف الصالحة وضع رواية «مندوب فوق العادة» وكان في عزمنا أن نفتتح بها موسم 1936. ولكن الظروف المواتية مكنتنا من وضع رواية «قسمتي» التي افتتحنا بها ذاك الموسم وأبقينا الرواية الأولى بمثابة احتياطي لنا. وأعترف بأن هذه هي أول مرة في حياتي أحتفظ فيها بما يسمى الاحتياطي!!! وقضيت بقية صيف 1936 في الإسكندرية أعمل مع الفرقة على مسرح الهمبرا وقد كان صيفاً ناجحاً بحمد الله.
وبعد عرض الروايتين «قسمتي ومندوب فوق العادة» فكرت في إخراج رواية استعراضية، نختتم بها الموسم فأعددت العناصر اللازمة لها واشتركت مع الزميل بديع خيري في وضعها بعد أن أطلقنا عليها اسم «الدنيا على كف عفريت». وهنا أقف قليلاً لأثبت ظاهرة محسوسة شعرنا بها مع مزيد السرور والاغتباط، فمنذ أخرجنا رواية «الدنيا لما تضحك» إلى اللحظة التي أتحدث الآن عنها. أي قبيل إخراج «الدنيا على كف عفريت» لاحظت أن أناساً من أرقى الطبقات بدأوا يرتادون مسرح الريحاني وأن وجوهاً جديدة من علية القوم كانت تختلف إلى الدار في كل مساء فشاهدت بين المتفرجين وزراء وعظماء وموظفين كباراً ومن أكرم العقائل. وهنا شعرت بأن هذه الطبقات الأرستقراطية التي لم تعرف يوماً طريق هذا النوع الذي نخرجه قد بدأت تقدر عملنا وترفع من شأننا وتعرف أن لنا في هذا الميدان قيمتنا ومكانتنا، وأن الأفكار العتيقة التي كان يبثها فيما مضى فريق من خصومنا الذين كانوا ينظرون إلينا كطفيليين في عالم الفن ودخلاء عليه، تلك الأفكار لم يعد لها بين كبرائنا أنصار .. بل أكثر من ذلك دلنا الإقبال المتواصل من أولئك الكبراء والعظماء على أن المزدرين القدماء أصبحوا هم الطفيليين وهم الدخلاء بعد أن طلعت شمس الحقيقة وانجابت الغمامة التي كانوا يحجبون بها نور الحق عن أعين سليمي النية من تلك الطبقات.
ولقد أتيت فيما سبق من تلك المذكرات على أن الحلم الذي فتئت أعمل له والأمل الذي جعلته هدفي ومستقر طموحي هو أن اكتسب ثقة جمهور الطبقات العليا وألفت أنظار أفرادها من المخلصين للفن العاملين على نصرته .. فلما رأيت ثمار تلك الجهود وقد أينعت بذلك الإقبال المنشود تحقق حملي ونلت أماني فحمدت الله جلت قدرته وحرصت على إبقاء ما اكتسبت من ثقة غالية معتزماً أن أحتفظ بها ما حييت.
والآن أعود إلى رواية «الدنيا على كف عفريت»، فأقول: في أحد الأيام التي كنا نستعد فيها لإخراج تلك الرواية على المسرح وبينما كنت أرتدى ملابسي لموافاة الممثلين في البروفة دق جرس التليفون وكان المتحدث زميلي بديع يبلغني أنه في أستوديو مصر وأن الأستاذ «أحمد سالم» مديره يود مشاهدتي سريعاً. فسالت بديعاً: ألم يطلعك على أسباب هذه الرغبة؟ قال كلا .. وقبل أن أتوسع في طلب معلومات من بديع تناول الأستاذ سالم بوق «الأرزيز» - أنت فاهمني .. الأرزيز هو التليفون بلغة المجمع اللغوي .. حتى اسألوا أهل الذكر - وسمعت الأستاذ سالم يضرب لي موعداً أقصاه نصف ساعة ولكي يسهل مأموريتي أبلغني أن سيارته ستكون عندي قبل هذا الموعد!! وأكملت ارتداء ملابسي ورحت أضرب أخماساً في أسداس فهل مدير أستوديو مصر يطلبني بمثل هذه السرعة لاشترك معه في مباراة شطرنج ولا عشرة دومينو أمريكاني، أم هناك «عمل» اقتضى هذا الاستدعاء .. وأن هذا العمل لا يكون إلا فيلماً للأستوديو.
لقد كان مجرد التفكير في السينما يزعجني بعدما رأيت منها فيما مضى، وبعد ما قاسيت ممن اشتركت معهم، ولذلك قضيت الطريق بين منزلي وبين الأستوديو مفكراً في طريقة الاعتذار «بذوق» وبلاها الظهور على الشاشة وبزيادة علينا المسرح .. وبيننا وبين السينما ربنا. ووصلت الأستوديو وهناك لقيت الأساتذة أحمد سالم وحسنى نجيب وبديع خيري .. سلام عليكم .. عليكم السلام. وبعد التحيات .. والسلامات .. والمجاملات .. المتبادلات - معلهش يا إخوانا يا فصحاء القافية حكمت - فهمت من الأستاذ سالم أنه يسر الأستوديو أن يخرج فيلماً لي!! آه وقعت الفاس في الراس .. ولم أجد ما أجيب به غير أنني منشغل إذ ذاك بإخراج رواية مسرحية جديدة وأنها تستغرق كل أوقاتي فأمهلني حتى انتهي منها.
ودارت بيننا مناقشة أكد لي فيها الأستاذ سالم أن روح التعاون بيننا ستكون وثيقة، ويظهر أنه أحس من ناحيتي بعض التردد أو الرغبة في «الحمرقة»، فصارحني بحقيقة – كنت أجهلها - قال لي ما معناه إن الناس بدأوا يلوكون اسمك في معرض الفشل في السينما، وأن واجبك يدعوك إلى الدفاع عن نفسك بطريقة عملية!! فقدم الدليل لأولئك القوم على أن الفشل الماضي أُتي عن غير طريقك .. لأن العوامل التي أفسدت عليك سبيلك لن يكون لها وجود في ستوديو مصر. كان هذا الكلام الحكيم وغيره كافياً لإقناعي لا سيما وقد شعرت من خلال الحديث أن روح الصداقة تتمثل فيه، وأن الصراحة هي التي تمليه. كما تبين لي أن محدثي كان يرمي إلى أن يجعل هدفه الأول وغرضه الأسمى الوصول إلى النجاح دون كل الاعتبارات المتباينة .. النجاح الذي يعود أثره لا لي وحدي، بل وللهيئة التي يشرف على إدارتها. وانتهت هذه الجلسة بالاتفاق المبدئي على الاشتراك في إخراج الفيلم بعد الانتهاء من رواية «الدنيا على كف عفريت». وفي هذه الأثناء ظهر فيلم «الحل الأخير» فكان نجاحه مشجعاً لي على الإقدام لأننا رأينا من الجمهور ناحية طيبة مطمئنة هي أنه بدأ ينظر إلى العمل من حيث قيمته الفنية لا من حيث الشخصيات القائمة به.


سيد علي إسماعيل