مروح ع فلسطين هوية شعب وثقافة الرحلة

مروح ع فلسطين هوية شعب وثقافة الرحلة

العدد 581 صدر بتاريخ 15أكتوبر2018

خلال خمس وأربعين دقيقة من تتعانق جراح الاحتلال وصمود الهوية في مقابل الإصرار على محاربتها وسحقها من قبل الآخر بأسلوب ساخر موجع قدما الجسد والكلمة في هذه البقعة الضيقة والمحاصرة بالضوء الأصفر على خشبة المسرح التي شابهت فلسطين هذا الوطن المحتل أرضا والمتلاشي حدودا القائم دوما بفعل الحب والمقاومة والإصرار على الانتماء من مواطنيه العرض المسرحي «مروح عَ فلسطين» لفرقة مسرح الحرية بمخيم جنين بالضفة الغربية بفلسطين ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي التجريبي والمعاصر في دورته الأخيرة دورة اليوبيل الفضي تحت محور “المسرح تحت دوي القنابل” الذي أحيط بهالة من العزف الحي ارتقت به لتصنع تأكيدا واضحا على الهوية العربية ليحكي قصصا حقيقية من حياة السكان الأصليين لهذا الوطن النازف دائما مؤكدا معاناة دائمة وممتدة منذ دخول المحتل لأراضي فلسطين عام 1948 مرورًا بأماكن متنوعة من الأغوار إلى المناطق المحاذية للجدارالعازل “جدار الفصل العنصري” بين مستوطنات المحتل، فالمخيمات لمواطنين بأرضهم وصولاً إلى تجمعات البدو والجيران العرب والأحوة على الحدود، ذاكراين الممثلين أبطال العرض دوما أسماء الكثير والكثير من المناطق شديدة المحلية والخصوصية التي تظهر معاناة الشعب الداخلية ومدى الانفصال الكبير الداخلي لشعب حدودا والارتباط وجدانيا ومعرفة قوية كل بالآخر.
وقدم العرض المسرحي مروح ع فلسطين هذه المعاناة مرتكزا على حكي قصة هذا الصبي جاد أميركي المولد فلسطيني الهوية الذي قرر ولأول مرة في حياته زيارة وطنه، أن يعود لبلاده استزادة بمعرفتها بعد حماسة ودفعة قوية من أخته التي ظلت تحثه على ذلك عبر ذكرها عن كتابات وروايات الأديب غسان كنفاني رمز المقاومة بالكلمة مستشهدة بروايته عائد إلى حيفا وطالبته بالبحث عن صديقتها ريما والاطمئنان عليها فكانت الرحلة الوصول للبحث والمعرفة.
وقدم مروح ع فلسطين معتمدا على طريقة البلاي باك «playback» الذي يعد أداة فنية مستحدثة تستخدم لبناء المجتمع من جديد حيث يقوم على إعادة التمثيل (التجسيد) لحكايات حقيقية من الجمهور ومواقف من حياته بفريق من الممثلين والموسيقيين بتحويل هذه القصص لقطع مسرحية مرتجلة لإيمان البلاي باك لحاجة الإنسان الأساسية بمشاركة قصته لجعلها مسموعة مرئية والاعتراف بها وتكريمها بمصاحبة الموسيقى الارتجالية المناسبة لهذه الحكايات ويتم هذا كله وفق تنسيق عفوي وتناغم كلي من الممثلين وقد سعى الفريق تمجيدا لحكاياتهم وواقعهم أن تقدم بهذا النمط فكانوا صادقين وصلوا إلى العقل قبل الوجدان سريعا.
