المسرح الشعبي في الوطن العربي جماليات العرض المفتوح (1-2)

المسرح الشعبي في الوطن العربي    جماليات العرض المفتوح (1-2)

العدد 749 صدر بتاريخ 3يناير2022

منذ بداية «الفعل المسرحي» ظهر سؤال جوهري هو: هل يمكن أن تتحقق الدراما بوسائل أخرى غير الكلمة المكتوبة ؟ 
وإن تطورت الفكرة عند رواد المسرح التجريبي في العالم أمثال «أرتو» و«كوكتو» و«بريخت» و«مايرخولد» الذي كان من أوائل الداعين إلى فكرة المسرح المفتوح في التخلي عن الوضعية التقليدية لبنية المسرح والإندماج الكامل مع انفعالات الجمهور، فيقول: 
((إن المسرح الشرطي، بعد أن يحطم الأضواء الأمامية، سينزل بخشبة المسرح إلى مستوى الصالة، وبعد أن يُبنى نطق وحركة الممثلين إيقاعياً، سيقرب إمكانية انبعاث الرقص، أما الكلمة فسيكون من السهل أن تتحول في هذا المسرح، إلى صرخة ملحنة وصمت مموسق)) (1).
وإن كان «مارتن إيسلن» يرجع تاريخ «الدراما الحركية» إلى المسرح اليوناني القديم اعتماداً على المعجم اللغوي لكلمة دراما» ففي اللغة اليونانية كلمة «دراما» تعني ببساطة حركة، الدراما حركة محاكية، حركة تقلد أو تمثل سلوكا إنسانياً والجانب الحاسم هو التركيز على «الحركة»(2).
ومما لاشك فيه أن هناك جذوراً شعبية للمسرح العربي اتسمت بفضائها المفتوح مثل الأراجوز وخيال الظل والحكواتي، وهي فنون كانت وليدة الواقع، حتى وإن كانت بعض هذه الفنون وفدت من حضارات أخرى مثل خيال الظل الذي يقول عنه د. عبد الحميد يونس في كتابه «خيال الظل»: أنه نبت في الشرق الأقصى، واتخذ الزي الفارسي، وواكب الحياة الإسلامية، وأسهمت الطبقات الوسطى في ثرائه، واستقر آخر الأمر في القاهرة، فأزدهر، ثم انتشر ونفذ إلى ربوع العالم الغربي، وليس يعني الباحث أن يحدد بالضبط الطريق أو الطرق التي سلكها في رحلته عبر الزمان وعبر المكان، حسبه أن يسجل حقيقيتين أثنتين: أولاهما، أن اليونان والرومان لم يعرفا خيال الظل في العالم القديم، وثانيتهما، أن هذا الفن لم يصبح له كيانه المستقل بمقوماته الخاصة في التأليف والأداء والتذوق إلا في العالم الإسلامي بصفة عامة، وفي الديار المصرية بصفة خاصة «وخيال الظل ـ لغويا ـ اصطلاح عربي شائع اتخذ معناه المستقل وانصهر في ضمير الشعب وحياته التعبيرية اليومية على حد تعبير د. حمادة إبراهيم (3)  وسمي أيضاً «طيف الخيال» وهو الاسم الذي اختاره «ابن دانيال» لتمثيلياته الظلية. 
وقد لعب «خيال الظل» دوراً ترفيهياً وتثقيفياً هاماً في القرون الوسطى، وهو فن شعبي أصيل، بمعنى أنه لم يكن مقتصراً على قصور الخلفاء أو الأمراء والأغنياء الذين كانوا يقيمون الحفلات الخاصة لمشاهدة فن «المخايلة»، بل كان فنانو هذا النوع الفني يطوفون به في الشوارع والمقاهي وحفلات الزواج والختان وغيرها من المناسبات الشعبية، وبالمثل تواجد هذا الفن في الريف والنجوع وفي المناطق البدوية، وربما أندثر هذا الفن التلقائي مع تقدم وتطور «الميديا» ودخول العالم إلى عصر الصناعة، والتكنولوجيا وهذا ما أشار إليه أحمد تيمور باشا في كتابه عن «خيال الظل» حيث يقول : 
«أخترع الإفرنج الصور المتحركة وكثرت أماكن عرضها في مصر فأكب الناس عليها وهجروا أماكن الخيال، فأبطلت وأقتصر على اللعب به في الأعراس على قلة، حتى قل المشتغلون به وكاد يدرس فيما درس من الأشياء القديمة». 
وإن كان «لندو» قد أشار في كتابه «دراسات في المسرح والسينما عند العرب» إلى أن هذا الفن لم يكن موجوداً في مصر، في بداية القرن العشرين، غير مسرح ظلي واحد، أضيف إليه مسرح ثان في عام 1903 م، وبعد ذلك بست سنوات «ودون أن يعمر طويلاً، أصدرت السلطات أمراً بإغلاق مسرح آخر كان قد أنشئ حديثا، وربما أتخذ هذا الإجراء بقصد منع انتشار الأمراض المعدية خلال فصل الصيف» (4) 
ويشير «لندو» ـ أيضا ـ إلى طبيعة العروض الظلية من كونها كانت تقدم «فوق منصة تقام في» مقر «لها خارج مقهى، أو في مسكن خاص، وفي مناسبات معينة بذاتها، كحفلات الزواج مثلا حيث تعلق قطعة من قماش رقيق شفاف «لينوه» ويتسلط عليها ضوء قوى من الخلف..ويتم تركيب الأشكال، في ألوان زاهية، ومن جلد شفاف، وإرتفاع يبلغ حوالي من ثلاثين إلى سبعين سنتميتراً ...ويحرك « المقدم « الأشكال المنسوخة من النماذج القديمة، عن طريق عصى تولج في ثقوب تصنع مسبقاً لذلك الغرض، في أطراف وصدور تلك الأشكال .. ونظراً لأن « المقدم « لا يستطيع وحده إلا فيما ندر، تحريك جميع هذه الأشكال بنفسه، فإنه يستأجر بعض المساعدين، الذين يكونون من تلاميذه أحيانا .. كما يساعد « المقدم « أربعة موسيقيين، أثنان منهم يدقان الدفوف، والثالث ينفخ بالمزمار، والرابع يدق الطبلة، والمسرحية أو « اللعب « play - gam  مقسمة إلى مناظر عديدة ( فصل/ فصول )، لا تربطها علاقة متبادلة، وتقدم في بعض الأحيان بمعزل عن الأخرى، و» النص « إما أن يغنى أو يلقى، وهو ما يحدث دائماً بصوت عال، إذ أن المتفرجين لا ينسون أبداً أنهم يجلسون في مقهى، وأنهم يسلكون ويتصرفون وفقاً لطبيعة المكان، ولذلك فإن « المقدم « يضطر إلى أن يدق بعصاه داعياً إلى السكوت غالبا» (5)  

