مسرح العرائس.. أصله وفصله

مسرح العرائس..  أصله وفصله

العدد 761 صدر بتاريخ 28مارس2022

الذي صدر مؤخرا كإحدى مطبوعات المهرجان المسرحي الدولي لشباب الجنوب –المقام في الأقصر في دورته السادسة- الذي أهداه مؤلفه إلى روح كل من الشاعر صلاح جاهين والموسيقار سيد مكاوي والفنان التشكيلي ناجي شاكر والمخرج صلاح السقا. 
ويؤكد من مقدمته أن المكتبة العربية تفتقد إلى كتب أو مراجع تهتم بمسرح العرائس باعتباره فنا مسرحيا قائما بذاته. ويضيف المؤلف: وللحق، فقد وجدت وللدهشة الكبرى كتاب بعنوان «مسرح العرائس» صادر عن الهيئة المصرية للكتاب –الكتاب مترجم عن اللغة التشيكية الذي أشار مترجمه سليم الجزائري في مقدمته باللغة العربية: إن هذا الكتاب هو كتاب مدرسي ضمن المنهج المقرر على تلاميذ المدارس الشعبية المهتمة بالفنون ومنها بالطبع المسرح. وهي مدارس خاصة ذات رسوم رمزية وتستقبل ذوي الميول الفنية من طلاب المدارس الابتدائية والإعدادية بعد انتهاء اليوم الدراسي الأصلي وتعمل على صقل مواهبهم في مختلف الفروع الفنية. ويضيف زياد فايد: أذكر خلال زيارتي للولايات المتحدة الأمريكية منذ عدة أعوام وبالتحديد ولاية كاليفورنيا، أنني وجدت مثل هذه التجربة، ولكنها على شكل بلاتوهات خاصة منتشرة في أنحاء الولاية أحدهم مهتم بتعليم فن الباليه، وآخر لدراسة العزف على الكمان أو الجيتار، والرياضة مثل الجودو، الكاراتية... الخ. 
وبسؤال الأصدقاء خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية في مصر، علمت أن المنهج الدراسي الرسمي لا يضم أي شيء عن مسرح العرائس، وإن كان بعض الأساتذة يستشهدون به أحيانا في سياق أنواع المسرح، وخاصة المسرح التراثي. 
يقع الكتاب (مسرح العرائس.. أصله وفصله) في 136 صفحة من الحجم المتوسط، ويضم ثلاثة أبواب. ولأن مسرح العرائس وإن كان التطور الطبيعي لفنون سبقته بسنوات طويلة مثل الأراجوز وخيال الظل ومسرح الدمى –التي كانت (العروسة) هي القاسم المشترك بين هذه الفنون– كان أولهم (فن الأراجوز) وتعتمد دراما الأراجوز على العرائس؛ أي أن اللغة الدرامية الأساسية كالأراجوز هي العرائس من خلال وسيط هو اللاعب الذي يحركها من خلف (البارفان) دون أن يراه أحد من الجمهور. 
وشخصيه الأراجوز، شخصيه ساخره، أذكي من جميع الشخصيات، ولا يخدعه أحد إلا مؤقتا وله دائما النصر الأخير، وهو معلق على الأحداث، يتأمل غباء الناس من حوله فى مزيج من العطف والحزن والرغبة فى الإصلاح، وهو اقرب إلى المهرج الإنسان .
أما فن الأراجوز فلم يترك مكانه بسهولة لفن السينما، وإنما ظل عائشا معها حتى الستينيات من القرن الماضي، خاصة في الحواري الشعبية، وفي القرى التي لم تدخلها الكهرباء، ومع دخول الكهرباء لكل الريف المصري، انسحب فن الأراجوز من الحياة اليومية ليصبح فن (مسرح العرائس) تاركا الشخصية الأراجوزية الأثيرة لدى الجماهير تنتقل لفن السينما، عبر الكوميديا المسرحية وشخصياتها النمطية الكاريكاتيرية، وطرق أداء ممثليها ذوي الشعبية الكبيرة مثل نجيب الريحاني وشخصيته الكاريكاتيرية «كشكش بك»، وعلي الكسار وشخصيته الكاريكاتيرية أيضا «عثمان عبدالباسط»، وقد نقل كل منهما شخصيته الفنية من المسرح للسينما – وإن كان الريحاني قد تخلص منها بسرعة بعد «كشكش بيه»، بينما ظل معها الكسار حتى قضت عليه فنيا. 
وبعدهما استمر وجود الشخصية الأراجوزية في السينما المصرية، عبر الشخصيات النمطية الكاريكاتيرية البشرية كشرفنطح وإسماعيل يس وعبدالسلام النابلسي وعبدالفتاح القصري وزينات صدقي وحسن فايق وستيفان روستي؛ بل والممثل لاعب الأراجوز محمود شكوكو. 
يقوم فن الأراجوز الشعبي على عنصر السخرية السياسية والاجتماعية في الشخصيات الحية والأحداث المعيشة، فشخصية الأراجوز شخصية سليطة اللسان في مجتمع تحكمه التقاليد، فهو ضمير الشعب وصوته الصارخ بسخرية في وجه كل سلطة حاكمة، كبرت أم صغرت، لذلك ظل وجوده قائما ومستمرا في السينما المصرية، سواء عبر الشخصيات التي تجلت بالكثير من سماته أو عبر استخدامه بذات صورته الشعبية في أكثر من فيلم سينمائي بداية من فيلم المخرج سيف الدين شوكت «شمشون ولبلب» الذي قام ببطولته الممثل محمود شكوكو، لما تميز به من الطبيعة الأراجوزية، بالإضافة إلى تقديم شخصية شكوكو الأراجوز على المسرح. 
