صلاح عبدالصبور.. الوجه الآخر للفارس القديم

صلاح عبدالصبور..   الوجه الآخر للفارس القديم

العدد 779 صدر بتاريخ 1أغسطس2022

يقول عبدالصبور عن نفسه في كتابه “حياتي في الشعر”: “كنت إنسانا جادا، لا أستطيع أن آخذ مسائل الضمير مأخذا هينا، فقد يهون علي كل ما في الحياة، وتبقى غصة في قلبي هي ما يتصل بالفن والفكر، فإني أحمل حجرها الثقيل في ضميري حتى أحقق بينها وبين نفسي قدرا من الانسجام”.
ويقول –أيضا- “يصفني بعض النقاد بأنني شاعر حزين ، وأقول لهم لست شاعرا حزينا لكنني شاعر متألم”.
لم تكن كتابة صلاح عبد الصبور منفصلة عن ذاته بل مرتبطة كل الارتباط بشخصيته، لذلك ظل تأثيره على الأجيال التالية له واضحا، رغم اختلاف المدارس والاتجاهات الشعرية، ورغم دخول البعض في معارك ضده كما حدث مع شعراء جيل السبعينيات، إلا أنهم رغم اختلافهم معه كانوا يقدرون تجربته الشعرية، بل ولا ينكرون في بعض المواقف تأثرهم به. ووقوفه بجوارهم مساندا لهم إنسانيا وإبداعيا.
وقد حكى لي صديقي وزميلي الشاعر الراحل “حلمي سالم” كثيرا من المواقف التي تدل على حبه لصلاح عبد الصبور ومدى مساندته له ولكثير من أبناء جيله.
وقد كتب “حلمي” ذلك في شهادة له عن تجربته الشعرية ونشرت في كتاب “الشاعر والتجربة” عام 2003 يقول فيها:
“كانت أحلام الفارس القديم لصلاح عبد الصبور عنصرا أساسيا من عناصر عقيدتي الشعرية والفكرية لفترة طويلة من سنوات البدء. وقد حققت عندي هذه المكانة العالية بسبب ما تحمله من إحباط وألأم وما تحفل به من فجيعة فقد الحب من جراء الزمن الطافح “بالتخليط والقمامة”.
كانت صورة الشاعر الحزين المهموم المغدور هي الصورة المثلى للشاعر عندي في ذلك الوقت، الذي صادفت فيه القصيدة، حتى أنني كنت أطن أإن بايرون وشيللي وبودلير هم أناس حزانى يلبسون ملابس سوداء حول رقابهم كوفية رمادية دكناء.
في سهراتنا الشعرية أو الاجتماعية كنت أنشد “أحلام الفارس القديم” كلها بترتيل شبه ديني، لأنها  كانت بمثابة الأقنوم أو الطقس، وكلما حل يوم ميلادي كنت لا أجد سوى مرثية الذات في أبيات عبد الصبور، أرددها لنفسي:
قد كنت فيما فات من أيام
يا فتنتي