فنجد أنفسنا في رحلة مع جسد يحكي وكلمة تصور من هؤلاء الممثلين الستة ونشعر منذ الوهلة الأولى من تقديم العرض أننا في نفس الرحلة الشاقة شديدة الخصوصية لتقديم حكاية جاد الذي قرر أن يذهب ليزور وطنه بلاده وبلاد آبائه خوفا من الاستمرار في شتات هويته في العالم الغربي وليتعرف عليها والذي آثر منذ اللحظة الأولى في العرض ووعى أن يؤكد على هويته الفلسطينية في مواجهة كل مغالطة لوصفه أنه أمريكي الهوية لولادته هناك فتبدأ الرحلة قبل أن يغادر بمقاومته الأولى بداية من إيضاحه في بلد المولد أن كرر كثيرا قولا على مسامع غيره إيضاح اسمي جاد بدلا من جاك الذي كان يسمعها من الآخر داخل الولايات المتحدة الأمريكية ليقدم دلالة واضحة على الاعتراف بوهن وخلخلة الهوية المتعمدة من الآخر الغربي ومحاولة ازاحة العربي الفلسطيني من العالم بأسره متابعا في كل خطوات رحلته للوصول إلى فلسطين متحملا معاناة الرحلة التي أثقلته إعلانه الدائم أنه فلسطيني منذ تواجده على متن الطائرة وإن ولد بأي بلد آخر وإن كانت أمريكا وثقافة ببلده الذي لم يكن ليدرك عنه سوى ما تتناقله الأخبار والذي يقرر وعندما يخرج من بؤرة الحصار الصفراء الواهنة كوطنه بعد أن شاهد استشهاد شاب في عرسه في المخيمات وقف قويا ليرسل لأخته ويعلن للعالم ممثلا في ذلك جمهور العرض خارجا من تلك البقعة الضيقة إلى براح المسرح فالكون أنه قرر ألا يغادر وطنه ثانية وأدرك هويته بعد أن عانق خطوات رحلته ورأى شعبا بسيطا صامدا في أيام وسنوات دائمة تحت قصف القنابل المستمر يحيا بفعل المقاومة.
أثرى العرض المسرحي الحكي الجسدي المتنوع الذي قدم صورة حية من الأماكن داخل مدن وأحياء فلسطين وكذلك صورة حية من الأشياء التي انتقل فيها بطل الرحلة جاد من الطائرة إلى السيارة والدراجة البخارية من أجساد الممثلين داخل بؤرة الإضاءة الصفراء الوحيدة والضيقة بالعرض والتلاحم فيها صنع دلالات قوية على مآساتهم في مآربهم وحياتهم اليومية في مواجهة تزايد مستوطنات االمحتل التي تحاصرهم دوما وتباغتهم يوما بعد يوم إضافة إلى ذلك شكلت الموسيقى الحية المصاحبة للعرض المسرحي تفردا مؤكدا على هوية فلسطين العربية التي ارتكزت على العزف الحي المصاحب للعرض من آلة العود العربية من العازف نبيل الراعي المميز لما لها من تأثير قوي داخل العرض وأصوات بشرية من العازفين قدمت المعادل السمعي لأصوات الحرب ومن قبل سلاسل حديدية بسيطة حيال تجسيد مشاهد القصف المباغت من قبل سلطة الاحتلال داخل الرحلة الأخرى لجاد بفلسطين.
“مروح ع فلسطين” دعوة تجريبية للنبش في أغوار الهوية الفلسطينة العربية الجريحة اتخذت من المسرح الوثائقي معاونا بتقنية المسرح الفقير استهدفت التركيز على قدرة الممثلين الأدائية من خلال الجسد والأداء الصوتي والعزف الحي لتقديم قضية تباين الانتماء الحقيقي من المزيف وليتكشف لنا الواقع الأكثر تصديقا الذي لم تتناوله كل وسائل الإعلام عند تقديم القضية الفلسطينة في ظل كل الأحوال الصعبة والسيئة التي تعاني منها هذه الأرض المقدسة.
“مروح عَ فلسطين” قدمها مجموعة من الممثلين خريجي مدرسة مسرح الحرية في التمثيل، تأليف وموسيقى وعزف نبيل الراعي، إخراج ميكائيلا ميراندا.


همت مصطفى