كذلك فيلم (الزوجة الثانية) حيث انطلق بناء السيناريو على فكرة واقعية يعتمد بناؤها بشكل ساخر رغم ميلودرامية مادتها الداخلية حول عمدة قرية باطش بأهلها، لم ينجب بعد زواج أكثر من عشرين عاما، فيقرر في لحظة أن يتزوج من امرأة قابلة للإنجاب، فيقع اختياره على فاطمة زوجة الفلاح البسيط أبو العلا المتعددة الأبناء، ويعمل على تطليقها من زوجها، ليتزوجها، وهو وبالفعل يحقق بالتآمر غرضه هذا، مما يخلق له مواقف ساخرة مع زوجته الأولى الثرية العجوز «رقية» وزوجته الثانية الشابة التي تحتال عليه وتدعي المرض حتى لا يقترب منها، وهي ما زالت بعد على علاقة بزوجها الأول أبو العلا الذي تحمل منه وتلد له طفلا، مما يصيب العمدة بالشلل ثم الموت. 
وفي عام 1989 قدم المخرج هاني لاشين فيلما حمل صراحة اسم «الأراجوز» بطولة العالمي (عمر الشريف) لاعب أراجوز فقير يطوف بالقرى ينتقد بصوته الحاد وتعليقاته الساخرة الأوضاع القائمة ويقدم رأيه بصراحة في التغيرات التي أتت بها ثورة يوليو 1952، ويساعد ابنه بهلول/ هشام سليم الذي تعلم ودخل الجامعة، ليتمرد عليه وعلى دوره التنويري في المجتمع؛ بل ويصل الأمر لإنكار وجوده وصلته به، وكأنه يفصل علاقته تماما بما فيه، ويسعى لصياغته حاضرا جديدا، بقيم مخالفة لقيم الأب، ويقيم واقعا مغايرا لا ينتقده كأبيه، وإنما يسايره ويخضع لمتغيراته، بعد فقد الأراجوز وظيفته النقدية الساخرة في مجتمع السبعينيات وفقدت القيم النبيلة التي يمثلها مبرر وجوده في زمن فاسد، وفقدت الحياة متعتها وجمالها. 
يأتي بعد ذلك مسرح خيال الظل الذي يعد من أقدم أشكال الدراما المسرحية العرائسية، فهو بمثابة الطور البدائي لفكرة الإيهام بحركة الصدر. ففيه يتم التشخيص التمثيلي عن طريق عرائس مفصلية تصنع من جلود نصف شفافة. وتتحرك بواسطة عيدان من السلك أو الخشب خلف ستار أبيض مشدود على أطراف خشبية (أشبه بشاشة السينما الحالية). وتعرض تلك الدمى الظلية أثناء حركتها لإضاءات قوية فتظهر خيالاتها المتحركة أمام الجمهور. ويقف اللاعبون الممثلون والموسيقيون خلف الستار يؤدون أدوارهم. وترجع بدايات المسرح الظلي في مصر إلى أواخر حكم الفاطميين، واستمر تأثيره في الحياة الشعبية المصرية حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وبدايات القرن العشرين، وكان له دور مسرحي ثابت، قبل أن يتوارى مع ظهور السينما وتقتصر حفلاته على الموالد والاحتفالات الشعبية حتى اندثر تماما.
والمسرح الظلي استمر يلعب دورا ترفيهيا وتثقيفيا في مصر الإسلامية طيلة ثمانية قرون، وقد بلغ ذروته الفنية في العصر المملوكي، وخاصه خلال حكم الظاهر بيبرس، فظهر له متخصصون في تأليف النصوص والتمثيل وتصنيع العرائس، وقد ارتبط ذلك الازدهار بمسرحيات «محمد بك دنيال» 1248-1311م التي تعد أقدم نصوص الخيال التي وصلت إلينا وتحتوي  المخطوطات على ثلاث بابات هي (طيف الخيال – عجيب وغريب - المقيم) وهي بمثابة نماذج نادرة للأدب التمثيلي العربي في القرون الوسطى.
وتدلنا تلك الفترة أيضا على مدى تطور صناعة الدمى الظلية في مصر الإسلامية، وأكبر دليل على ذلك تلك الدمى التي ترجع إلى العصر المملوكي، والتي اكتشفت بقرية المنزلة، وهي تعد نموذجا فريدا في فن التصوير الإسلامي، كما أنها أقدم الدمى الظلية التي وجدت في العالم، وهي محفوظة بمتحف برلين بألمانيا، كما اكتشف مع تلك الدمى الظلية أيضا مخطوطان لمسرحية ظلية ترجع إلى القرن السابع عشر الميلادي، وهي تنسب إلى ثلاثة من مشاهير المصريين في ذلك الوقت، وهم الشيخ سعودي والشيخ علي النحلة، والشيخ داود العطار، وتضم تلك المسرحية ثلاث لعبات هي (لعبة التمساح – حرب العجم – الدير).
ولم تتفق المراجع حتى الآن على المكتشف الفعلي لهذا الأثر المهم لفن خيال الظل في مصر في العصور الوسطى –الدمى والمخطوطان– حيث تضاربت الآراء والروايات، فهناك مصادر تنسب ذلك الكشف إلى المستشرق الألماني «بول كاله» الذي اهتم بدراسة لعبة خيال الظل في مصر والشرق الأدنى ومصادر أخرى إلى الممثل المصري (حسن القشاش) الفضل في إحياء مسرح خيال الظل في القاهرة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ حيث قام بتقديم تمثيليات المنزلة بعد أن أدخل على النصوص بعض التعديلات بما يتفق وطبيعة العصر المقدمة فيه، وقد ضم جهده إلى جهد غيره من لاعبي الدمية الظلية، وصانعي العرائس الموجودين آنذاك، وقاموا بتصنيع نماذج ظلية جديدة. 
حيث عكف فنانو الخيال في مصر على تصدير الواقع الشعبي للمجتمع المصري في أماكن التجمع كالأسواق والمقاهي والمساجد والأديرة – والتعبير عن مشاهد الحركة المثيرة في ابتلاع التمساح الإنسان وإبراز الصفة القومية لكل شخص مثل التركي والمغربي والنوبي إلى جانب المبالغة الكاريكاتيرية في رسم الشخوص لإبراز ما فيها من صفات تثير السخرية، ويتضح لنا ذلك من فحص وتوصيف تلك المجموعة النادرة من الدمى الظلية المحفوظة بمتحف الجمعية الجغرافية بالقاهرة. 