محاربا صلبا وفارسا همام
من قبل أنم تدوس في فؤادي الأقدام
لكي تذل كبريائي الرفيع.
وأضاف حلمي سالم: “وحدث أن مشينا أنا و “علي قنديل” و”رفعت سلام” – ذات منتصف ليلة من ليالي شتاء 1972، حتى وصلنا إلى شارع دجلة بالمهندسين حيث يسكن عبد الصبور(وكنا قد تعرفنا على الرجل قبل عام، عن طريق الشاعر حسن توفيق)،، ووقفنا تحت شرفته نردد في نفس واحد بصوت عال، يشرخ هدوء المهندسين:
صافية أراك يا حبيتي كأنما كبرت خارج الزمن
وحينما التقينا يا حبيبتي
أيقنت أننا مفترقان
لو لم يعدني حبك الرقيق للطهارة
فنعرف الحب كغصني شجرة
كنجمتين جارتين
مثل جناحي نورس رقيق.
وأطل علينا صلاح عبد الصبور من الشرفة مدهوشا، وأشار لنا أن نصمت و أن نصعد، بينما نحن نواصل الإنشاد من غير أن نرد عليه أو أن نجيبه، وحينما انتهينا انصرفنا، تاركين هدوء المهندسين مبددا.
ظلت هذه القصيدة داخلي حتى بزغت إشارة لها – عن طريق المناقضة – في قصيدة لي بعنوان “فضة من أجل فيينا وقبران”، حين ظننت أنني تجاوزت الرومانسية التي جسدها الرواد، فقلت:
هل عاد لائقا لمثلي أن يقول:
صافية أراك يا حبيبتي كأنما كبرت خارج الزمن؟
الينايريون قادمون
تحت عانة الجنية الحرون.
..
الداعم للمواهب
وكان صلاح عبد الصبور يحتفي بالتجارب الشعرية الجدية ويعمل على تقديمها، فقد كان حريصا على رعاية المواهب الشابة – في ذلك الوقت – ومنها تجربة الشاعر محمد سليمان، والذي تأثر بتجربة عبد الصبور قبل أن يراه، وحين كتب “سليمان” مجموعة من القصائد الأولى في بداية السبعينيات ووصلت إلى عبد الصبور احتفى بها كثيرا،، وعن ذلك يقول “سليمان”:
في أوائل السبعينيات أغلقت المجلات وصارت ندوات المقاهي وقصور الثقافة والجمعية الأدبية المصرية بديلا عن النشر وعن طريق الصديق حمدي الكنيسي وصلت كراسة تضم ثلاثين قصيدة لي نصفها عمودي ونصفها الآخر قصائد تفعيلية إلى صلاح عبد الصبور الذي قرأها واعتبرها ديوانا متميزا ناقشه وقدمني به في برنامج أقلام جديدة عام 1971.

يقول الشاعر اللبناني عبده وازن: لم يكتب شاعر عن “الأنا” المسحوقة مثلما كتب صلاح عبد الصبور عن “أناه” المستحيلة “ذاتا” متألمة ومعذبة في عالم هو بقايا عالم، وفي حياة هي أشبه ب”قاع البئر المعتم”. هنا تكمن إحدى خصال هذا الشاعر، بل ربما أحد ملامح شعريته الفذة.
لا أدري لماذا يبدو صلاح عبد الصبور شاعر المستقبل لا الماضي، شاعر اتلأجيال التي تتوالى لا الأجيال التي عبرت. كأن في شعره جوهرا مفقودا ينبغي البحث عنه دوما. ولعله الجوهر الذي يصنع سر الفعل الشعري، سر الإبداع والإلهام في قصائده.
يحفل شعر صلاح عبد الصبور بما لا يحصى من موضوعات وقضايا تختلف وتأتلف، تتناغم وتتناقض. فهو شاعر الوجود مثلما هو شاعر الحياة، شاعر العدم مثلما هو شاعر العالم، شاعر الهموم الماورائية والهموم اليومية، شاعر الحزن والليل، شاعر العزلة والتأمل، شاعر الحب واليأس والسأم.... أما الشعر لديه فهو كما يصفه “صوت إنسان يتكلم”. وعندما يكون الشعر صوت الإنسان المتكلم يصيح قادرا على أن يستوعب ما لم يستطع أن يستوعبه سابقا.
ولعل سر شعرية صلاح عبد الصبور تلك  الآلام اليومية، من غير أن يفقدها أبدا سحرها السري وكثافتها الوجدانية وعمقها الوجودي.
حيث تكمن في قدرته على “شعرنة” الحياة في تفاصيلها الصغيرة وأشيائها النافلة وأمورها الصغيرة. سره أنه أنزل القصيدة إلى مرتبة الكلام اليومي.