خيال الظل
ويرى د. هناء عبد الفتاح أن «خيال الظل» ـ لغويا ـ اصطلاح عربي شائع، أتخذ معناه المستقل، وأنصهر في ضمير الشعب وحياته التعبيرية اليومية حتى اكتسب دلالة خاصة لا يمكن أن تحرمه إياها قسوة السلامة اللغوية الدقيقة، وتطالبه بالوضع العكسي، ليكتسب الصحة اللغوية الدقيقة، والمفهوم الطبيعي لمعطياته، وتجعله ظلاً للخيال، لأن المقصود من المخايلة هو الصورة اللفظية، التي يعكسها الخيال المادي أمام الضوء الخلفي، وقياساً على هذا سمى شمس الدين إبن دنيال تمثيلياته الظلية الثلاث اسم تمثليته الأولى ( طيف الخيال ) وبهذا نسب الظاهر إلى الباطن وجعل الأهمية للبقعة المنعكسة على الشاشة . 
ويؤكد د. هناء أن بعض المتصوفين المسلمين قد أشاروا إلى (مسرح الظل) ملقبين إياه بـ (ظل الخيال) أو (خيال الظل) أو (خيال النشار)، وقارنوا بين العالم وبين المشهد من وراء الظل، ليعبروا من خلاله عن العلاقة التي تربط البشر بالذات الإلهية (6) ومع قدوم « الدولة الفاطمية» إلى مصر والتي استنت مجموعة من الظواهر الاحتفالية ـ التي لم يزل تأثيرها حتى الآن ـ مثل الموالد والمواسم، وجد فنانو «خيال الظل» ـ في هذا الجو الاحتفالي  أرضاً براحاً، حيث كانت تقدم عروضه في الموالد والشوارع وقصور الخلفاء، واستمر هذا الطقس في الدولة الأيوبية، يدلنا على ذلك ما ذكره «بولا كالا» مدير المعهد الشرقي بجامعة بون والذي اهتم ـ كثيرا بفن المخايلة من أن «صلاح الدين الأيوبي» قد حضر عرضاً لـ «خيال الظل» مع وزيره القاضي الفاضل وذلك في عام 567 هجرية ـ 1171 ميلادية، وهذا ما أورده ـ أيضاً «ابن حجة» في «ثمرات الأوراث» حيث قال: 
((أخرج صلاح الدين الأيوبي من قصور الفاطميين من يمارس تقديم «خيال الظل» ليقدمه أمامه وأمام القاضي الفاضل، فقام عند الشروع فيه بالاستئذان، وذلك خوفاً من رفض القاضي له، فقال له السلطان صلاح الدين: إن كان حراماً فما تحضره، وكان القاضي الفاضل حديث عهد بخدمة السلطان قبل أن يلي السلطنة، فما أراد أن يكدر عليه، فقعد إلى آخره (أي إلى آخر عرض خيال الظل، فلما انقضى قال له السلطان: كيف رأيت ذلك، فقال القاضي الفاضل: رأيت موعظة عظيمة، رأيت دولاً تمضي ودولاً تأتي ! )) . 
ويؤكد د. هناء عبد الفتاح، أن المخايلة قد لعبت ـ أيضاً ـ دوراً سياسياً ودينيا بتمثيلياتها العربية في المجالات الجماعية لترويج الدعوة الفاطمية مثلما كانت تلعب أجهزة الدعاية الأخرى التي استحسن استغلالها بالبذل والعطاء. 

الهوامش : 
(1) فسيفولد مايرخولد «في الفن المسرحي«، ترجمة شريف شاكر،  دار الفارابي، بيروت 1979 ص85، 86 . 
(2) مارتن إتيسلن: «تشريح الدراما«، ترجمة أسامة منزلجي، دار  الشروق عمان، الأردن 1917، ص 15 . 
(3) د. حمادة إبراهيم «خيال الظل« الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ  مكتبة الدراسات الشعبية 1998 . 
(4) لندو : دراسات في المسرح والسينما عند العرب . 
(5) المرجع السابق . 
(6) د. هناء عبد الفتاح: دور التظاهرات شبه المسرحية في تشكيل  بدايات المسرح العربي . 


عيد عبد الحليم