مسرح الدمى
مسرح الدمى هو فن شعبي قديم جدا، ويعود أصله إلى الثقافات الآسيوية القديمة. ازدهر مسرح الدمى في البلاد العربية مباشرة بعد سقوط الأندلس في نهاية القرن الثالث عشر، وكان وسيلة لتسلية الناس بجانب خيال الظل؛ حيث كان وسيلة جيدة لحكاية القصص ذات دلالات قيمية إنسانية أو سياسية دون الاحتكاك مع الحكام. وكما هو حال قصص خيال الظل، كان مسرح الدمى يعبر عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية. من أشهر فناني مسرح الدمى في العصر الحديث كان الفنان محمود شكوكو (مصر 1912 – 1985). 
تلك هي الفنون الثلاثة التي تكون منها مسرح العرائس كفن قائم بذاته له تقنياته وأساليبه ووسائطه وفنانوه، باعتباره يجمع بين فن العرائس بأنواعها والديكور والفن التشكيلي والتعبيري والرقص والموسيقى والإضاءة، وله مؤلفوه ومخرجوه ولاعبوه. 
ويضم الكتاب ملحقا خاصا عن أهم أنواع العرائس سواء الجوانتي أو الماريونيت أو متحركة الأجزاء. 
أما عن مسرح العرائس في مصر، فكانت البداية من المنولوجست محمود شكوكو الذي صنعت له الجماهير تمثالا، والذي شاءت الأقدار أن يكون هو نواة لمسرح القاهرة للعرائس بناء على رغبة الزعيم جمال عبدالناصر، وجاء عرض (الليلة الكبيرة) أو (المولد) فوق الخيال حتى إنه استطاع أن ينتزع جائزة مهرجان بوخاريست الدولي للعرائس في رومانيا؛ حيث اجتمع المخرج صلاح السقا والشاعر صلاح جاهين والموسيقار سيد مكاوي والفنان التشكيلي ناجي شاكر لوضع نصوص جديدة للصورة الفنية التي كانت موجودة في الإذاعة وكانت مدتها (31 دقيقة) لتصبح (73 دقيقة) وتم تنفيذها على المسرح وذهبت لتمثل مصر في مهرجان بوخارست لأول مرة وحدثت المفاجأة.


زياد فايد