المشجع دائما
أما الكاتب المسرحي والروائي السيد حافظ فيقول صلاح عبد الصبور
هو الاسم الذي عندما أتذكره أنحنى أمامه ويشدني الحنين لذكريات كانت بيني وبينه فهذا الرجل العظيم والشاعر العظيم والإنسان العظيم قد أسرني بحسن خلقه ومواقفه فعندما أغلقت مجلة الكاتب برئاسة أحمد عباس صالح كنت انتمى إلى مجموعة اليساريين وجمعنا بعضاً من الأموال حتى تكون الطباعة خاصة فذهبت إلى أحمد عباس صالح في القاهرة وقابلته وأعطيته المبلغ المتواضع الذي جمعته في جامعة القاهرة على ما أتذكر كان أربعة جنيهات ونصف فابتسم وقال لي شكرًا فكتبت مقالاً وأعطيته له ولكنه للأسف لم ينشر وكان آخر عدد لمجلة الكاتب.
تولى الكاتب العظيم الذي أدخل الشعر في المسرح العربي بشكل رائع صلاح عبد الصبور الفضل يرجع له في دخول الدراما من الشعر في المسرح وكان أفضل مما سبقوه أو عاصروه فأقول هذا من موقعي كمخرج ورجل يفهم في الدراما المسرحية فعندما تولى هذا المنصب جاءني الأستاذ علي شلش وقال لي صلاح عبد الصبور تولي رئاسة تحرير مجلة الكاتب ويريدك أن تكتب معنا ففرحت بهذا الخبر إن الرجل يعرفني فكتبت أول قصة قصيرة لي تسمى الأمل وفوجئت بأنها قد نشرت في العدد الأول بمجلة الكاتب وكان اسمي بجوار نعمان عاشور ونجيب سرور وفتحي العشري ونزلت الإعلانات في كافة الصحف برئاسة تحرير صلاح عبد الصبور .
أنا لا أشك لحظة أن صلاح عبد الصبور لم يكن يساريا هو رجل يساري ودائماً وفى شعره وفى أدبه وفى مقالاته ولذلك لا أعرف غضب اليسار عندما تولى رئاسة مجلة الكاتب وظللت معه إلى أن بعد شهر أو شهرية جاءني الأستاذ على شلش إلى الإسكندرية حيث كنت أقيم في ذلك الوقت وأعطاني مبلغ عشرة جنيهات قلت له ما هذا قال لى الأستاذ صلاح قال أعطوا السيد حافظ عشرة جنيهات على القصة لأنه يبشر بالكثير وكان هذا أكثر من المألوف فقد كانت المقالات تساوى ستة جنيهات على الموضوع فهو الوحيد الذي قدرني طوال 60 عاماً اكتب فيها أعطاني ضعف ما يأخذه الكتاب الآخرين فسعدت جداً بهذا التقدير وظللت معه إلى أن صدرت له مسرحية مسافر ليل وعندما صدرت في مجلة المسرح كنت أول من يخرجها على المسرح وقد حاولت أن أخرجها من مجموعة من الشباب كبار السن في العشرينات أو الثلاثينيات فلم أفلح في ذلك فقررت أن أقدمها للأطفال واخترت مجموعة من الأطفال ما بين سن 8 سنوات إلى 12 سنة وكان أقلهم سناً طفل 6 سنوات فقط كان أخي الدكتور عادل حافظ رحمه الله فاخترت الصديق الأستاذ حمدي رؤوف الذي قام بعمل الألحان لهذه المسرحية وقسمت الأدوار على أن يكون لكل دور عشرة شخصيات الكمسرى والراكب وعشرى السترة وكان حوالي ثلاثين أو أربعين طفلاً على المسرح وأثارت ضجة.
كتب لي رسالة وكان وقتها مسافراً إلى الهند في بعثة ثقافية واعتذر لي عن عدم الحضور .
صلاح عبد الصبور قيمة مسرحية كبرى وقيمة أدبية كبرى ومواقفه كثيرة أما الخلافات التي تمت بين وبين آخرين في منزل الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازي فأنا اعتبرها مراهقة اليسار أحياناً أو أخطاء اليسار أحياناً أخرى ، فالكل يخطئ فلا يوجد أحد منزه عن الخطأ 
صلاح عبد الصبور يستحق دراسات كثيرة يستحق أن تقدم أعماله على المسارح يستحق أن تلحق أشعاره فهو قيمة لمصر والوطن العربي وكان يستحق أمير الشعراء فقد قامت الدنيا عليه ولم تقعد عندما فكروا أن يجعلوه أميراً للشعراء وللأسف كانت الحرب الضروس من داخل مصر وليس الشعراء العرب الذين كانوا موافقين أما الشعراء بمصر تنابذوا وتغامزوا بشكل يسيء إليهم كعادتهم دائماً.
سلاماً على روح الشاعر صلاح عبد الصبور، سلاماً على جمال ما كتب صلاح عبد الصبور.

مواقف إنسانية
ويقول الشاعر محمد الشحات قد يكون من حسن حظ شاعر شاب أن يلتقي بقيمة شعرية كبيرة مثل الشاعر الكبير الرائد صلاح عبد الصبور .. كنت قد أصدرت ديوانين الدوران حول الرأس الفارغ عن دار الحرية للنشر والتوزيع عام 1974، وآخر ما تحويه الذاكرة عن دار العربي عام 1979 ، وبدأت فى النشر في المجلات المصرية والعربية ، بعيد عن الجماعات التي تشكلت في تلك الفترة  ، وقررت ومعي الكثيرون فى شق طريقنا بأيدينا ،والتقيت بالشاعر الكبير مرات عديدة ، وكان في كل مرة كان يشد من أزرى ويشيد بما أكتبه وما يقع تحت عينيه ، ويحثني على مواصلة الطريق الذي اخترته لنفسي .
 وكنت أجمع ديواني الثالث عندما تدخلين دمى  حيث انتهيت منه مطلع عام 1982 ، وقتها كنت أعيش فى غرفة بمنطقة السيدة زينب وأتردد بشكل أسبوعي على دار الهلال بشارع المبتديان لزيارة الصحفي والروائي الكبير والصديق  يوسف القعيد بمجلة المصورة ، وكنت احرص أسبوعيا على اللقاء به ، وقتها تعرض المنزل الذي أعيش فيه بمنطقة السيدة زينب للهدد ، وأوشكت على المبيت في الشارع والتشرد، فإذا بالكاتب الكبير يوسف القعيد يأخذني من يدي ومعي مخطوط لديواني الجديد ويتجه بي لمكتب الشاعر الكبير بهيئة الكتاب على الكورنيش ، بكلمات قليلة حكى القعيد ما أتعرض له وتهديدي بالحياة فى الشارع ، وقدم له مخطوط الديوان، حيث قرر الشاعر الكبير وعلى الفور بعمل عقد نشر ولم أتخيل  حين حدد مكافأتي والتي بلغت 500 جنية ، كان ذلك يعد عام 1982 مبلغا كبيرا جدا، وكان ديواني رقم واحد فى سلسلة الإبداع العربي، وأوصى مكتبه بالإسراع فى إنهاء الإجراءات وتسلمت المكافأة خلال يومين، حيث بحثت على مكان إقامة وحصلت عليه بمنطقة عابدين غرفة فوق سطوح أحد البيوت بمنافعها .
لقد أنقذني الشاعر الكبير بإنسانيته من التشرد، فمن أين لي بمبلغ ادفعه كمقدم أو خلو رجل لغرفة كانت يومها تتراوح ما بين 150 ومائتي جنيه ، تركت تلك اللفتة الإنسانية بداخلي تقديرا واحتراما كبيرا لتلك القيمة الشعرية ، فمع عشقي الشديد لشعره وما يرتكز عليه من بعد إنساني ، وعرفت بعد ذلك الكثير من المواقف الإنسانية للشاعر الكبير مع غيري فلم يكن يدق أحدا باب مكتبه يطلب منه العون والمساعدة الإنسانية إلا وأسرع بالتلبية، كانت إنسانية صلاح عبد الصبور فى شعره متحققة على أرض الواقع ، حانيا عطوفا مبتسما في وجه كل من يلتقي به ، لقد ترك ذلك الموقف بداخلي الكثير من المحبة الإنسانية لذلك الشاعر الكبير ، وتأكد لى بأن كل حرف يكتبه عن الإنسان  هو صادق وأمين فيه ، وأنه يطبق ذلك وبشكل كبير على أرض الواقع.   


عيد عبد الحليم